عرفت مصر النوادى العامة منذ مجىء الإنجليز واحتلالهم لمصر المحروسة. وكان الإنجليز يحرصون على أن تكون هذه النوادى خاصة لمجتمع الإنجليز وأصدقائهم من الباشوات والعائلات التركية الحاكمة. وقبل مجىء الإنجليز عرفت مصر المقهى الذى كان له دور فى الحركة الوطنية. أشهر المقاهى قهوة الفيشاوى فى حى الحسين، وهو المقهى الذى جلس فيه جمال الدين الأفغانى يوزع السعوط بيمينه، والثورة بيساره، فهناك كان يجتمع الأفغانى والشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول، وعبدالله النديم ويعقوب صنوع وغيرهم من تلاميذ الأزهر الشريف والأدباء والكتاب والزجالين يحتسون الشاى الأخضر ويدخنون النارجيلة ويتحدثون فى شئون البلاد، وأفعال الإنجليز ومن يواليهم من الطامعين فى تولى المناصب. ومن المقاهى الشهيرة فى مصر كانت قهوة المعداوى فى الدقى، حيث يجلس الناقد المعروف حينذاك أنور المعداوى وحوله المبتدئون من الشعراء وكتاب القصة أو الرواية. وأيضا مقهى متاتيا فى ميدان العتبة الخضراء، حيث جلس الكثير من الثوار يلتقون بالأفغانى. ومقاهى الجيزة أيضا كان لها دور كبير فى تخريج العديد من الأدباء والصحفيين أمثال د. سمير سرحان وبهاء طاهر والكاتب الصحفى الكبير محمود السعدنى - شفاه الله وعافاه. ثم كان هناك مقهى المعاشات المطل على ميدان لاظوغلى والقريب من وزارة المالية. والمقهى الشهير القريب من عمارة الإيموبيليا، وأعتقد كان اسمه ريكس أو شىء آخر لا أذكره، وكان يجلس إليه كاتبنا الكبير توفيق الحكيم يتأمل المارة. أما نجيب محفوظ صاحب نوبل والثلاثية، فكان يجلس فى عديد من المقاهى ويقيم فى بعضها الندوات، جلس فى مقهى الفيشاوى ثم انتقل إلى مقهى مرتفع فى ميدان الأوبرا الذى يطل على تمثال إبراهيم باشا، وحيث كانت دار الأوبرا المصرية التى بناها الخديو إسماعيل، ثم احترقت عام 0791 أو 1791 تقريبا، واليوم أقيم مكانها جراج كئيب تابع لمحافظة القاهرة! وأستطيع أن أعدد لك الكثير من المقاهى التى ظهرزت مع الحملة الفرنسية وازدهرت فى أرجاء القاهرة حتى أصبحت جزءا من معالمها التاريخية. وليس هناك أروع من مقهى ريش الذى نشأ عام 8091، واحتفل العام الماضى بمرور مائة عام على إنشائه ويعود الحفاظ على هذا المقهى التاريخى إلى الأستاذ مجدى ملاك وأخيه، اللذين حرصا على تأريخ هذا المكان المرموق فى وسط القاهرة، الذى يؤمه حتى اليوم الكثير من كبار الفنانين والكتاب والعلماء والصحفيين. ويحرص صاحب المقهى صباح كل يوم جمعة على تقديم إفطار مجانى للأصدقاء من رواد المقهى فى الحادية عشرة وحتى موعد صلاة الجمعة. كان من أهم رواد هذا المقهى فى النصف الأول من القرن العشرين معظم الثوار من جميع البلدان العربية، والذين كثر عددهم بعد قيام ثورة يوليو، ولو ذكرت لكم الشخصيات الثورية والأدباء والشعراء العرب والفنانين الذين جلسوا إلى هذا المقهى لاحتجت إلى مجلدات كثيرة. وأقام نجيب محفوظ ندواته الأسبوعية مع كتاب القصة والشعراء فى الستينيات.. وظل يجلس إليه إلى أن بدأ الأستاذ مجدى ملاك فى ترميمه وتجديده وخوض المعارك القانونية للحفاظ على شكله التاريخى حتى استطاع إعادته إلى رونقه الحالى الذى كان عليه يوم إنشائه عام 8091 على الطراز الفرنسى للمقاهى الشهيرة. استطردت فى الكتابة عن النوادى والمقاهى فى مصر، لأنها فى الآونة الأخيرة تطورت إلى الشكل الرأسمالى الجشع الذى طرد أبناء الشعب من ارتياد هذه المقاهى أو الجلوس فيها. النوادى التى بدأها الإنجليز وبعد رحيل الاستعمار وفتحها لجميع أبناء الشعب، بدأت تتخذ من اللوائح والإجراءات ما جعل أبناء الشعب أو حتى أبناء الطبقة المتوسطة لا يقدرون على الانتماء لعضويتها. نادى الجزيرة مثلا بعد أن