تواصلت فنون الحِرف التقليدية فى مصر على مدى تاريخها، ليصوغ الفنان المصرى فنونه الحِرفية منذ الفراعنة وحتى الآن معبرا عن معتقداته ورموزه الفنية والشعبية التى استقاها من بيئته الخاصة، ومن ولعه بفنون بلاده، والحِرف التى ورثها أبا عن جد، فكانت الحِرفة له فن إبداعى برع فيها على مر العصور، وكانت له صلة نسب فقد كانت هناك عائلات بكاملها تتخصص فى حِرفة معينة مثل خرط الخشب، أو الخيامية، أو زخرفة الزجاج، والمصاغ الشعبى. طابع خاص وذوق رفيع متعة حقيقية أن تتأمل تاريخ هذه التحف الفنية، المبدعة التى بقيت شاهدة على ذوق رفيع، وصياغة فنية وضع فيها الفنان المصرى ذوب نفسه، ومشاعره فإذ بها بين يديك منسوجة، أو لوحة من الخيامية، أو قوارير عطر، أو مشكاوات تضىء بفنها، وتأتلق بمهارة صانعها.. وقد اتصلت هذه الفنون منذ الفراعنة حتى الآن، ونحن نحتفل بالقاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 20 20، فإن لوحة بانورامية عامرة بالتفاصيل تعطى لنا هذا الطابع الخاص لفنون الحِرف المصرية، وما تألق منها فى الفنون الإسلامية التى بلغت منزلة رفيعة فى العصر المملوكى، والفاطمى كما يقول الباحثون. ومن أهم الدراسات التى تناولت الحِرف التقليدية فى مصر الموسوعة التى أصدرتها جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة بعنوان «موسوعة الحرف التقليدية بالقاهرة التاريخية»، ورأس تحرير الموسوعة الفنان عز الدين نجيب، وكان يشغل رئيس جمعية أصالة، التى يرأسها الآن الفنان طه عشماوى، وفى الجزء الأول من الموسوعة إطلالة مهمة على فن خرط الخشب، والتطعيم، والخيامية، والمصاغ الشعبى، وقد صدرت المجموعة فى سبعة أجزاء، وصاغها محمد كمال وقد أسهم فيها العديد من الباحثين منهم: سونيا ولى الدين، وعامر الورقى، وعبد المحسن الطوخى، وعايدة خطاب، وراجعها صفوت كمال. توثيق الموروث وتعد الموسوعة خطوة مهمة فى توثيق التراث وانطلقت من رؤية مؤداها أن الفنون اليدوية التقليدية تعبر عن الإبداع الجمعى للشعوب، وهويتها الثقافية، بل هى وعاء رسالتها الحضارية فى عصور ازدهارها بما تشمله من قيم المعتقدات والعادات والتقاليد، والمعانى الإنسانية فالقاهرة قديما وحديثا تمثل المصب الأساسى لمنتجات الحِرف التقليدية بجميع أقاليم مصر. الفن المصرى والعقيدة التعلق بالعقيدة ظل ملازمًا للفن المصرى، ولم يبرح يد الفنان المصرى عبر تاريخه الحِرفى العريق، ففى مصر القديمة كانت مدينة إخناتون الدينية قد تحولت إلى مدينة حرفية ضخمة محاطة بالبيوت والمقابر، وتألقت فيها طقوس العبادة، كما توهجت الصناعات الحرفية الدقيقة كالزجاج الملون، والخزف، والحُلى والأثاث، والأدوات المنزلية.. وقد تجلى هذا على مر العصور، وقد أفاد الفنان فى تطعيم الفنون الحِرفية مما اكتسبه فى الفنون الإسلامية فى العصر العباسى والطولونى والمملوكى والفاطمى، بل العثمانى، فكان للفنان المصرى طرازه الخاص وسمته المتفرد، وقد ظهرهذا فى عمارة القصور والمساجد بالزخارف، والفسيفساء. حرفة خرط الخشب وقد ازدهرت هذه الحِرفة، وظهر تفوق الفنان المصرى فيها وخاصة فى عهد أحمد بن طولون الذى استقل بحكم مصر فى النصف الثانى من القرن التاسع الميلادى، فتألق فن الحفر على الخشب والخزف، وكانت الفنون فى هذه المرحلة محاولة أولى فى