الصدفة وحدها كانت السبب فى بحث الأستاذ عبدالله الطوخى إلى مجلة صباح الخير ليبقى فيها حتى آخر عمره كاتبًا وأديبًا لامعًا. فى تلك الأيام كان «عبدالله الطوخي» قد أصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان «داوود الصغير» على نفقته الخاصة بتكلفة ثلاثين جنيها وطبع منها ثلاثة آلاف نسخة ليقرأها الناس فى كل البلاد! حتى بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على صدور الكتاب، ولم ينس أبدا «عبدالله الطوخي» ذكرياته مع كتابه الأول الذى كان جواز مروره إلى «صباح الخير»، وفى مذكراته «دراما الحب والثورة» يستعيد تلك اللحظات قائلا: وصدر «داوود الصغيرة جميلا أنيقا ووقورا أيضا بفضل تلك اللوحة الدرامية العالية المستوى التى رسمها الفنان الموهوب «حسن فؤاد» بالأزرق والأصفر والأسود غلافا للكتاب جامعا بين الواقعية والرمزية، موحيا بطعم الكاتب ونوعية موضوعاته الإنسانية والجادة والممجدة لبطولات الناس الشعبيين البسطاء، وكذلك بفضل تلك اللوحات الداخلية التى أبدعتها ريشة الفنان الصديق «مصطفى حسين» وأهدانى إياها تشجيعًا ومحبة! وكان الصديق المعلم «حسن فؤاد» قد قدم لى نصيحة ذهبية: لا تشغل نفسك بتوزيع الكتاب وبيعه فى السوق.. انس تماما هذا الموضوع.. اعتبر هذا الكتاب هو جواز مرورك من الحركة الأدبية، لا تتطلب منه أكثر من هذا وزعه هدايا على أوسع نطاق بادئا بجميع الكتاب والنقاد فى الصحف والمجلات وشرعت بالفعل فى تنفيذ وصيته بمنتهى الحماس». وكان الكاتب الكبير الأستاذ «إحسان عبدالقدوس» فى مقدمة من ذهب إليهم الأستاذ «عبدالله الطوخي» لإهدائه كتابه الأول ويتذكر ذلك اللقاء قائلا: - عقبال الكتاب الأربعين« لاتزال حتى الآن رغم مضى عشرات السنين ترن لى جنبات روحى وتسكن قلبى، فقد كان قائلها هو نجم النجوم فى دنيا الصحافة آنذاك وكذلك دنيا الرواية وأيضا دنيا الخبطات والحملات الصحفية المدوية الكبرى «إحسان عبدالقدوس» المستغنى عن أى ألقاب، وأنا أقدم له الكتاب، يا للهجته الجميلة كأنها موسيقى خاصة وهو ينطق الراء ياء (الكتاب الأربعين) دخل فى لحظاتها قلبى ولم يخرج رغم كل ما وقع بعد ذلك من أحداث. وإذا أحببت طريقته الجميلة هذه فى التهنئة اندفعت قائلا بكل الود وكل العشم: ياريت يكون لى نصيب وأشتغل معاكم هنا فى روزاليوسف! قال ببساطة: الدار كلها مفتوحة لك «وعلى كل حال أنت حظك كويس.. ممكن تشتغل فى «صباح الخير» وهى داخلة على عهد جديد، دلوقتى اللى ماسكها «فتحى غانم» روح له.. حيرحب بك أكيد (وابتسم) مستنى إيه.. قوم على طول روح له.. هو موجود دلوقت فى مكتبه!! ويستطرد الأستاذ «عبدالله الطوخي» قائلا: «خرجت من عنده مباشرة إلى فتحى غانم، فإذا بالباب مفتوح ليس حتى مواربا فلا سكرتيرة ولا استئذان.. والابتسامة على الوجه تعلن الترحيب!! منذ لحظتى الأولى معه أدركت أن نجم