كان عشرين جنيها حتى السبعينيات ارتفع إلى الآلاف ومئات الآلاف وأحيانا بالدولار للأجانب! نادى الصيد بعد أن كان أيضا لا يتجاوز العشرين جنيها بدأ يصعد إلى المائة ألف، وهناك شروط أخرى تتصل بالمؤهل والوظيفة، فمثلا الحاصل على دبلوم تجارة يدفع ضعف الاشتراك، وهكذا. ولست أدرى بأى منطق تفكر مجالس إدارات هذه النوادى؟! المهم أصبح لا يوجد مكان للفقراء، أو أبناء الطبقة المتوسطة الذين يشغلون مناصب صغيرة أو يعيشون فى مستوى مادى لا يتجاوز الألف أو الألفين من الجنيهات شهريا، هؤلاء أصبح لا مكان لهم فى نوادى الأغنياء. وبدأت منذ التسعينيات أنواع جديدة من النوادى تسمى نوادى الجولف، حيث ترتفع قيمة العضوية إلى ما يزيد على الخمسين ألف جنيه، والجديد فى تلك النوادى الاستثمارية التى بدأت فى المعادى باسم دجلة، وبدأت تنتشر فى شتى ربوع مصر المحروسة، وأصبح الاشتراك فيها بآلاف الجنيهات وبالتقسيط المريح، وهناك من يقوم بالترويج والتسويق لها عن طريق الموبايل. وهكذا طردت ثورة يوليو الإنجليز من مصر وبالتالى من نوادى الإنجليز، وحل مكان الإنجليز المصريون الذين يطاردون الفقراء فى كل مكان ولا يريدون لهم أن ينعموا بما ينعم به الأغنياء. وهنا يبرز الدور الحضارى والاجتماعى المهم الذى اهتمت به السيدة الفاضلة سوزان مبارك حرم السيد رئيس الجمهورية. فمن خلال اهتمامها بتلاميذ المدارس الابتدائية فى الأحياء الشعبية مثل بولاق والسيدة زينب وعين شمس وقيامها بالدراسات الاجتماعية عن أسر التلاميذ فى أحياء بولاق والسيدة زينب وعين شمس، أدركت السيدة سوزان مبارك أن أسر أبناء الأحياء الشعبية ليس لديهم متنفس فى الهواء الطلق يذهبون إليه فى أيام العطلات الرسمية والمواسم والأعياد، وخاصة فى شهور الصيف، حيث تتوقف المدارس عن استقبال التلاميذ. كانت تجربة الرعاية المتكاملة لتلاميذ المدارس الابتدائية هى المنافذ التى أطلت منها السيدة الفاضلة سوزان مبارك على أبناء الأحياء الشعبية. وأظهرت لها الدراسات الاجتماعية أن نوعية الحياة التى يحياها أبناء الشعب فى الأحياء الشعبية متدنية، وأصبح من الضرورى التفكير فى النهوض بجودة الحياة فى الأحياء الشعبية، وتحسين البيئة التى يعيش فيها الفرد من أبناء الأحياء الشعبية. وقالت السيدة سوزان مبارك : إن النهوض بالبيئة وتحسين نوعية الحياة للإنسان المصرى يستلزم وجود مساحات خضراء بدلا من العمارات الأسمنتية التى كادت تخنق القاهرة وسكانها. وتجولت السيدة الفاضلة سوزان مبارك فى أحياء القاهرة الشعبية، فوجدت فى منطقة غمرة وبجوار السكك الحديدية منطقة عشوائية مليئة بالأوكار وبائعى المخدرات! واتصلت بمحافظ القاهرة السيد يوسف صبرى أبوطالب من أبطال حرب أكتوبر، وكان يشغل منصب محافظ القاهرة، وطلبت منه تكليف الحى بتنظيف المنطقة وإنشاء حديقة خضراء تتنفس منها القاهرة وتنقى الجو المحيط من أبخرة السكك الحديدية، وفعلا أقيمت هناك حديقة خضراء تجدها على يسارك بعد أن تعبر نفق العباسية وأنت قادم من مصر الجديدة، وقبل أن تصل إلى كوبرى السادس من أكتوبر. وأيضا كان هناك سبعة آلاف متر فى أول طريق صلاح سالم بالقرب من مدينة الفسطاط، وهى من أملاك الحكومة وتقوم المحافظة بإلقاء مخلفات القاهرة الزبالة فيها. طلبت السيدة الفاضلة سوزان مبارك من السيد يوسف صبرى أبوطالب نقل مقلب الزبالة إلى منطقة أخرى وإعداد هذه المنطقة التى تمثل ما يقرب من مساحة فدانين إلى حديقة خضراء يرتادها أبناء الأحياء الشعبية بقروش قليلة. وفعلا قام السيد يوسف صبرى أبوطالب بإعداد المكان ليكون حديقة خضراء. وتولى يوسف صبرى أبوطالب قيادة الجيش المصرى كوزير للحربية، وعُين للقاهرة محافظ جديد هو الدكتور محمود الشريف الذى