بروح مفعمة بالفرح، وقلب ينبض بحب لا مثيل له، وأحلام كبيرة.. وفدت رشا إلى دمشق عروساً جميلة بهية الطلعة وضاءة المحيا، لتنقلب حياتها رأساً على عقب.. فبعد أن كانت طالبة فى معهد الفنون النسوية فى مدينة ليست بالكبيرة، غدت بين ليلة وضحاها زوجة لطبيب هو ابن لأسرة ميسورة الحال، لتقطن فى العاصمة دمشق. سحرت رشا بجمال دمشق العاصمة التى تجمع بين ألق الحاضر وعراقة الماضى، فلا ليل أبهى من ليل قاسيون فى أمسيات الليل القائظة، ولا صباح أحلى من صباح خريفى تقضيه بصحبة فنجان من القهوة فى مقهى على ضفاف بردى، كما أبهرتها مظاهر الحياة المتطورة فى دمشق من مولات وأسواق ومتنزهات وما إلى ذلك. أحست أن الحياة فى دمشق مختلفة عن الحياة فى مدينتها، فالكل فى دمشق منشغل بالتفكير بنفسه وعمله وتطوير حياته وحياة أسرته، فلا أحد يتدخل فى شؤون غيره إلا ما ندر، أما فى مدينتها فالجميع منشغل بتلقط الهفوات والزلات على الآخرين. وفى مدينتها الحياة الاجتماعية النسائية منفصلة عن تلك الذكورية، فالنساء يتبادلن الزيارات ضمن المنازل، وأثناء تلك الزيارات تحاول كل منهن التدخل فى أدق تفاصيل حياة الأخريات والتساؤل عن أخص الخصوصيات. كانت دائماً تردد فى سرها: لو لم أكن محظوظة لبقيت فى مدينتى تلك القوقعة المغلقة. لترتسم على وجهها ابتسامة المنتصر. وعلى الرغم من رضاها بحياتها الجديدة ولسانها الذى يلهج دائماً بالحمد والشكر لله عز وجلّ، فإنها كانت تشعر بالوحدة فهى الغريبة فى العاصمة، فلا أخت لها فى دمشق لتؤنس وحدتها ولا صديقة لها تبثها همومها ولواعج قلبها، وبعدها عن أمها الحنون أدمى روحها. ورشا التى جاوزت العشرين بعدة أشهر لم تكن تعرف فى عالمها الجديد سوى أقارب زوجها وجاراتها. ومع مرور الأيام توطدت علاقة رشا مع إحدى جاراتها وتدعى رفيدة وهى تكبرها بعدة سنوات، والتى أخذت تساندها وتؤنسها وتعلمها طريقة طهو الأطعمة الغربية التى لم تكن تعرفها. لم تتبرم رشا يوماً علانية من مدينتها ولم تحاول المقارنة جهارًا بينها وبين دمشق خشية أن يقلل أحد من شأنها ويجعلها مثاراً للتهكم. ذات صباح قرأت رشا فى أحد مواقع التواصل الاجتماعى إعلاناً عن إقامة فطور للسيدات فقط ضمن فندق من فئة الخمس نجوم فى مطعمه البانورامى الكائن فى طابقه الأخير. تمنت رشا الذهاب للفطور ورؤية الفندق وسيدات المجتمع، ولكنها خشيت مفاتحة زوجها بالموضوع خصوصاً أن رسم الاشتراك مرتفع جداً عدا عن أن الفطور للنساء فقط، وهذا يعنى أنه لن يحضر، فشاورت والدتها بالموضوع فنصحتها أمها أن تفاتح أخت زوجها رائدة بهذا الخصوص بحجة أنها ستصحبها معها، وبعد ذلك تقنع زوجها.. وكان لها ما أرادت. وبكل تأكيد قررت رفيدة الذهاب معهما..فغمرت السعادة قلبها. بقيت رشا تعد لهذا الفطور عدة أيام، فتفكر ماذا سترتدى من الثياب؟ وكيف ستتناول الطعام باستخدام الشوكة والسكين. وهذا جل ما يشغل تفكير كل النساء قبل أى اجتماع لهن، وفى اليوم المنتظر دلفت رشا إلى الفندق برفقة رائدة ورفيدة. أخفت رشا انبهارها بحديقة الفندق بداية، وحين دلفت الفندق عن طريق الباب الزجاجى الدوار تبادر لذهنها أنها لم تجد مثل هذا البهو الواسع ذى الفرش الفخم والديكورات السقفية الجميلة إلا فى الأفلام السينمائية..