يحتفى المسلمون فى شتى بقاع الأرض بشهر رمضان، بصور مختلفة بعضها متوارث منذ القِدَم، مثل «الفانوس والمدفع والمسحراتى وزينة رمضان»، وبعضها يتم استحداثه مع التطور الذى تشهده البشرية. بعض مظاهر الاحتفال مثل «الفانوس والزينة» لها روايات وحكايات كانت سببًا فى ظهورها وتوارثها حتى الآن، تحملها لنا بطون كتب المؤرخين؛ لتعريفنا بما كان يحدث فى الماضى.
يُرجع البعضُ مظاهرَ الاحتفال بشهر رمضان مع بداية الدولة الفاطمية؛ فقد كانوا يفتحون أبواب الأزقة والشوارع والمدينة كلها حتى الصباح، ويتم تزيين الشوارع بلافتات عليها شعارات الدولة واسم الحاكم، وإنارة المساجد بالمسارج، ثم اتخذت شكلاً جديدًا مع الفانوس. وزاد تألق زينة رمضان فى العصر المملوكى من خلال إشعال القناديل والشموع والمشكاوات والمسارج والتنانير فوق المآذن.
زينة رمضان كان الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أول من أعاد جمع المسلمين لأداء صلاة التراويح فى جماعة فى رمضان، ويقال إنه أمر بإنارة المساجد وتزيينها بالقناديل؛ حتى يتمكن المسلمون من أداء صلاتهم وإحياء شعائرهم الدينية، حتى تستقبل المساجد الشهر الكريم فى أبهَى حللها. إلا أن رواية أخرى لأحد علماء الأزهر الشريف هو أحمد المالكى تقول بأن الخليفة على بن أبى طالب، رضى الله عنه، كان أول من زيّن المساجد بالأضواء فى رمضان. وفى البداية كانت تُضاء بالسروج البسيطة؛ وهى عبارة عن وعاء فيه زيت له فتيل. وفى عهد الخليفة هارون الرشيد «170-193ه»، أمر بالإكثار من المصابيح المزخرفة فى المساجد خلال رمضان، وحث الناس على الإكثار منها. فيما كانت تخصص الدولة الفاطمية أموالاً لشراء البخور الهندى والكافور؛ لصرفه للمساجد فى رمضان، وكانت «سوق الشماعين» تشهد رواجاً عظيماً لشراء الشموع الموكبية، التى تزن الواحدة منها 10 أرطال، وتُستخدم لإحياء الليالى الدينية. وكانت تُفرَض على أصحاب الحوانيت أسعار محددة للبيع، فإذا غش أحدهم عوقب ب«التجريس»، ويطاف به على جَمَل أو على حمار أو بغل فى الأسواق، ويُجبَر على أن ينادى هو بذنبه، وعرفت هذه العقوبة لاحقًا باسم «الجرسة». عفريت الليل! وحسب دراسة للمؤرخ إبراهيم عنانى؛ وجدت زينة رمضان طريقها إلى الاحتفالات الدينية فى مصر منذ بداية العصر الإسلامى؛ حيث كان يطلق عليها «ليالى الوقود»، ويقوم الناس برفع القناديل والفوانيس فوق المآذن ساعة الإفطار وإنزالها عند ساعة الإمساك. وكان المحتسب - وزير الدولة- يأمر أصحاب المحلات بوضع قناديل على محلاتهم لإضاءة الشوارع، وتنظيفها حتى يجتمع الأهالى بها بعد الإفطار لينشدوا الأغانى الدينية، برفقة الصييتة المشهورين. وتطورت الزينة بعد دخول الكهرباء فى نهاية القرن التاسع عشر، وكان المشاعلى يقوم بإضاءة مفاتيح النور، وكان يطلق عليه العامة «عفريت الليل»، وبدأت تأفل القناديل المضاءة بالزيت؛ واقتصر استخدامها على الأحياء القديمة حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين. وكان بلال بن رباح، أول مؤذن فى الإسلام، يطوف الشوارع والطرقات مؤذنًا طوال رمضان، فيتناول الناس السحور، بينما ينادى عبد الله بن أم مكتوم، فيمتنعون عن تناول الطعام.
