سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    طائرات الاحتلال تشن غارة شمال غرب النصيرات بالتزامن مع تجدد القصف المدفعي    سيد عبد الحفيظ يوجه رسالة لجمهور النادي الأهلي    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    مانشستر سيتي يسعى للثأر من وولفرهامبتون في البريميرليج    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    مهلة لآخر يونيو.. رسالة هامة من الداخلية للأجانب الموجودين بالبلاد    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة إلى الجنة
نشر في صباح الخير يوم 24 - 01 - 2024

رواية «السفينة» من أهم الأعمال الروائية للكاتب الفلسطينى جبرا إبراهيم جبرا، حيث يحمل أبطاله بلادهم فى قلب القلب، يغتربون، ويسافرون إلى المهاجر، ويعيشون فى المنافى لكنهم دائمًا يعودون إلى الجذور. صدرت الرواية عن دار الآداب للنشر والتوزيع ببيروت- لبنان.




إنه يصف الحلم الذى يحوِّله أبطاله إلى حقيقة، طريق الآلام الذى يسير عليه كل مغترب حتى يصل إلى وطنه، ويصف ذلك الشعور الداخلى العميق بمعنى الاغتراب لكن أبطاله كالنخل الذى يقاوم الريح، وشجر الزيتون الذى يقف شامخًا فى وجه العاصفة، يحملون خارطة أوطانهم فى قلوبهم، وينحتون فوق جلودهم طرق العودة، المرء هو وطنه، المرء هو مدينته.
عاشق القدس
«السفينة» رواية المغتربين الذين تدبروا موعدًا للسفر بالبحر، على سفينة حملت أحلامهم بالنجاح، والهرب من الألم بالسفر إلى مكان آخر، رتبوا مواعيد بالسفر إلى مكان آخر، رتبوا مواعيد السفر خفية عن بعضهم البعض، «مها الحاج» التى تعيش فى «بيروت»، تحجز قمرتين واحدة لها، وأخرى لوديع عساف الفلسطينى عاشق القدس، المدينة التى ولد بها، ودافع عنها، وشارك فى ثوراتها وانتفاضاتها ضد المحتل الإنجليزى، وضد الاستيطان الإسرائيلى، «وديع» يريد الزواج من «مها الحاج»، يحبها لكنه يحب وطنه أكثر، لا يستسلم لرغبتها فى الإقامة فى بيروت بل يؤكد لها أنه لابد من العودة، وعندما تسأله «مها» ماذا ستفعل هى «هناك؟» يقول لها: «تطببين الناس مجانًا، أما هى فتريد السعى وراء تحقيق طموحها العلمى فى مؤتمرات دولية كطبيبة نساء نابهة، تسافر إلى مؤتمر علمى وتتركه وحده للبحر، لكنه من مدينة قُضت من صخر، ينقش حلمه على ظهر السفينة سيعود، ينقشه على جدران قلبه، على جلده كالصخر يقول: «لقد جعلنا من الصخر سرًا نتقاسمه فيما بيننا، قلنا إن الصخر يرمز إلى القدس، شكلها شكل الصخر، تضاريسها تضاريس الصخر، وهو على حافة كل طريق فى المدينة، أينما ذهبنا، رأينا ناسًا يكسرون الصخر لرصف الطريق أو للبناء، مقالع الصخر حول المدينة، فلسطين صخرة تُبنى عليها الحضارات لأنها صلدة، عميقة الجذور تتصل بمركز الأرض، والذين يصمدون كالصخر يبنون القدس، يبنون فلسطين كلها».



رتبت «مها الحاج» سفرتهما البحرية وهربت لكنها تركت معه روح روحها، وقلب قلبها.
