من النادر أن يؤسّس بناة المشروعات الضخمة جمعية خاصة بهم، للبقاء على تواصل معًا كما حدث مع بناة السد من المصريين والروس، مشروع السد العالى كان حالة خاصة عزيزة على قلوبنا جميعًا والسنوات الطوال التى قضيناها معًا بأسوان كانت جديرة بتلك الخصوصية. هذا أول ما يجب أن تدركه عزيزى القارئ لأسرد عليك تلك الحدوتة، حدوتة قديمة، لكنى كأنى عشتها بالأمس فقط أو هكذا أشعر. أنا المهندس رشدى عطية نائب رئيس جمعية بناة السد العالى، وواحد من آلاف كان لهم شرف المشاركة فى مشروع رد الكرامة المصرية. مهندس ميكانيكا بدأت قصتى مع السد فى معهد أبحاث التنمية كنا نختبر التربة ومناسبتها للعمل عليها، ثم انتقلت إلى قسم الحَقن، جسم السد العالى مكون من حجارة جرانيت وبينها رمال وطمى أسوانى، لتكوين جسم متماسك كان لا بُدَّ من حَقن الفراغات بمادة تشبه الأسمنت، وهو دور القسم الذى عملت به. إذا سألت موظفًا اليوم هل تحب ما تعمل سيدهشه السؤال من الأساس، لكننا عملنا فى السد بحب لم نتطلع لراتب كان الأساس هو الهدف لا المادة. علمنى السد الكثير، قضيت شبابى فى أحضانه أنظر له كمُعَلم لا كمشروع هندسى ضخم. أجاب السد عن أهم أسئلة يمكن أن نطرحها لماذا نعيش، ما الهدف من الحياة، وماذا فعلت للآخر؟! كانت المعادلة واضحة والهدف مرصود ومتوحدين على تحقيقه، لذا فإن رفقائى منذ الستينيات لم يتغيروا، رافقونى فى شيبى كما فعلوا أيام الشباب. أما بالنسبة لرفاق العمل من الروس فكانت دائرة العلاقات حساسة لكون روسيا معسكر الشيوعية آنذاك والخوف من تسرب الأفكار، لكن الإنسانية تدخلت ولم ننتبه للأيديولوجيات، فكانوا بالنسبة لنا أصدقاء قدموا من بلادهم البعيدة لمساعدتنا، كانوا بسطاء وطيبين للغاية. لم نكن نقيم اجتماعات أو احتفالات لكن عملنا جنبًا إلى جنب معظم ساعات اليوم نتجاذب أطراف الحديث بلغة مكسرة، أحد الأصدقاء الروس عاد إلى بلده فى إجازة وحين عاد أهدانى كاميرا لم أطلبها لكنها أسعدتنى وكانت بادرة طيبة لعلاقة جيدة لم تستمر للأسف بسبب محدودية وسائل الاتصال آنذاك. تحتفى بنا بعض المؤسّسات والجرائد والجهات الدولية والتقينا فى بعض تلك المحافل بالخبراء الروس الكبار وقضينا وقتًا ممتعًا، أثناء الاحتفال بمئوية جمال عبدالناصر وجّهت إلينا دعوة للحضور فى روسيا واكتشفنا مدى حبهم لعبدالناصر والاحتفاء به. أقام «عبدالناصر» فى أسوان قصر الثقافة الروسى الذى كان نافذة لإطلاع المصريين على الثقافة والفنون الروسية ومصدر ترفيه لنا بعد عناء العمل. فى 73 أثبتت الإحصائيات أنه أثناء الحرب انعدمت المحاضر فى مخافر الشرطة، نفس ما حدث قبلها حين جمع آلاف العمال فى أسوان طوال هذه المدة دون وجود فيش وتشبيه أو مثل هذه الإجراءات ومع ذلك لم يتم تسجيل سوى عدد طفيف من حوادث الخروج على القانون، انشغل الجميع بمشاهدة الحلم القومى ببناء السد يكبر ويتحول لحقيقة. لم نكن نعمل بالساعات كان المطلوب يُنجز وإن استغرق يومًا بطوله، كان التحفيز موجودًا من الإدارة دائمًا ويحفزنا أكثر الجدول الزمنى الذى وضع فى لوحة ضخمة بأرض المشروع مكتوب عليها «يا بناة السد العالى باقى من الزمن.... يوم» يغيرها عامل يوميّا لتقل الأيام ويدنو الحلم. احترمنا الزمن خاصةً الموعد المحدد لتغيير مجرى النهر 1مايو كان تاريخًا فارقًا فبَعده يأتى الفيضان. حين كنا بأسوان كانت طبيعة عملنا مختلفة لم نكن نعمل بالمكاتب بل جمعنا موقع العمل طوال اليوم وكل يوم، صداقات تكونت وأرواح تآلفت وكان لا بُد لها من الانتهاء يومًا ما، لكن لم نكن لنفترق هكذا دون فرصة للقاء آخر. بعد انتهاء السد تحرك البعض وخرجوا بفكرة إنشاء جمعية بناة السد العالى بجهود ذاتية، بلا شك واجهتنا العديد من المصاعب التمويل والمَقر وغيرهما لكن رغبتنا فى لمّ الشمل تغلبت عليها، وبالفعل شرعنا فى جمع بيانات المشاركين بالمشروع وبدأت الجمعية فى الثمانينيات بزخم قادتنا والتبرعات استطعنا تنظيم حفلات ومؤتمرات وتكوين جدول عمل للجمعية، كان الهدف الأساسى ألا نفترق ونستمر فى التجمع ، صحيح أن عددنا يصبح أقل يومًا بعد يوم لكن الذكرى حية، مَقر جمعيتنا مُلحق بجمعية الصداقة المصرية الروسية؛ حيث خصص لنا د.«حسين الشافعى» مساحة للتجمع. مازلنا نجتمع حتى الآن لنخدم بعض لئلا نفترق؛ لنتشبث ببعض ونعيد تلك الكلمة «بعض» إلى قاموسنا فى مصر، قد لا أعرف جيرانى فى نفس العمارة التى أقطن بها اليوم لكن لم أكن لأتخيل سنواتى فى أسوان دون العلاقات التى كونتها هناك. نشعر بالحسرة حين تتجاهلنا وزارتا الرى والكهرباء وللأسف معظم التكريمات التى حصل عليها بناة السد لم تكن من الدولة لكنها كانت ترضينا، فيكفى حضور السد وبناته فى الذاكرة؛ خصوصًا ذاكرة الشباب، أذكر حضورى جلسة فى معرض الكتاب لألقى كلمة وكان أكثر ما أسعدنى أن أغلب الحضور من الشباب والذى يهمنى كثيرًا أن يدركوا أن السد العالى ليس مجرد محطة بعد أسوان، بل طوق نجاة لمصر التى كانت تغرق وقت الفيضان وتجف باقى العام.