سبيل الوصول إلى طراز إسلامى مصرى فنبغ الحرفيون فى زخرفة الأخشاب المحفورة.. وفى العصر الفاطمى ازدهرت فنون وحِرف، ولا سيما أن نظام الطوائف قد بدأ فى هذا العصر فكان لكل طائفة من الحرفيين شيخ طائفة يرعى شئونها، وفى هذا العصر ازدهرت الأخشاب المحفورة التى زينت قصور الفاطميين مثلما يُرى فى الأربطة الخشبية بجامع الحاكم بأمر الله، وفى باب الجامع الأزهر المحفوظ فى متحف الفن الإسلامى بالقاهرة، وتزين الباب حشوات مستطيلة محفور عليها تفريعات من الفروع النباتية العباسية الأسلوب التى تُكون أشكالاً متقابلة، وقد تطور فن خرط الخشب فى العصر الأيوبى بشكل مميز حتى إن أقدم قطعة خرط خشبية فى المتحف الإسلامى تعود إلى ذلك العهد، ومع بداية العصر المملوكى تم تشييد العديد من العمائر الفخمة مثل جامع السلطان حسن، وجامع السلطان برقوق وجامع قايتباى، وكانت النهضة الفنية الرائعة فى مصر فى القرن الرابع عشر الميلادى، وفيها تألق الخرط وبدا فى المشربيات الجميلة المتعددة الأشكال، والمطعمة بالعاج والأبنوس. وقد تطورت الحِرف الإبداعية بشكل عام فى العهود الإسلامية، لكنها بلغت أوجها فى العصر المملوكى فى ظل تسابق الأمراء والسلاطين على اقتناء كل غالٍ وثمين. حِرفة التطعيم وفن تطعيم الخشب هو تثبيت مواد منتقاة فى مكان يتم حفره على سطح الخشب بهدف تجميله بزخارف معينة، ومن أهم المواد المستخدمة فيه الصدف، والعظام بأنواعها، والأخشاب الثمينة كالأبنوس، والخشب الأحمر، والنحاس، والفضة، والذهب، ووضعها داخل حفر الخشب، مع عمل المعالجات اللازمة حتى يبدو بشكله البديع الآسر، وقد عُرفت هذه الصناعة فى مصر منذ عهد الفراعنة فظهرت فى كراسى عروش الملوك الفراعنة، وصناديق حفظ الملابس، والتوابيت، والأمثلة كثيرة فى المتحف المصرى، وأبرزها تابوت الملك توت عنخ آمون، وقد عُثر فى الإسكندرية على كميات كبيرة من العاج والعظم لها أهميتها فى دراسة أسلوب الفن السكندرى، وقد برع الفن القبطى فى هذا المجال ووجدت نماذجه فى الأديرة والكنائس، ومن أشهرها الموجود فى كنيسة مار جرجس، والكنيسة المعلقة، إضافة إلى بقية الكنائس الأثرية فى حى مصر القديمة.. وقد تواصل التأثر والعطاء فى هذا المجال بين الفن القبطى والفن الإسلامى فظهرت الزخارف النباتية القبطية عنصرًا أساسيًا فى تشكيلات العمارة والخزف والنسيج وغيرها، وظهرت رموز الفرع والورقة القلبية وورق العنب بإيقاع صوفى وطوَّع الفن الإسلامى تلك الزخارف فى منظومة هندسية رمزية موحية فظهرت فى عناق مع الخط العربى، والحروف العربية فزينها بالفروع النباتية والأوراق والورود والثمار، وبلغ هذا الفن مرتبة رفيعة خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين فى مصر فى عهد المماليك، فتم استخدامه فى زخرفة الأبواب والمنابر، والمناضد والصناديق، والآلات الموسيقية مثل العود والكمان ويحتوى متحف الفن الإسلامى بالقاهرة على نماذج عديدة من التحف العاجية المملوكية، ومن أشهر أنماط التطعيم: النمط الفارسى وهو عبارة عن أشكال زخرفية تحتوى على شخوص إنسانية وحيوانية وطيور ونباتات فارسية تأثرًا بفنون الأمصار التى كانت متشبعة بالفنون الرومانية والإغريقية، والبيزنطية والآشورية وغيرها والتى استمرت فى الفن الإسلامى لفترة ليست بالقصيرة حتى تحولت إلى