تمرد وغضب
أما «لمى» العراقية فقد رتبت هى أيضًا سفرة على السفينة نفسها، لأنها علمت أن حب عمرها سيسافر بالبحر ليستقر فى لندن، «عصام السلمان» هو حبها العميق الآسر، تعتبر نفسها ضحية ظروفهما، فهو من عائلتها التى تنتمى إلى التمرد والغضب، هى ابنة «كاظم الحمادي»، واسمها التى اشتهرت به لمى غنى، تخفى اسم «الحمادي» لأنه يحمل مأساتها، فوالد عصام قد تشاجر مع «جواد الحمادي» عمها على أرض تنازعا عليها فقتله، وفرَّ هاربًا فى المنافى، لكنه زرع بذور الفتنة فى العائلة فمن يوافق على حبها لابن قاتل عمها؟!، لكن ما ذنب «عصام»؟ المثقف الذى تعلم فى مدارس بغداد، وجامعات لندن، وهى أيضًا درست فى لندن، والتقت به هناك حبًا عنيفًا آسرًا، رفض أخوها فكرة ارتباطها بعصام بل حذرها تحذيرًا قاسيًا لكنها عشقته ولم تأبه، تدبر لقاء به على السفينة، شيء ما فى داخلها يؤكد لها أنها له رغم زواجها من الطبيب المشهور «فالح حسيب»، شعور داخلى عميق يجعلها تنتمى للغضب والتمرد الذى يميز جدهما الأكبر الذى اشتهر فى أوائل القرن الماضى بعنفه وصلفه ومقاومته ضد الأتراك العثمانيين، فيها شيء من تمرده وغضبه ،لكنها تسأل نفسها لماذا تستسلم للعنة الأرض التى تنازع عليها رجال عائلتها؟، لكنها لم تنس أنها سليلة غضبان بن خيّون الجد المتمرد العنيد، لذا فهى تسعى بهذا العناد لمطاردة حبها، هذا الشيء الباقى الذى يُقاسمها جلدها، وبشرتها وجمالها السومرى الذى يُذكر بالوطن، ببغداد الرائعة، بدجلة والفرات، وهكذا يراها عصام جزءًا من وطنه، ومن نفسه، ومن حياته.



أما «محمود الراشد» فهو شاعر حصل دكتوراة فى القانون من جنيف وذاهب إلى العمل فى لندن، هارب هو أيضًا من ذكرى مؤلمة، من تعرضه للتعذيب على يد سجانه، فقد كان محمود معتقلاً سياسيًا، ومع ذلك يرى «عصام السلمان» أن معظم رعب محمود من خلق أوهامه أو أنه رعب من خلق ذلك النوع من التفكير الذى يلازمه، لكن فى الحقيقة تجربة محمود فى المعتقل أثرت على نفسه بعمق لدرجة أنه كان يصاب بنوبات صراخ وهو على السفينة، ويحتاج فى هذه النوبات إلى التطبيب، والمؤازرة النفسية التى كان يقدمها له الجميع.



اغتراب
وحتى النماذج الإنسانية الغربية التى طرحتها الرواية هى أيضًا نماذج مغتربة فقد دبر الطبيب «فالح حسيب» زوج لمى العراقية سفرًا بحريًا لحبيبته إميليا فرنيزى الإيطالية على السفينة نفسها، هى تلملم غربتها بعد انفصالها عن زوجها، تتعلق بحب الطبيب تتصوره المنقذ لها من وحدتها الأليمة تعشقه بكل غموضه وتفاصيله، تتجاهل زوجته «لمي»، وتفرح عندما تلمس إمارات عشق لمى لعصام، هذا العشق الذى جرح زوجها «فالح» حتى الصميم، وجعله هذا الجرح بالإضافة إلى إرث نفسى «دفع بجده إلى إحدى المشافى العقلية»، أن يفكر فالح فى الانتحار، وبالفعل يفقد حياته ببضع حبات كان يحملها معه، وكأنه كان يخطط لنهاية حياته على هذه السفينة وإلى جانبه المرأة التى أحبها «إميليا»، والحسناء التى أسره جمالها «لمي» التى تزوجها ليكتشف كل منهما أن ما يجمعهما كان هشًا لم يضرب بجذره فى الأرض وكأنه كل ما ليس له جذر عميق لا يمكنه البقاء، ولا يقوى على الحياة، كانت «لمي» وكان «فالح» يحتاجان إلى حب أقوى من الصخر ليعيش.



معنى الحياة
وتمضى بنا أحداث الرواية لنستمع إلى العالم الداخلى للشخصيات والتى تكشف عن نفسها بوضوح مفعم بالعاطفة والحس الإنسانى العميق حيث نلتمس المعنى الحقيقى للحياة والذى تكشف عنه الرواية أن وجود المرء وحريته لن تكون إلا فى وطنه، فى أعماق مدينته، تجرى هذه الحقيقة على لسان أبطال الرواية فوديع الفلسطينى يقول لعصام سليمان العراقى: «حريتك لن توجد إلا فى بغداد، إنها لن توجد فى ال«هناك» الضبابى، الوهمى، المُغرى فى أوروبا أو غيرها، هناك التلاشى فى التفاهة، هناك الهزيمة الحقيقية، أتعلمين يا لمى أن عصام ادعى أنه كان هاربًا منك؟!، أما أنا فأقول أنه كان هاربًا من مدينته، من أرضه.