وأوردت الروايات القديمة أن والى مصر، عنبسة بن إسحاق، هو أول مسحراتى فعلى؛ حيث تطوع لإيقاظ الأهالى عام 238 هجرية، وكان يذهب سائرًا على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط، إلى جامع عمرو بن العاص، وينادى الناس بالسحور؛ فأصبحت المهنة تلقى قبولًا عند العامة لكون الوالى عمل بها. وتشير «الروايات» إلى أن «عنبسة» من أهل هراة (مدينة فى أفغانستان حاليًا)، وولّاه الخليفة المنتصر محمد بن الخليفة المتوكل إمرة مصر. وأيام السلطان الحاكم بأمر الله الفاطمى، أمر الناس أن يناموا مبكرًا بعد صلاة التراويح مباشرة، وكان جنوده يمرون على المنازل؛ ليوقظوا النائمين للسحور، مستخدمين الطبلة والدف، حتى تم تعيين رجل للقيام بتلك المهمة هو «المسحراتى»، كان يدق الأبواب بعصا يحملها قائلاً: «يا أهل الله قوموا تسحّروا». وبعدما كادت مهنة المسحراتى أن تندثر، عمل السلطان المملوكى الظاهر بيبرس على إحيائها؛ فعيّن صغار علماء الدين للدق على أبواب البيوت لإيقاظ أهلها، وبعد أكثر من نصف قرن؛ وفى عهد الناصر محمد بن قلاوون، ظهرت طائفة أو نقابة المسحراتية، والتى أسّسها أبوبكر محمد بن عبد الغنى، الشهير ب«ابن نقطة»؛ صاحب الصوت الجميل ومخترع فن «القوما»، المخصص للسحور؛ وهو شعر شعبى له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، فكان ينادى ويقول: «يا نياما قوما.. قوما للسحور قوما». كان «ابن نقطة» المسحراتى الخاص بالسلطان الناصر، وعلى يديه تطورت المهنة، فتم استخدام طبلة صغيرة الحجم «بازة»، يُدق عليها دقات منتظمة، بدلاً من استخدام العصا، ثم أصبح المسحراتى يشدو بأشعار شعبية، وقصص من الملاحم، وزجل خاص بهذه المناسبة.
وعندما مات «ابن نقطة» خلفه ابنه الصغير، فأراد أن يعلم الخليفة بموته ليأخذ وظيفته فلم يتيسر له ذلك؛ ولكنه وقف فى أول ليلة من رمضان مع أتباع والده قرب القصر وغنى «القوما» بصوت رقيق رخيم؛ فاهتز له الخليفة وانتشى، وانطلق ينشد: «يا سيد السادات لك فى الكرم عادات، أنا ابن أبى نقطة، تعيش أبى قد مات»، فأعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وحُسن بيانه، فخلع عليه وجعل أجره ضعف ما كان يأخذ أبوه. وفى العصر الحديث كانت النساء يضعن نقودًا معدنية داخل ورقة ملفوفة ويشعلن طرفها، ثم يلقين بها من المشربية إلى المسحراتى؛ حتى يرى موضعها فينشد لهن؛ وكان يدون أسماء كل من يرغب فى النداء عليه لإيقاظه. أول فانوس وفقاً لإحدى الروايات؛ فإن تاريخ الفانوس أقدم من رمضان، إذ كان يستخدمه الفراعنة كإشارة لتنبيه الناس من فيضان النيل، وتفيد رواية أخرى أن علاقة جمعت الفانوس بالأقباط الذين أسلموا فأخذوا معهم طقوسهم الاحتفالية؛ ومنها إضاءة الشموع عند الاحتفال بالأعياد. وهناك روايات كثيرة مرتبطة بالعصر الفاطمى؛ حيث وقعت عدة أحداث بارزة، كفتح مصر قبيل حلول رمضان بأيام ووضع حجر الأساس للجامع الأزهر فى 14 رمضان 359ه وإقامة الصلاة فيه لأول مرة سنة 362 ه، إذ تجمع الناس وهم يحملون الفوانيس لكى ينيروا الطريق، وكانت الفوانيس تصنع من الزجاج الملون و«تزيين المساجد» وتنيرها، وتضىء الشوارع الرئيسية المسقوفة. وتشير الروايات التاريخية إلى أن المعز لدين الله الفاطمى عندما دخل مدينة القاهرة قادمًا من المغرب العربى، يوم 5 رمضان عام 358 هجرية، بعد أن بناها جوهر الصقلى بأمر منه. وخرج الرجال والنساء والأطفال فى موكب كبير جدًا على أطراف الصحراء الغربية من ناحية الجيزة للترحيب ب«المعز» الذى وصل ليلاً، وكان بيد كل منهم شمعة، ولتجنب انطفائها وضعوها على قاعدات خشبية وأحاطوها بقصاصات من أوراق النخيل والجلود الرقيقة، ومع وصوله أُعجب الخليفة بمشهدها، وقرر اعتماد الفانوس كمظهر من مظاهر الاحتفال بقدوم رمضان.
