فى بدايات القرن التاسع عشر، طلب السلطان العثمانى من والى مصر «محمد على باشا»، التخلص من الحركة الوهابية التى سيطرت على شبه الجزيرة العربية، فتحركت قوة عسكرية مصرية بقيادة «طوسون بن محمد على» للقضاء على الوهابيين، ثم تسلم الراية «إبراهيم باشا» الابن الثانى للوالى حتى تم القضاء عليها. وبعدها طلب محمد على من السلطان العثمانى مكافأة، وهى منحه جزيرة «ثاسوس» والتى تقع فى اليونان حاليا، حيث كانت مسقط رأسه، وثبت فى إحدى مراسلات «محمد على» ل«محمد نجيب أفندى» وكيله فى اسطنبول، طلبه التوسط لدى السلطان العثماني، للحصول على جزيرة قبالة شواطئ مدينة «قولة». ووافق السلطان العثمانى ل«محمد على»، على أحقية تحصيل الضرائب، واستحداث وقف يمول من إيرادات الجزيرة، على أن ينفق عائده على بناء والتكفل بمصاريف مجمع تعليمي، يضم مدرستين ابتدائية وإعدادية، و«بناء» مجاورًا به مطبخ لإطعام الفقراء والمساكين، ومسجدًا، وحمامًا كبيرًا، وكذلك غرف مبيت تسع أكثر من 100 طالب، على أن يتلقوا التعليم ويتناولوا الطعام طوال مدة إقامتهم بالمجان، وأطلق على هذه البناية «عمارة محمد على».
منزل محمد على باليونان
وذاع صيت مصر وواليها، فى «قولة» وجميع أنحاء الدولة العثمانية، وازدادت شهرة «عمارة محمد علي» التى كانت تتسم بالضخامة وكبر المساحة، حيث تضم الحدائق وكافة الملحقات، إضافة إلى وفرة مصادر تمويلها عبر الوقف المخصص لها، وكانت إدارة الأوقاف الخديوية هى المشرفة على الجزيرة، وعملت على تعظيم العائد منها والذى كان مصدره الأساسى معاصر الزيتون ومناحل العسل. ونظرًا لأهمية هذا الوقف ركز خلفاء محمد على اهتمامهم عليه، وكان «الخديوى إسماعيل» يتحكم فى الشئون الداخلية للجزيرة، ومدينة قولة المواجهة لها، والقرى المحيطة بها، وطلب من السلطان «عبدالحميد» إرسال فرق حربية، لتجوب مياه الجزيرة وتدافع عنها من هجمات القراصنة، خاصة بعد أعمال التطوير والإصلاحات التى أجريت عليها. ظلت الجزيرة تدار بهذا الشكل، حتى اندلعت حرب البلقان 1912، ثم الحرب العالمية الأولى 1914، إلى أن انهارت الدولة العثمانية، وفى أعقاب الحرب العالمية الأولى تم توقيع عدة اتفاقيات بين اليونان والجمهورية التركية الحديثة، حيث اتفقت الدولتان على فض المنازعات حول ممتلكات كلتا الدولتين، وتنازلت تركيا عن الممتلكات العثمانية التى أصبحت داخل اليونان. وهنا ظهرت مشكلة ملكية «عمارة محمد على» بجزيرة «ثاسوس»، والأملاك الموجودة بمدينة «قولة»، حيث أنهما تحولا لوقف، أى خرجا من حيز الملكية بعد وهبتهما لحاكم مصر «محمد على». وبعد استقلال مصر عن الدولة العثمانية، ودخولها تحت الحماية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت الأوقاف المصرية على الأرضى اليونانية فى خطر، حتى آلت تبعية هذه الممتلكات وعائدها المادى لهيئة الأوقاف المصرية، ولكن تظل السيادة على الأراضي لليونان. قيمة تاريخية ترك «محمد على» آثارًا بالغة القيمة فى مدينة «قولة» وجزيرة «ثاسوس» باليونان، مملوكة للأوقاف المصرية ومنها ما تم حصره مثل تمثال لمحمد على اعتاد السياح زيارته، ومنزل والده فى موطنه الأصلى ب«قولة»، وقصر «الإيماريت»، ومبنى الكلية البحرية الذى يستخدم الآن كفندق وقاعة مؤتمرات، وقصر محمد على المبنى على الطراز العثماني، والمدرسة البحرية «الغيمناسيوم» بالجزيرة المطلة على بحر إيجة، ومنزل الألبانى بالجزيرة وغيرها.