وحريته لن تكون إلا فى مدينته، فى أرضه أتسمع يا عصام؟، فى أزقة بلدك، فى بساتينه، فى صحاريه، حريتك هى أن ترفض الهرب، فى أن تجابه، فى أن تقبل بما يُمض نفسك، وفى أن تعرف أن هذا المضض والغضب، والسعى البطيء الموجع، حريتك هى أن تكون مهندسًا فى أرضك مهما ضاقت بك، وتفننت فى إيذائك.
صخر وفراشات حمراء
لقد تحول وديع عساف إلى فيلسوف وحكيم معًا، أنضجته تجربته الحياتية فقد كان من ثوار القدس الذين قاوموا الاحتلال الإنجليزى، والاستيطان الإسرائيلى، لقد حمل صديق صباه «فايز» على ذراعيه وقد استشهد دفاعًا عن الأرض، حمل جسده وأقسم أن يكون فى صلابة صخرة من صخور القدس، يأخذنا بعباراته التى قَضَّها من معالم مدينته إلى رحلة كفاحه ومقاومته فيقول: «فى يوم من أيام الربيع التى ينفجر فيها الصخر زهرا، اجتمع طلاب المدارس فى فناء قبة الصخرة لينطلقوا منها فى مظاهرة أخرى احتجاجًا على الحكومة البريطانية لسماحها باستمرار الهجرة اليهودية، والتقيت بفايز بين مئات الطلبة، وهم يتخذون قرارات الاحتجاج، ولما خرجنا من طرقات المدينة الضيقة نتدافع أفواجًا، كنا معًا، والسقوف المعقودة «تُرجَّع هتافاتنا، والناس يغلقون دكاكينهم، وينضمون إلى جموعنا، وعند باب الخليل وجدنا الإنجليز، وشرطتهم متهيئين لتفريقنا، وسيل الفتية الهادر يتواصل دون انقطاع، وإذا الجنود يطلقون البنادق، ويهجمون علينا، وتنهال الحجارة والعصى، وحتى الأحذية من كل صوب، والهتافات تملأ الحناجر، وقع أحد زملائنا أرضا مجروحًا فى ساقه، ودمه يسيل إلى حذائه، ويرسم فراشات حمراء على الأسفلت، حملناه على أكتافنا ونحن نقول: الصخر.. وأضربت البلاد كلها ستة أشهر طوال، وتفجرت صخور فلسطين بالثوار فى كل مكان».
خطط المحتل
ويكشف وديع عن خطط المحتل الإسرائيلى فى حرصه على عزل أجزاء المدينة عن بعضها، وعن ما أنشأه من مستعمرات مسلحة، تفتك بأهالى البلاد فيقول: «انسحب الجيش الإنجليزى قبل موعده بيوم واحد، وسلم المدينة الجديدة لليهود، خطوة.. خطوة تحت حمايته، وشعرنا على حين غرة بالزحف اليهودى من كل اتجاه يملأ الفراغ الذى يتركه الإنجليز فى أعقابهم.. مأساة المدينة مثل مأساة البلد كله، أن اليهود كانوا عبر السنين، ودون وعى من الناس قد أقاموا مراكز مهيأة للقتال فى مستعمرات موزعة فوق تخطيط عسكرى بين المناطق العربية بحيث تستطيع عند الحاجة قطع المواصلات العربية، وحتى المعسكر البريطانى الذى كان خلفنا، والذى كنا مطمئنين إلى تسلمه، جاءه الغزو من حى يهودى إلى الشرق منه، لقد أدركنا أن «البقعة» أصبحت فى غضون ساعات منطقة مقفلة- جيبا غير منظم- سيضيق العدو عليه الخناق قبل هبوط الليل».
القسم بالعودة
لقد ظل مشهد فايز الشهيد ماثلاً فى عقل ووجدان «وديع عساف» رفيق صباه وكفاحه ضد المحتل، بل شَكَّل حياته، وهدفه، سيأخذ مال تجارته ويعود ليزرع الكروم وأشجار الصنوبر فى بلاده، ويحفر آبارًا ارتوازية، ويمد جذرًا عميقًا فى أرضه من جديد.