وهكذا بقيت الفوانيس تضىء الشوارع حتى آخر الشهر، لتصبح عادة سنوية، ورمزًا للفرحة وتقليدًا محببًا فى رمضان. وهناك رواية ثانية؛ أن أحد الخلفاء الفاطميين أراد أن يضىء شوارع القاهرة طوال ليالى رمضان، فأمر كل شيوخ المساجد بتعليق فوانيس ووضع شموع بداخلها. وخلال العصر الفاطمى، وتحديدًا فى القرن العاشر الميلادى منع الخليفة الحاكم بأمر الله النساء من مغادرة بيوتهن ليلاً، باستثناء شهر رمضان الذى سُمح لهن خلاله بالخروج مساءً للصلاة خارج المنزل وزيارة الأقارب والجيران، لكن تحتم عليهن أن يرافقهن غلام يحمل فانوساً لتنبيه الرجالَ بوجود سيدة فى الطريق لكى يفسحوا الطريق لهن. فارتبط الفانوس تدريجياً بشهر الصيام؛ حيث يحمل الأطفال الفوانيس ويمشون فى الشوارع ويغنون. ومن أكثر الروايات الشائعة أن أُسَر القاهرة وأطفالها كانوا يرافقون الخليفة فى رحلته عبر المدينة، مروراً بالبوابات القديمة للقاهرة وباب النصر وباب الفتوح وباب الذهب، وصولاً إلى جبل المقطم؛ لرصد هلال رمضان، وخلال الرحلة حمل الأطفال فوانيس وغنوا محتفلين بحلول الشهر، وتدريجيًا أصبح الفانوس جزءاً لا يتجزأ من رمضان. كما تفيد رواية أن الخليفةَ ذاته، الحاكم بأمر الله، أمر بتركيب فوانيس أمام كل محل ومنزل وجامع فى القاهرة خلال رمضان، وتوعد بتغريم كل مَن يخالف الأمر، ونتيجة لذلك ترسّخ وجود الفانوس فى الثقافة المصرية. وأثناء الحملة الفرنسية على مصر كان الأهالى يضعون الفوانيس أثناء الليل كعلامات تدل الجنود المصريين على أماكن الجنود الفرنسيين لينقضوا عليهم. مدفع فاطمة كانت بداية انطلاق مدفع رمضان فى مصر؛ ومن ثم انتقل إلى البلاد الأخرى، وفى ذلك عدة روايات؛ حيث قال الدكتور أيمن فؤاد أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، إن عام865 ه/1460م، أراد السلطان المملوكى الظاهر أبوسعيد خُشقدم أن يجرب مدفعًا جديدًا؛ فصادف ذلك وقت الغروب فى أول يوم رمضان، وظن الناس أنه أراد إخبارهم بموعد الإفطار، وفى اليوم التالى اتجه مشايخ الحارات إلى بيت القاضى ليشكروا السلطان على التقليد الجديد؛ فأعجب بذلك وأخبر السلطان، وقرر أن يكون إطلاق المدفع عادة يومية، ومع مرور الوقت أضاف السلطان مدفع السحور. وعندما علمت زوجته بالحكاية أعجبت بها وكان اسمها «الحاجة فاطمة» فأوصت باستمرار هذا التقليد طوال الشهر الكريم، وامتنانًا لها أطلق المصريون على المدفع اسمها «مدفع الحاجة فاطمة». وبحسب مبادرة وزارة الهجرة «اتكلم عربى»؛ هناك قصة أخرى تقول إن بعض الجنود فى عهد الخديو إسماعيل كانوا يجربون أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة فى سماء القاهرة، وتصادف وقت أذان المغرب فى أول يوم رمضان، فظن الناس أن الخديو اتبع تقليدًا جديدًا للإعلان عن موعد الإفطار، وعندما علمت الحاجة فاطمة بنت الخديو إسماعيل بما حدث، أعجبتها الفكرة، فطلبت من الخديو أن يجعل إطلاق المدفع عادة رمضانية جديدة وعُرف وقتها باسم «مدفع الحاجة فاطمة»، وفيما بعد تم إطلاقه فى السحور والأعياد الرسمية. وهناك رواية ثالثة تقول إن المدفع انطلق أيام الحملة الفرنسية أثناء إجراء تجربة للقذائف، وعندما علم نابليون بسرور المصريين بذلك ومطالبتهم باستمراره طوال رمضان، وافق كنوع من التودد وإظهار الاحترام لمطالب الشعب. رواية رابعة، تعود إلى حكم محمد على باشا؛ حيث كانت تتم تجربة المدافع التى وصلت من ألمانيا، وصادف ذلك الوقت أذان المغرب فى أحد أيام رمضان، ونال ذلك استحسان محمد على؛ مما دفعه إلى تكرار استخدام المدفع طوال الشهر. وأقام نابليون بونابرت عام 1798م فى الإسكندرية بطارية مدفع فوق كوم الناضورة مزودة «بكُرة»، وتتصل البطارية بمرصد حلوان ليتم إسقاط الكرة ساعة غروب الشمس؛ فتحدث صوتًا؛ إيذانًا بموعد الإفطار وأطلق عليه «كرة الزوال». والمدفع الذى كان ينطلق من القلعة ظل يعمل بالذخيرة الحية حتى عام 1859، لكن مع كثرة العمران والسكان حول القلعة والتطور فى صناعة المدافع، تم الاستغناء عن الذخيرة الحية؛ خصوصًا مع الشكاوَى من تأثيرها على مبانى القلعة، فتم نقل المدفع إلى نقطة إطفاء منطقة الدَرَّاسة القريبة من الأزهر الشريف، ثم فوق هضبة المقطم القريبة من القلعة.