قصر الإيماريت وعليه علما مصر واليونان
ولذلك تقدر الأوقاف المصرية حاليًا فى اليونان بمليارات الدولارات، حيث تبلغ مساحة قصر «إيماريت» وحده نحو 4160 مترًا مربعًا، وهو فى شكل مجمع معمارى ضخم، أما قصر «محمد على» والذى يقع على بعد أمتار من المجمع، فتبلغ مساحته 330 مترًا مربعًا، ويتكون من طابقين، وحديقة تحيط به تزيد مساحتها على 2000 متر مربع، أما مزارع الزيتون فهى عبارة عن أرض تبلغ مساحتها 12 ألف متر مربع، فضلًا عن أراضٍ زراعية أخرى تزيد مساحتها على 100 ألف متر مربع، بالإضافة إلى بساتين شجرية نادرة. أوقاف «خيوس»! «خيوس» هى جزيرة يونانية، تتبع مقاطعة مدينة «قولة» شمال بحر «إيجة»، ويطلق البعض عليها اسم «ثاسوس» وتعتبر خامس أكبر جزر اليونان فى المساحة، وكان يطلق عليها أثناء الحكم العثمانى اسم «ساقز»، وهو الاسم الذى ظهر فى الخريطة الشهيرة للبحار العثمانى «بيرى»، وكانت وقفًا منذ الدولة العثمانية، ثم انتقلت إلى اليونان بعد استقلالها خلال حرب البلقان الأولى، واعترفت الدولة التركية الحديثة بخروج الجزيرة عن سيطرتها بعد معاهدة لندن 1913. وتضم جزيرة «ثاسوس» 19 وقفًا عبارة عن عدة قطع من الأراضي، ومزارع للزيتون، ومطعمين، ومقهى، ومبنى متهدم آيل للسقوط «الغيمناسيوم» والذى تم الاتفاق على ترميمه وتحويله إلى مركز ثقافى مصري، حتى لا يتم سحبه من السلطات المحلية فى حال انهياره. ومن أبرز الأنشطة الاقتصادية فى الجزيرة السياحة، والزراعة، وإنتاج العسل، وزيت الزيتون، ومناجم الذهب، والرخام الأبيض الذى يصدر إلى جميع أنحاء العالم. أما مدينة «قولة» فتحتوى على 3 أوقاف، وهى المبانى الأثرية «قصر محمد على» و«قصر إيماريت» ومنزل صغير مبنى على قطعه أرض بمساحة 400 متر، بالإضافة إلى «مخازن التبغ» وعددها 200 مبنى على الطراز العثماني، تم ترميمها ويتم استخدامها كمطاعم ومقاهٍ. وبعد أن تعرضت تلك الممتلكات، إلى الإهمال والتخريب على مدار عقود، تلفت مبانيها، وتهدمت جدرانها، وتوقفت عن أداء دورها التعليمي، وتحولت إلى ملجأ للنازحين من الحروب، إلى أن تواصلت سيدة أعمال يونانية تدعى «آنا ميسيريان» وهى من مدينة قولة، فى عام 1997، مع وزارة الأوقاف المصرية، لتوقيع عقد إيجار لبعض هذه الأملاك المصرية، لمدة 50 سنة بقيمة 3000 يورو شهريًا. ووافقت الأوقاف المصرية بهذا المقابل الذى يعتبر زهيدًا، فى مقابل قيام السيدة اليونانية بأعمال الترميم والصيانة والتطوير، حيث أنفقت نحو 10 ملايين يورو، لترميم القصرين وحولت قصر «إيماريت» إلى فندق سياحي، وأصبح «قصر محمد على» متحفًا، وأصبحا صرحين تاريخيين. وفى الآونة الأخيرة زار وفد مصرى اليونان لحصر الممتلكات، وإزالة جميع التعديات على الأوقاف المصرية، وتفاوض الوفد مع السيدة اليونانية، بخصوص الأصول التى تديرها، وما يتعلق بالبعد الثقافى باعتباره العائد الأهم، حيث حّولت «قصر محمد على» إلى مركز للدراسات الإسلامية، فضلا عن كونه متحفًا، وتم الاتفاق على إنشاء نادٍ ثقافى لتعليم اللغة العربية، وإقامة دورات علمية لإثبات وترسيخ الهوية المصرية لتلك الأصول. كما تم توقيع عقود جديدة لعدة ممتلكات منها، مطعم واحد من أصل مطعمين مملوكين للأوقاف بالجزيرة، وكانت قيمة العقد 1600 يورو شهريا، بدلا من 900 يورو بزيادة سنوية 7% لمدة 3 سنوات، ومقهى كانت قيمته الإيجارية 250 يورو شهريًا، تم تعديل عقده إلى 750 يورو بزيادة سنوية 5% لمدة عامين، على أن يلتزم المستأجر بتجديد المبنى والحفاظ عليه.