عجيب أمر ما يحدث فى مصر الآن.. ففى الوقت الذى تسقط فيه هيبة الدولة وتنهار يوما بعد يوم وذلك جراء الأحداث المتلاحقة والمتعاقبة فى كل أنحاء البلاد بدءا من أزمة مصنع «أجريوم» وقطع الأهالى للطريق السريع مع تعطيل العمل بالميناء.. ومرورا بحوادث الاختطاف المستمرة والمصادمات والاشتباكات بين العائلات وقطع الطرق الدولية والسريعة وآخرها ما حدث فى كفر الشيخ ونهاية بحادث أسوان وقيام بعض أهالى النوبة بمحاولة اقتحام مديرية أمن أسوان وإحراق نادى ضباط الشرطة. كل هذه الأحداث تهدد بحروب أهلية ومصادمات عنيفة تتصاعد حدتها مع قرب موعد إجراء انتخابات البرلمان مع وجود العصبيات والقبليات التى تؤثر على العملية الانتخابية ذاتها وفى النهاية تنذر بعواقب وخيمة تمزق أوصال الدولة. فى خضم هذه الأحداث الكثيفة والكئيبة والقاتمة بل الشديدة السواد.. نجد أن القوى السياسية الليبرالية والدينية غير مكترثة وغير مهتمة بما آلت إليه البلاد من دمار وخراب وانهيار للأمن والأمان والاستقرار وتفرغت فقط للتنديد بوثيقة السلمى من ناحية.. وعزل فلول ورموز الحزب الوطنى من الانتخابات البرلمانية القادمة عن طريق القضاء من ناحية أخرى.. لأن كل ما يشغلهم هو ما سيحصلون عليه من مقاعد فى البرلمان وتواجد على الساحة السياسية فى الفترة القادمة ويستطيعون من خلال ذلك السيطرة على مقدرات الأمور سواء بانتخاب اللجنة التأسيسية لوضع الدستور.. أو التدخل وفرض الوصاية لوضع الدستور الجديد على هواهم ووفق اتجاهاتهم سواء كانت ليبرالية أو دينية. كل ما يحدث فى البلاد لا يشكل لهم أى قلق أو تهتز له طرفة عين طالما ما يحدث بعيدا عن المكاسب التى يتطلعون لها رغم أن البرلمان القادم هو برلمان منزوع الصلاحية.. لا يسمن ولا يغنى من جوع وهو برلمان مؤقت لن يدوم أكثر من عام سواء رضوا جميعا أو لم يرضوا لأنه بمجرد وضع الدستور الجديد ووافق عليه الشعب ستتعارض شرعية هذا المجلس مع الشرعية الدستورية الجديدة التى تم إقرارها بواسطة الشعب.. وبالتالى سيسقط هذا المجلس وهذا البرلمان غير مأسوف عليه. وهو ما يعيدنا إلى نقطة الصفر التى طالما نادينا بها.. وهى الدستور قبل الانتخابات.. «فالدستور أولا» كان سيحل كل هذه المشاكل لأننا قلنا من قبل إن الذى يخلق مؤسسات الدولة هو الدستور.. وليس العكس.. المؤسسة لا تخلق دستورا.. ملحوظة: هذا بالطبع إذا تمت الانتخابات دون أى مشاكل.. وأشك أنها ستتم للنهاية. لذا فإن محاولات التصعيد المستمرة من القوى السياسية المختلفة فى مصر.. والمسماة بالتحالف الديمقراطى ضد وثيقة السلمى وإنذار المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكذلك الحكومة بسحب وثيقة السلمى قبل الأربعاء 16 نوفمبر وإلا النزول فى مليونية 18 نوفمبر هي محاولة من هذه القوى للحصول على مكاسب سياسية تعرقل الوثيقة الحصول عليها. إن القوى السياسية خاصة الدينية منها لا تريد لأى وثيقة سواء كانت وثيقة السلمى أو وثيقة التحالف أو الأزهر أن تكون ملزمة لها.. ولذا اتخذت هذا الموقف المعادى للوثيقة لأنها تعوق أحلامهم بالاستحواذ على تشكيل البرلمان ووضع الدستور القادم.. لذا فإن اعتراضاتهم