وقف الشريط فى وضع ثابت.. دلوقت نقدر نفحص المنظر .. مفيش ولا تفصيلة غابت.. وكل شىء بيقول وبيعبر بمجرد ما ظهر فيلم (ضايل عنا عرض) على شاشة المسرح الكبير بدار الأوبرا خلال مهرجان القاهرة السينمائى، فإذا بأنغام سبتمبرية لصلاح جاهين تقفز فى ذاكرتى ومعها صورة مدن القناة المصرية . بورسعيد والسويس والإسماعيلية» بعد التهجير» فى مدن القناة كان المشهد ذاته مدن أشباح تملؤها الذكريات أكثر مما يملؤها البشر.. طرق ممتدة بلا خطوات، بيوت خالية، نوافذ محطمة، وحيطان تحكى بصمت على الدمار الذى لحق بها.. وفى غزة، نفس المشهد، ركام، غبار، أطلال بيوت، ووجوه صامتة تحمل جروحًا لا تُحصى.
وقف الشريط فى وضع ثابت.. دلوقت نقدر نفحص المنظر .. مفيش ولا تفصيلة غابت.. وكل شىء بيقول وبيعبر كأن صلاح جاهين كتب هذه الكلمات ليلتقط صورة الزمن فى لحظة انكسار يتوقف فيها كل شيء فجأة، ويصبح الخراب أوضح من أن يُخفى، والألم أكبر من أن يُدارى. لحظة تتكرر بحذافيرها بين زمنين ومكانين.. من مدن القناة بعد التهجير وغزة الآن. لكن رغم الدمار، كان هناك وجه آخر للحياة.. وجه صغير، مُصر على البقاء فى نقطة ضوء، فمن بين الدخان وأصوات المدافع، ارتفعت أصوات السمسمية على خط القناة كله لتعلن أن المقاومة ليست فقط بالسلاح، بل أيضًا بالكلمة والغنوة وكان الفنان البورسعيدى محمد عبدالقادر وفرقته يصف لى فى حوار سابق معه عن أيام المقاومة فى مدن القناة بعد التهجير قائلًا كنا نعيش فى مدينة خاوية مع المقاومين وكان سلاحنا الأكثر فتكا للعدو هو السمسمية فى كل ليلة نجتمع نغنى ع الضمة وهى الرقصة الشهيرة لمدن القناة وكانت أغانينا تلهب حماسنا أكثر للمقاومة والصمود، فالسمسمية ورقصة الضمة كانت سلاحهم للحشد والتعبئة ورفع الروح المعنوية فى معارك المقاومة. وما أشبه الليلة بالبارحة فيلم (ضايل عنا عرض) فى غزة ينقل لنا تجربة فرقة شباب سيرك غزة الحر وهم يقفزون على كل الجروح والآلام والهدم والتجويع والحصار حتى لو العدو قصف السيرك واتهدّ وراح، (حتى لو اللى بيعملوا العرض بيرجعوا بالليل يلمّوا أشلاء الناس ويظهروا حدود الموت بالحجارة) لسه ضايل عرض.. أى مازال عرضهم مستمرًا، مازال الأمل باقيًا.. فالمعنى الذى يعطى للفيلم روحه الحقيقية هو أنه رغم كل الدمار، فى شيء لسه ما انكسرش جواهم، حتى لو كانوا هم أنفسهم مشاريع شهداء يمشون على الأرض..فمشروعهم الباقى هو رسم الضحكة على وجوه الأطفال ومنحهم لحظة سعادة وسط ركام اليأس والبؤس فى أماكن إيوائهم وفى الشوارع.