استمر فى تنظيف وإعداد حديقة الفسطاط. كانت روزاليوسف تسعى عندما كنت مسئولا إداريا فى زمن الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى إلى شراء هذه المساحة لإقامة مطابع روزاليوسف عليها بعيدا عن الكتلة السكانية فى شارع قصر العينى، وكان ذلك فى عهد الفريق سعد مأمون محافظ القاهرة آنذاك. ولكننى عندما علمت برغبة السيدة الفاضلة فى تحويلها إلى حديقة توقفت عن محاولات شرائها من المحافظة، ولكن زميلى الأستاذ محمد مصطفى سعد الذى تولى إدارة روزاليوسف بعد الحاجة سعاد رضا فى عهد الأستاذ محمود التهامى، سارع بالاتصال بالمحافظ عمر عبدالآخر الذى تولى المحافظة بعد الدكتور محمود الشريف وحجز موقعا فى مدخل حديقة الفسطاط، ليقيم عليه مكتبة روزاليوسف لتسهم فى مشروع القراءة للجميع وتقديم الخدمة الثقافية لرواد الحديقة. وعندما شاهد المحافظ عمر عبدالآخر مكتبة روزاليوسف فى حديقة الفسطاط، طلب من الأستاذ محمد مصطفى سعد إعدادها بشكل يليق بحضور السيدة الفاضلة سوزان مبارك، لافتتاح مكتبة روزاليوسف فى حديقة الفسطاط. وبذلك كانت روزاليوسف هى أول مؤسسة صحفية تسهم بإقامة مكتبة فى مشروع القراءة للجميع. وفعلا افتتحت السيدة سوزان مبارك المكتبة فى وجود المحافظ عمر عبدالآخر، والأستاذ محمد مصطفى سعد، ولم يحضر الأستاذ محمود التهامى رئيس مجلس الإدارة لوجوده فى أمريكا للعلاج، ولكن حضر الاحتفال الأستاذ عادل حمودة نائب رئيس تحرير روزاليوسف فى ذلك الزمان، وكاتب هذه السطور. وبدأت أتردد على مكتبة روزاليوسف لأن الأستاذ محمد مصطفى سعد طلب منى التواجد فى المواسم والأعياد للقاء المترددين على المكتبة والإجابة عن استفساراتهم عن الكتب والتعرف على احتياجاتهم الثقافية. وتغيرت الإدارة فى روزاليوسف وتوقف هذا النشاط الثقافى. ولكننى مازلت أتردد على حديقة الفسطاط وعلى حديقة غمرة وبعض الحدائق الأخرى التى اهتمت بإنشائها السيدة الفاضلة سوزان مبارك، واكتشفت أن هذه الحدائق أصبحت نوادى الفقراء فى مصر. فبينما يذهب الأغنياء إلى نوادى الصيد والجزيرة ودجلة ونوادى الجولف، حيث يدفعون آلاف الجنيهات للعضوية، ومئات الجنيهات لإقامة الحفلات والعشاء فى تلك النوادى الفاخرة، يذهب الفقراء وأبناء الأحياء الشعبية إلى نوادى الفقراء التى أنشأتها لهم السيدة الفاضلة سوزان مبارك فى الفسطاط وفى غمرة وفى السادس من أكتوبر وفى حلوان والحدائق الدولية وحديقة دار العلوم فى المنيرة، والتى أطالب دائما بإطلاق اسم الكاتب الصحفى والمفكر السياسى أحمد بهاء الدين على هذه الحديقة لأنه صاحب فكرة إنشائها. وأعتقد أن الذى قرأ ما كتبه أحمد بهاء الدين هو السيدة سوزان مبارك وأنها هى التى أوعزت إلى محافظ القاهرة بعدم بيعها كأراض، وإنشاء حديقة، وهى حديقة مهمة جدا. وحاولت روزاليوسف إنشاء مكتبة أخرى بها، ولكن المحافظة رفضت، ومازلت ألح على ضرورة ذكر اسم الكاتب الصحفى والمفكر أحمد بهاء الدين ونشر الحملة التى كتبها فى عموده اليومى بالأهرام بعنوان يوميات عن ضرورة إنشاء هذه الحديقة ليتسنى للأجيال الجديدة معرفة سبب إنشاء هذه الحديقة. أكتب هذه السطور بعد زيارة لحديقة دار العلوم التى يدخلها يوميا العديد من الأسر الشعبية من أحياء المنيرة والسيدة زينب، وأيضا من حديقة الفسطاط التى يؤمها يوميا العديد من أبناء الأحياء الشعبية ويصل دخلها فى المواسم والأعياد إلى ما يقرب من عشرين ألف جنيه يوميا. الدخول إلى حديقة الفسطاط بخمسين قرشا فقط. مرحبا بنوادى الفقراء وشكرا لصاحبة فكرة إنشاء نوادى الفقراء التى ضربت عصفورين بحجر واحد، فقدمت للقاهرة متنفسا من المساحات الخضراء وللفقراء ناديا يذهبون إليه بعد أن تعذر عليهم ارتياد نوادى الأغنياء!؟