- «الله حق والموت حق» كانت هاتان الجملتان آخر ما نطق به الإمام الأكبر فى حياته ثم ارتقى إلى الرفيق الأعلى تاركا وراءه سجل أعمال مشرق الصفحات وكأن الله عز وجل ألهمه أن ينطق بهاتين الجملتين إلهاما صادقا لأنهما مفتاح شخصيته الذى يكشف خباياها دون خفاء والذى يفسر مواقفه المختلفة ما اتضح منها وما خفى . «الله حق» هذا قول كان يجد تطبيقه العملى فى كل ما قام به الرجل من أعمال إذ إنه كان يسهر الليل ويكد النهار ويصالح الخصوم وينصف المتنازعين ويسعى فى جنبات الأرض يقرأ صحائف العلم ويفعل ذلك كله وفى ذهنه معنى واضح يهتف به أن الله تعالى حق فيجب إذن أن يتقيد بالحق فيما يزاول من عمل وقول لأنه يصدر عن أمر ربه ويجب إذن أن ينأى عن الباطل لأن ربه عن الباطل قد نهاه ،و«الموت حق» قول آخر كان يجد تطبيقه العملى فى نفس الرجل، فهو بصوفيته الشفافة يدرك تمام الإدراك أن الحياة سفر قصير مهما طال وأن وراء الحياة رحلة حقيقية إلى عالم الحق الخالد وأن هذه الرحلة تتطلب زاداً حقيقياً من العدل والأمانة والإخلاص والتقوى، وقد عاش الشيخ مدركا حقيقة هذه الرحلة ومنتظرا لها فى كل لحظة تحين حتى إذا لاحت لعينيه ساعتها المرتقبة ابتسم ابتسامته الراضية وقال فى لقاء العارف الواصل الموت حق وقد ابتسم فى هذا الموقف ابتسامة تؤثر عن أسلافه الكبار ممن قطعوا الطريق خطوة بخطوة حتى شارفوا مشارق الأنوار. وهناك الكثير من السمات والمعالم الروحية والإنسانية التى تميز بها الإمام الأكبر أورد بعضا منها الدكتور عبدالغنى عبدالحميد رجب فى كتابه «العارف بالله الإمام عبدالحليم محمود»، حيث اعتبره وليا من أولياء الله وأحد أئمة الصوفية وأنه رغم لين جانبه وطيب معشره إلا أنه كان شجاعا جسورا. وقال: لقد كانت عينا عبد الحليم تشعان بوميض ساطع وكأنهما ترتادان آفاقا مجهولة وكان الرجل يحدق بهما إلى أبعد الآماد فتشعر أنه غائب عنك وإن كنت بجواره ثم تعلو وجهه ابتسامة خفيفة هادئة ويلتفت إليك متحدثا ومسبحته تدور فى كفه فتعلم أن الرحلة الروحية قد انقضت وأن عين العارف البصير قد قطعت المسافة بين المحجوب النائى والمشاهد المنظور . ومما يؤثر عنه أنه كان يعرف موعد ليلة القدر قبل موعدها وأن معظم أمواله كانت تخرج للصدقات وكان أول شيخ يزور الكونجرس، وتلا القرآن به، ولم يكن بينه وبين الناس حجاب، لأنه كان حريصا على قضاء حوائجهم. فهو الإمام الذى ألبس التصوف عباءة الأزهر .. لقد أحب الشيخ عبد الحليم الخلوة وجعل يبحث عن مظانها فإذا خرج من الخلوة دعا الشاردين إلى مجالس تقواه فيفيض عليهم من روحه فمنهم من يدنو ومنهم من يبتعد ومنهم من يتردد بين البعد والدنو حتى إذا أدى الشيخ رسالته الروحية ترك الجموع إلى خلوته التى لا تتسع لسواه وإذ ذاك يسبح فى تأمله ليكشف ينابيع نفسه وليفيض الله عليه من المعانى ما يؤدى دور الإمامة فى الهداية ورسالة المشيخة فى الفتوى .. فلم يتردد فى الدفاع عن قضايا الأمة ولم يتهاون فى الدفاع عن أى قضية وإبداء الرأى الحاسم بها، ولم يكتف الشيخ عبد الحليم بقضايا بلده فقط بل كانت له مشاركات وآراء فى مختلف قضايا الوطن العربى والإسلامى، الأمر الذى جعل له مكانة بارزة كعالم فكان يستقبل بحفاوة فى جميع الدول التى قام بزياراتها ويلقى الكثير من الترحاب والاحترام. وقد أثرى الشيخ «عبد الحليم محمود» المكتبة الإسلامية بمجموعة من المؤلفات المهمة والبحوث المفيدة، فكتب أكثر من 60 مؤلفاً فى التصوف والفلسفة صدر بعضها بالفرنسية، نذكر منها: أوروبا والإسلام، التوحيد الخالص، التفكير الفلسفى فى الإسلام، القرآن والنبى، المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلى، الرسول، يارب، العبادة «أحكام وأسرار»، محمد رسول الله، الحج إلى بيت الله الحرام، فلسفة ابن طفيل، المنقذ من الضلال، الإسلام والإيمان (جزآن)، الإسلام والشيوعية، قطبا المغرب، دلائل النبوة، الفقهاء والمحدثون - (ثلاثة أجزاء)، لطائف المنن، التصوف عند ابن سينا، الحارث بن أسد المحاسبى رسالة دكتوراه بالفرنسية، الفلسفة اليونانية مترجم عن الفرنسية، وقد ترجمت عدد من كتبه عن العقيدة الإسلامية إلى الإنجليزية. بعد حياة حافلة قضاها فى خدمة دينه ووطنه، جاءت وفاة الشيخ عبد الحليم محمود فى السابع عشر من أكتوبر 1978، وتم منح اسمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى بمناسبة الاحتفال بالعيد الألفى للأزهر. رحم الله عالمنا الجليل وشيخنا الإمام عبد الحليم محمود وأسكنه فسيح جناته .. وهدى شيوخنا الأفاضل ليترسموا خطاه فى الدعوة إلى الحق وإعلاء دور الأزهر لإنقاذ أمة الإسلام .