قائمة ومنصبة أساسا على سلطات وصلاحيات المجلس العسكرى فى البند التاسع وكذلك على معايير تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد للبلاد والتى حددت الوثيقة فى البند الثانى أنه إذا تضمن مشروع الدستور نصا أو أكثر يتعارض مع المقومات الأساسية للدولة والمجتمع المصرى والحقوق والحريات العامة يطلب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بما له من سلطات رئيس الجمهورية فى المرحلة الانتقالية من الجمعية التأسيسية إعادة النظر فى هذه النصوص خلال مدة أقصاها خمسة عشر يوما فإذا لم توافق عليها كان للمجلس أن يعرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا على أن تصدر المحكمة قرارها فى شأنه خلال سبعة أيام.. ويكون القرار الصادر من المحكمة الدستورية العليا ملزما للجميع وبالطبع فإن هذا النص لا يعجب التيار الدينى على الأخص لأنهم فى النهاية يريدون أن يعودوا بنا للماضى ويكون مجلس الشعب هو سيد قراره بالضبط كما فى أيام فتحى سرور. أيضا البند الثالث فى معايير تشكيل الجمعية التأسيسية أنه إذا لم تنته الجمعية التأسيسية من إعداد مشروع الدستور خلال ستة أشهر يكون للمجلس الأعلى للقوات المسلحة تشكيل جمعية جديدة وفقا للمعايير المتوافق عليها لإعداد مشروع الدستور خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تشكيلها ويعرض على الشعب للاستفتاء عليه خلال 15 يوما من تاريخ الانتهاء من إعداد هذا المشروع. والحقيقة أنه بشأن هذا البند فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أكد أكثر من مرة أنه الضامن لمدنية الدولة.. ولذا كان من الطبيعى وجود هذه البنود الخاصة فى معايير انتخاب الجمعية التأسيسية حتى لا ينفرد فصيل سياسى أو تيار دينى أو غير دينى معين بوضع دستور يحيد عن مدنية والمقومات الأساسية للدولة أو المجتمع المصرى.. ولذا كان هذان البندان الثانى والثالث فى المعايير منطقيين جدا وأساسيين للغاية لضمان مدنية الدولة كما فى النموذج التركى خاصة أن المشهد السياسى فى الواقع الحالى يؤكد أن التيار الدينى هو الكتلة الوحيدة المنظمة تجاه القوى الليبرالية المنشقة والمتشرذمة والتى لن تحصل سوى على الفتات فى الانتخابات القادمة خاصة إذا تم عزل فلول الوطنى من الترشيح. الحل فى رأيى أن الوثيقة جيدة فى مجملها.. وهى تحكم المبادئ الأساسية للدستور الجديد.. ولا يجب أن تتم الاستجابة لأى ضغوط لأن هذه الوثيقة نتيجة حوارات سابقة سواء فى الحوار الوطنى أو القومى أو فى وثيقة الأزهر. ويبقى الآن أهم وأسرع مطلب أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة وهو إعادة واستعادة هيبة الدولة وقوتها وسطوتها أيضا.. وللأسف فقد كان قرار وقف مصنع «أجريوم» بدمياط استجابة لضغوط الأهالى خطأ.. لأن المجلس العسكرى ليس محل اختصاص للقرار.. ولكن هناك أجهزة سياسية وتنفيذية يجب أن تصدر القرار بالرفض أو الإيجاب وتضع مبرراته.. وللأسف فإن ما حدث يؤدى إلى تراجع الاستثمارات وهروبها من البلاد.. أعيدوا هيبة الدولة وأمنها وأمانها واستقرارها أولا ثم تحدثوا بعد ذلك.. عن الوثيقة والفلول والمليونيات الضائعة.