يستعيد مشهد استشهاد «فايز»، بعد أن استطاعا معًا تفجير مدرعة، يحمله مضرجًا بدمه، وصوت الرصاص يملأ أذنيه فيقول: «لم يبق لى إلا أن أشيل الجسد المنصهر، وأوسد رأسه بعنقى، مشيت بين الزيتون على الشوك بين الصخور، والرشاش معلق على كتفى تحت ذراع «فايز» المهدلة، وقعت، التقطت أنفاسى، شلته من جديد، سمعت صوتى، وأنا أتكلم، كأنه صادر عن كهف عميق، رحت أحدثه بأنفاسى المتقطعة، الأهل، سلوان، القدس، وعندما وضعته عن ظهرى لأستريح أقسمت أننى سأعود بشكل ما، غازيًا أو متلصصًا أو قاتلاً، سأعود حتى ولو قتيلاً على صخرة».
وبالفعل نقل وديع أمواله إلى القدس، واشترى أرضًا واسعة فى قرية قرب الخيل، وبنى بيتًا كبيرًا من حجر، يهشم الصخر، ويفرش عليه ترابًا من التربة الحمراء الخصبة الجميلة، يستنبت الحجر، ويحفر بئرًا ارتوازية، ويجمع قطرات المطر.



أصوات الميلاد
وعلى السفينة يستطيع وديع عساف أن يصوِّر تلك العودة التى يحلم بها، سواء رافقته «مها الحاج» أم لم تأت معه، إنها رحلة العودة إلى الجنة، التى سيسمع فيها أصوات الميلاد التى تتردد منذ ألفين من السنين، يسمعه البحر، وهو يردد أناشيده، يسمعه كل من بالسفينة، يتصل بالسماء، وهو يعزف أنشودته لمدينته «القدس» فيقول: «أهكذا يكون الدخول إلى الجنة؟، الرطوبة، العتمة، السقوف الشاهقة العتيقة، والتراتيل البيزنطية من أجواق حناجرها تصدح، كأبواق يوم القيامة، الامتداد، العلو، الفراغ، الظلام، الأشعة الراعشة، تتلوى خلالها سحب البخور، ويخالط الرائحة الطيبة عبق من دخان شموع.. مئات الشموع، والرهبان بلحاهم المربعة، وشعورهم المسترسلة تتهادى على أكتافهم المسربلة بمآزر فضية وذهبية، والكلمات لا تكاد تستبين من بين الألحان اليونانية الهادرة، ومئات المصلين، إنها دورة من دورات القيامة، هذه الأصوات المجلجلة، هذه الروائح المشحونة بالزمن، بالعصور الغوابر، بلوعات إنسانية وقدها وقد شموع لم تطفئها ألفان من السنين».
نار لا تخمد
ويستطيع جبرا إبراهيم جبرا أن يأخذنا مع بطله «وديع» إلى أجواء روحانية يمتزج فيها الاحتفال بقدسية الأمكنة بالاحتفاء بالميلاد الجديد لبطله بل لأبطاله جميعًا من خلال أنشودته المقدسة لمدينته فيقول «وديع»:
ومن القيامة إلى المغارة، إلى المهد، إلى ظلمة الصخور الجوفية الحانية حنو الرحم على الجنين، ومن فوقها الأعمدة الضخة المصقولة، وقد لمَّعتها أيدى المتبركين جيلاً بعد جيل ليلة الميلاد، البرد القارس، الثلج يهطل وينقطع، نيران الكوانين الصغيرة تفرقع فيها حبات الكستناء، وأصوات تنادى، ونواقيس جذلى مدوية، لناقسو منها ملاك ينزل من السماء ليقرعه، وفى الباب الضيق المنخفض ينحنى الرجال، والنساء عميقًا ليستطيعوا المرور من خلال الحجر، إلى العتمات الفسيحة بين الأعمدة: آلاف من البشر فى بصيص القناديل، وقبس الشموع الصغيرة، تحت صليب ضخم شامخ، ننحشر بين الجموع، الموت معانى تشدنا لهذا الليل الماطر المقرور، لهذه الأناشيد الكورسية القديمة، لهذه الأرض التى نُحت صخرها مغاور وصوامع وجوامع معلنة ديمومة المدينة عبر الحقب الطوال، لعل فى باطن الصخر نارًا ترفض أن تخمد.