ولكنها خشيت أن تتفوه بمثل هذه الكلمات لئلا تصبح مثاراً لسخرية أسرة زوجها. صعدت رشا المصعد متوجهة نحو الطابق الخامس والعشرين فأخذ المصعد يصعد مسرعاً محاولةً إخفاء دهشتها بأن تنظر لصورتها المنعكسة على المرآة اللامعة النظيفة. حالما أعطت رائدة اسمها للنادل الواقف عند الباب الخارجى للمطعم البانورامى أعطاها رقم الطاولة التى قامت بحجزها سابقاً، فاتجهت نحوها وإذ بها قرب النافذة الواسعة التى تطل على دمشق بأسرها ليبدو قاسيون شامخاً، وتبدو دمشق مترعة بالبهاء كعهدها دائماً. أعجبت رشا بأطقم السموكن التى يرتديها النادلون، كما أحبت نظافة قمصانهم البيضاء، ونظافة غطاء الطاولة الناصع البياض أيضاً. وحال بدأت الفرقة الموسيقية بالعزف.. لفت انتباه رشا فتاة جميلة بشعر أسود معقوص إلى الخلف تعزف على البيانو أرق الألحان، بينما يعزف رجل على الكمان وآخر على الساكسفون. كانت الألحان تأتى عذبة تفرح الروح وتبهج القلب، فبعض الألحان كان لأغنيات للسيدة فيروز والبعض الآخر كلاسيكي. وبعد انتظار لم يدم طويلاً أخبرهم النادل أن المائدة أصبحت جاهزة، أخذت رشا صحناً فارغاً أبيض اللون وتوجهت نحو المائدة التى تحتوى على أصناف متعددة من الطعام وبعضها ضمن الأوانى اللامعة المستطيلة الشكل التى تحافظ على سخونة الأطعمة، وكانت هذه المرة الأولى التى تشاهد رشا فيها مائدة كهذه، وإلى جانبها مائدة عامرة بالحلويات الغربية بكميات كبيرة وأصناف متعددة، ولكنها ملأت صحنها بالقليل من الأطعمة. فكان يوماً جميلاً رائعاً عامراً بالمسرات وحين أنهت السيدات هذا الفطور، توجهت كلّ منهن إلى الباب الخارجى للمطعم البانورامي. فاقترحت رائدة عليهما الذهاب للتسوق خصوصاً أن زوج رائدة قد أعطاها سيارته هذا اليوم، فذهبن معاً بقلوب مسرورة، وهناك لاقت رشا إحدى قريباتها وتدعى هند وهى تقطن بدمشق مؤقتاً ريثما تنهى دراستها للماجستير فى كلية الآداب جامعة دمشق ، وحال وقعت عينا هند على رشا أخذت ترحب بها بكل حفاوة ثم سألت كلاً من رائدة ورفيدة عمن تكونا بكل وقاحة. قالت رفيدة بصوت رقيق: أنا جارتها. فضحكت هند ضحكة هيسترية وقالت موجهة الحديث لرفيدة: ألم تتشاجر معك بعد؟ إنها مشهورة بالحى بمشاجراتها لأنها تكسر أغراض الجيران. انكسر قلب العروس الشابة، ولم تكتفِ هند بهذا القدر من الإهانة بل وجهت حديثها لرشا قائلة: أراك ترتدين ثياباً مميزة غالية الثمن، لقد أصبحت شامية بسرعة، وتغير شكلك حتى إنك أصبحت تتحدثين بلهجتهم. فقالت رشا وهى تحبس دموعها فى عينيها: لقد أصبحت أنتمى لأسرتين أسرتى وأسرة زوجى وأنا أقلدهم حتى بطريقة كلامهم. شدت رائدة يد رشا وأبعدتها عن هند قائلة: تفضلى يا هند لزيارتنا واعذرى قطعنا لحديثك، فنحن الآن مضطرات للذهاب لأننا على عجالة من أمرنا. أخذت رشا تبرر كلام هند بعينين دامعتين، فقالت رفيدة: إياك وإفساد يومنا هذا بتفكيرك بمثل هذه الترهات. أردفت رائدة: الحساد لا يستطيعون رؤية الفرحة فى عيون الآخرين، وكأن مهمتهم تعكير صفو الحياة عن طريق التذكير بالهفوات والسقطات، ولم أتوقع أن أحداً يفكر بهذه الطريقة فى زمننا الحالى. كتمت رشا الحزن بقلبها، وأخفت عنهما أن التجريح الكلامى هى الطريقة المتبعة للإزعاج فى مدينتهم، وهو سر ستبقى تخبئه فى أعماقها.