سعدى الفنى سيكون مع هذا الإنسان.. منجذبا بذلك الجوهر الكائن والمشع من داخله: الطفولة والحياء! وما تصورت أبدا أنى سأجد منه فى هذا اللقاء الأول كل هذا الكرم.. وكل هذه المساحة من التلاقى الفنى والإنسانى، فقد قال بعد دقائق من بدء اللقاء: - عندنا اليوم اجتماع لمحررى المجلة.. يمكنك لو أحببت أن تشارك فيه، نحن نبدأ فلتكن معنا من البداية! وتعالت فرحتى بالعمل معه حين سمعته يقول ونحن فى الاجتماع: أتعرفون فيم أفكر إننى أتمنى لو نحرر المجلة كلها بأسلوب القصة.. يصبح الفن هو طابعها.. حتى الموضوعات السياسية الصرفة ليتنا نكتبها بالأسلوب الأدبى.. أسلوب القصة!! وكأننى كنت فى قمقم وانطلقت - مازال الكلام للأستاذ عبدالله الطوخى - ولم تمض علىَّ بضعة شهور فى العمل معه بصباح الخير حتى كنت بتشجيعه واستشارته أنطلق فى أعظم وأخطر مرحلة هى رحلتى فى نهر النيل بمركب شراعى ضد التيار من القاهرة إلى أسوان أنا والصديق الرسام «حجازى» واستغرقت منا ستًا وعشرين يومًا فى الذهاب ويومًا واحدا فى العودة بالقطار. وما خطر أبدًا ببالنا ونحن ننشرها فى المجلة على حلقات أسبوعية مزينة وناطقة بلوحات الفنان العبقرى «حجازى» أنها ستحقق كل هذا النجاح! ومن مباهج حياتى بعد انتهائى من كتابة النص ونشره أنى حصلت على مكافأة مالية قدرها خمسون جنيها «اضرب الرقم فى مائة تحصل على قيمتها الآن»، وكان رئيس مجلس الإدارة أيامها يوسف السباعى. وتم تعيينى رسميًا فى دار روزاليوسف كاتبًا ومحررًا فى مجلة «صباح الخير» أى رضا وأية سعادة، وأغرقت نفسى فى معجنة الصحافة، أما الفن الحقيقى فتراجع كل ذلك وتوارى إلى الخلف، وبات الإحساس بالذنب يتملكنى، أنى تخليت عن أحلامى الفنية لقاء ذلك الراتب الشهرى الهزيل الذى يغطى بالكاد ضروريات الحياة لأسرتى». وتمضى المذكرات حتى تصل أحداثها إلى تأميم الصحافة فى مايو سنة 1960، وفى سطور بالغة الدلالة والأهمية معًا، حيث يقول الأستاذ عبدالله الطوخى: «المؤسسة التى أعمل فيها والتى تم تأميمها وانتزعت ملكيتها من يد صاحبها - إحسان عبدالقدوس - ومع هذا بقى وهو الذى تفيض روحه بالكراهية لفكرة التأميم والاشتراكية، تحت شعار الإنسانيات رئيسا لمجلس إدارتها، الآمر الناهى فى كل ما يخص سير العمل فيها»! وهنا يروى «عبدالله الطوخى» تفاصيل الضربة المؤلمة والمهينة - حسب وصفه التى تلقاها فى ذلك الوقت وصدامه مع إحسان عبدالقدوس فيقول: «فوجئت ذات يوم بأن كل زملائى وزميلاتى فى المجلة قد حصلوا على علاوة.. إلا أنا! طاش عقلى.. هل يمكن أن يحدث هذا من رئيس تحريرها «فتحى غانم»؟! كيف طاوعه قلبه هو الذى عايشنى فى تجربة «النهر»، وكان أعظم الفرحين بها! هو الذى أعطيته مسرحية «طيور الحب» فتلقاها بحب وقرأها وتحمس لنشرها فى المجلة رغم أنها من أربعة فصول! وكلماته المتحمسة وهو يقول لى معلقًا عليها بشكل عام: ما أجمل أن يمضى الإنسان وفى رأسه صوت صفارة البحر تناديه تدعوه دائمًا للسفر والرحيل! ونشر المسرحية بالفعل بمنتهى الشجاعة والحب كما نشر لى أيضًا بعدها مسرحية «الأرنب» واختار ليرسمها الفنان التشكيلى الموهوب «ناجى شاكر»، كل هذا الاحتفاء بالفن والذى صنع أجمل ما فى مسيرتنا بصباح الخير، كيف بعد كل هذا يحرمنى أنا وحدى.. أنا بالذات من العلاوة؟ ومتى فى الوقت الذى جاءتنى فيه مولودتى الجديدة التى اخترت لها اسم «صفاء» وفرحت أنها جاءت بنتًا بعد ذكور ثلاثة وأصبحت بذلك مسئولاً عن أربعة أبناء.. فى ظروف مثل هذا وبعد كل هذا، أكافأ بحرمانى من العلاوة! دخلت على «فتحى غانم» واجمًا محاولاً التحكم فى البركان: كيف يا أستاذ فتحى؟! ولم يدعنى أكمل: لست أنا المسئول، رئيس مجلس الإدارة هو الذى اتخذ القرار! ومن حجرته انطلقت إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة: كيف يا أستاذ إحسان تفعل معى هذا؟ قال: ما الذى فعلته معك؟ قلت: أستاذ «إحسان» أنا لن أنسى إنك أول من استقبلنى فى هذه الدار، وإنك الذى أشرت عليّ بالذهاب لمقابلة فتحى غانم.. فكنت أنت أول من فتح لى باب العمل الرسمى فى الصحافة. لن أنسى أبدا هذا لأننى إنسان يعرف بالوفاء.. ولكن هل هذا يعنى أن أفرط فى حقى.. أن توجه لى الإهانة فأصمت.. أن تعطى العلاوة للجميع وتحرمنى أنا منها؟! قال بنوع من التعالى والتحدي: طبعا لأنك عمال تكتب فن وسايب الصحافة! تملكتنى الدهشة: أنت اللى بتقول كده يا أستاذ إحسان؟! أنت اللى كنت بتلاقى المجلة توزيعها بيهبط تعلن عن رواية جديدة لك وتبتدى فورًا فى نشرها.. رغم أنها لسه مش كاملة فى دماغك! تيجى النهاردة عشان بأنشر مسرحية أو قصة تعاقبني؟! قال: لأنك لما اتعينت فى المجلة «اتعينت كصحفى مش كفنان ولو كل المحررين عملوا زيك المجلة مش حتمشي!! قلت: والله المجلة لها رئيس تحريرها وهو عارف مجلته ماشية إزاي!! قال: كده؟! وأنا رئيس مجلس الإدارة وأعرف إزاى أمشى المؤسسة!! محترقا بالغيظ تاركًا البركان ينفجر قلت: وأنا كمان عارف إزاى حاخد حقي!! قال: أنت بتهددنى؟! قلت: أنا مش بأهددك.. أنا بدافع عن حقى.. بدافع عن وضعى. بدافع عن بيت وعن أولاد وحياة أنا مطالب بتغطيتها.. وأغطيها منين إلا من كتاباتى.. أيوه.. إذا ماعنديش أى مصدر غير كتابتى، ولو الأمر يخصنى لوحدى أنا، كنت سبت الكتابة والفن والصحافة والحياة كلها ولا الذل ده!! لكن أعمل إيه فى العيال.. أعتذر لهم بأيه؟! وإذا ببريق مفاجئ يلمع فى عينيه وثمة طيف ابتسامة طيبة ارتسمت على شفتيه ذكرتنى بأول لقاء جمعنى به قال وهو يجذب نفسا عميقا من صدره: - طيب اهدأ.. وماتزعلش.. شوف أنا مسافر سويسرا لمدة أسبوعين وأول ما أرجع حاأسويلك كل شىء!! ويستمر الأستاذ «عبدالله الطوخي» كاتبا ومبدعا من يومها وحتى رحيله ليصبح أحد أساطير «صباح الخير» الأدبية!