مواجهة العاصفة
لقد استطاع جبرا إبراهيم جبرا فى روايته أن يجعل أبطاله ونماذجه الإنسانية تشعر بضرورة العودة إلى الجذور، إلى الوطن، بضرورة الميلاد من جديد لقد تحول «وديع» إلى شرارة التغيير، يُوقظ المسافرين على السفينة من آلامهم، ويكشف عذاباتهم، ويُبلغهم بأنهم من كانوا السبب فيها، فيهتف بعصام السلمان يهزه هزًا عنيفًا، ويسأله عن سر استسلامه للهرب وللبعاد، وإذا كان يريد العودة إلى بغداد فما الذى يمنعه؟، وإذا كان يعشق «لمي» فلماذا لا يتزوجها؟، يقول عصام مترددًا:
بالطبع سأعود إلى بغداد مع «لمي»، ولكن ألا ترى أن مشكلتى مازالت من غير حل؟، بالنسبة إليّ كان انتحار «فالح» عبثًا، لم يقدم شيئًا ولم يؤخر فهو لم يكن غريمًا لى، حتى فى زواجه من «لمي»، كان زواجنا منذ البداية مستحيلاً، ألا تري؟ أن الموانع الأصلية مازالت قائمة؟.
فيهتف به وديع: «أما كفاكم عشائريات؟، متى سترضون بمواجهة العاصفة فى سبيل ما تريدون»؟
هذا ترابى
وضع جبرا إبراهيم جبرا فلسفته وصاغها على لسان أبطاله، مزجها بالفكر وبالشعر وبالأساطير والحكايات «لقد كان يولسيس فى أسطورته أبرع منا جميعًا فى الإبحار والتجوال، ولكنه كان مثلنا إنما يهرب ليبلغ فى النهاية ما يستطيع أن يغرز فيه قدميه: ويقول: هذا ترابى، ألم تخيره الفاتنة «كالبسو»، وهو فى أمس حاجته إلى الراحة من وعثاء السفر وويلاته، بين البقاء معها فى الجزيرة خالدًا كالآلهة، وبين عودته بشرًا فانيًا إلى أرضه؟، غير أنه رفض الخلود واختار العودة إلى أرضه».
من هذه الأسطورة يصنع وديع أسطورته ويدفع رفاق «السفينة» ليصنعوا أسطورتهم التى هى فى الحقيقة جوهر الحياة وحقيقتها، يصنعونها على أعينهم كما يحاول هو أن يفعل، مها الحاج هى فاتنته وهو مثل يولسيس يريد أن يصبح بشرًا فانيًا لتعيش ذكرى رفيق صباه «فايز» الذى استشهد من أجل الأرض، بل هو سيحوِّل «مها الحاج» فاتنته إلى صخرة من صخور القدس يبنى عليها مدينته كما يقول: «ذكرى «فايز» كانت طرية دائمًا فى نفسي- كأنه لم يُقتل قط- فالأرض التى عشقناها معًا، ونحن نذرع طرقات القدس والقرى المحيطة بها جيئة وذهابًا، أيامًا وليالى، مازالت تُمثل كل شيء أحببناه، كل شيء أحبه، فيبقى الماضى والحاضر ملتقين متداخلين فيها، كلاهما حى، كلاهما يشير إلى الآخر».
.. لقد رفض أبطال «السفينة» غربتهم، غادروا الإحساس بالوحشة عندما قرروا العودة إلى مواطنهم، ومغادرة الحياة التى تشبه العلب: علبة داخل علبة، لم تعد تلائمهم لقد استطاع كل من وديع ومها، وعصام ولمى أن يعرفوا أنفسهم من خلال العاصفة، من خلال العذاب، وانتصار النفس، من خلال مجابهة العدو، وكبرياء الرفض، والتمسك بالأرض، حيث تحول «فايز» الشهيد إلى رمز، لميلاد جديد، فيقول وديع: «على عتبة عمارة قديمة يجلس «فايز» فى سنه الخامسة عشرة يأكل الكعكة الصغيرة مع الزعتر، ويرسم عيون الناس فائضة بينابيع الحياة».
.. إنها طقوس العودة إلى الأرض، إلى الجذور.. إلى الجنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.