فيلم (ضايل عنا عرض) وضعه صانعوه المخرجان (مى سعد وأحمد الدنف) على قائمة الأفلام التسجيلية الطويلة أو الوثائقية.. لكن الحقيقة أنه أقرب إلى فيلم سينمائى لا ينقصه سوى عناصر بسيطة ليصبح فيلمًا روائيًا، فالتصوير والصورة كانا بحرفية كبيرة وكذلك المونتاج وسيناريو الفيلم ونقلاته أيضا.. لكن كما قالت «مى» فى كلمتها إن الفيلم توثيق للأجيال الحالية والقادمة وللتاريخ ليعلموا ما جرى فى غزة وكيف كانت تفاصيل المعاناة هناك. الفيلم يصيبك بكمية وجع وألم مع مشاهد الدمار الحقيقية والمعاناة الإنسانية اليومية من القتل والتشريد والأكل والظلام وطرق الانتقال من الجنوب للشمال التى كنا نراها فى تغطيات سريعة بالقنوات الإخبارية لكن من خلال الفيلم عشنا حديث الصباح والمساء مع فريق سيرك غزة الحر. كلاكيت1 /مشهد ليل داخلى مشهد متكرر ليلًا لمجموعة من شباب السيرك بما تبقى معهم من ملابس وأدوات بسيطة يحاولون إبداع حركات أو رقصات جديدة فى البروفات لانتزاع الضحكة والبسمة من وجوه صامتة مصدومة ومجروحة وبعد انتهاء البروفات تبدأ رحلتهم فى إعداد وجبة العشاء التى صورها أحمد الدنف بدقة وبواقعية مريرة. ثم النوم وهم يحاولون استدعاءه بل استجداءه حتى لو لساعات قليلة لكن أصوات الضرب والقصف أو مشاهد القتلى والضحايا والأشلاء التى جمعوها بأيديهم تمنعهم لتبدأ حالة فضفضة عن المصير وينطلق ما بينهم السؤال الوجودى ماذا سنفعل بعد الحرب.. فكانت إجابتهم عفوية. «بس نعيش»، (هل ضامن يطلع علينا صبح)..(هل النائم يشعر بالقصف وتقطيع جسده) (وين كنا ووين صرنا).. وأحدهم يقول بلا دهشة الناس فى الأسواق اعتادت صوت الضرب والانفجار فهم يسمعون ولا يتحركون ويكتفون بالتعليق «خير إن شاء الله».
كلمات تصف أحوالهم وأحلامهم المعطلة..عبارات يقولها شباب من المفترض يستعد للاستيقاظ صباحًا لتقديم عرض المهرج وما تيسر من عروض السيرك لتصدير البهجة والسعادة للآخرين.. كأنهم يطبقون ما يقوله المسرحيون «الملهاة تخرج من قمة المأساة». كلاكيت2/مشهد نهار خارجى فريق سيرك غزة الحر يمضون فى طريقهم حاملين رحالهم إلى مدرسة أو ملجأ للايواء حيث الأطفال الأيتام أو الأسر المقيمة.. ويشرعون فى التحضير بفقرة المهرج أو العجلة أو الراقص الطويل.. والأطفال يتجمعون حولهم فى حالة تبدأ بالدهشة والسكون كأنهم خارجون للتو من كهف طويل.. أطفال فقدوا ملامح طفولتهم تحت طبقات الحزن والعذاب الشديد وعيونهم حائرة زائغة أتعبها البكاء بفعل العدوان والتشريد. لكن ما إن يدخل شباب فريق سيرك غزة الحر إلى الساحة، بملابسهم الزاهية وحركاتهم البهلوانية وضحكاتهم الصادقة، حتى يبدأ المشهد فى التغير. فى البداية يحدّق الأطفال بدهشة وتوجس، ثم تتسرب الابتسامة على شفاههم الصغيرة على استحياء ورويدًا رويدًا تتحول الابتسامة إلى ضحكة والضحكة إلى قهقهة عالية مع حركات المهرجين الحماسية المضحكة لتتبدل ملامح السكوت والحزن والخوف إلى فرح وتنطيط كأن شرارة أمل اشتعلت فجأة حولت أجساد الأطفال من الانكسار إلى الانتفاض بالحياة، ليقفزوا ويرقصوا معهم.. فتتحول الشاشة إلى مشهد يملؤك سعادة وتفاؤلاً ليمحو مشهد الوجع الليلى لفريق السيرك وكواليسه. يبدو المشهد أكبر من مجرد عرض.. إنه مقاومة من نوع آخر مقاومة بالضحك، بالبهجة، بإعادة الروح لطفل كاد يفقدها. شباب من غزة يحاربون الألم بألعاب السيرك، وينتزعون الضحكة من قلوب أنهكها الحرب والقتل والحصار. سينما القلب والمشاعر والمقاومة بالفن هو ما قدمته لنا المبدعة الشابة مى سعد وساعدها بقوة أحمد الدنف من غزة والتى حرصت بكل نبل أن تعطيه حقه الأدبى والمعنوى طوال عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى فكان الغائب الحاضر إلى درجة أنها كانت تشاركه الحدث لحظة بلحظة لايف كأنه هنا.. وسيبقى هذا العمل شاهدًا على ما فعله العدوان بغزة وأهلها وعلى ما يفعله الفن والإبداع فى اقسى لحظات الألم.