التجريد الخالص، وخاصة بعد ظهور فلسفات التصوف فى القرنين الرابع والخامس الهجريين على يد محيى الدين بن عربى، والنفرى، وجلال الدين الرومى وعمر ابن الفارض، لكن الفن الإسلامى ظل قادرًا على الاحتفاظ بروح شخصيته الفريدة فى التجريد والزخرفة، واعتمد سمته الإبداعى على العناية بالفراغ، واستلهام روح الطبيعة، والبهاء اللونى، والإيقاع التكرارى، فظهر النمط العربى فى التطعيم وهو عبارة عن امتزاج الطابعين المصرى والإسلامى متمثلة فى عروق الصدف، من الأشكال العربية، إضافة إلى أوراق وفروع نباتية.. والنمط الفرعونى وأشكاله مستوحاة من الفن المصرى القديم ويعتمد على المشخصات والموضوعات الأسطورية، والنمط البلدى وهو عبارة عن أشكال ووحدات هندسية تعتمد على الإيقاع التكرارى لوحدات المثلث والمربع والدائرة ويتم تصنيعه فى النجمة الخماسية والسداسية والثمانية فى حلقات لا نهائية تشعر الرائى بأنه متصل بالسماء. حِرفة الخيامية ومن أهم ما ذكرته الموسوعة البعد التاريخى لحِرفة الخيامية، والتى يعود تاريخها إلى العصر الفرعونى، فى عهد بناة الأهرامات، واستخدمت الخيامية كمظلة للفرعون فى رحلاته البرية والبحرية، وكمظلة لرئيس العمال.. وقد استجابت حِرفية الخيامية للتطور الفكرى والروحى والإبداعى الذى جسدته العصور المختلفة، فظهرت فيها الزخارف النباتية من الفن القبطى، وتعانق مع الفنون الآسيوية بثقافاتها الروحية، والفنون الأفريقية، وأفاد من الفنون الإغريقية والرومانية والبيزنطية، وامتزجت كل هذه الروافد مع فن الخيامية ممتزجة بالطابع الإسلامى فظهرت فى فنونها التقاسيم الهندسية ومفرداتها من المربع والمثلث والدائرة والمستطيل. تراتيل نباتية وقد أبدع الفنانون فى العصر المملوكى فى حِرفة الخيامية، حيث النضج التجريدى بروحانيته الخاصة من خلال التشكيلات النجمية الخماسية والسداسية والثمانية، إضافة إلى التراتيل النباتية التى شكلت المعادل الموضوعى للصرامة الهندسية، كما ظهر فى الخيامية آيات من القرآن الكريم، ولفظ الجلالة، واستخدمت الأعلام والمفارش الخاصة فى أضرحة المشايخ، وبيارق الاحتفالات الدينية، وامتزجت مع الميراث الشعبى العريق، فظهرت مفردات أخرى كحلقة وصل بين المعتقدين الدينى والشعبى مثل العروسة، والكف، والعين، والحصان، والسيف، والجمل، وهى العناصر التى شكلت سمت حِرفة الخيامية حتى الآن. حِرفة المصاغ الشعبى كانت القاهرة ولا تزال هى المكان الذى تصب فيه مختلف أنماط المصاغ من جميع أقاليم مصر، بل فيها يتم تصنيع أغلبها، خاصة من خلال حى الصاغة بشارع المعز لدين الله الفاطمى، ويمثل حتى اليوم أكبر ساحة لورش تصنيع المصاغ، وأكبر سوق لبيعه فى مصر.. وقد تميزت الحُلى فى العصر الفاطمى بزخارفها المفرغة كالدانتيلا، وجدائل الأسلاك الذهبية مع التطعيم بالأحجار الكريمة، بينما تميزت مشغولات العصر الأيوبى بالنقش البارز على شكل طيور وحيوانات، وفى العصر المملوكى تشكلت أغلب الحُلى بطريقة الأسلاك المشبكة التى تشبه «الشفتشى»، والمفرغة كالدانتيلا، كما تميزت أيضًا باستخدام «الرنوك» التى عُرفت عند المماليك، وقد اتضحت فى تشكيل بعض الخواتم الفضية، والأساور الذهبية، كما يلاحظ بعض التأثيرات الصينية فى الشكل الخاص بالأساور عندما ينتهى طرفاها برأس تنين. الأسطى والمعلم والصبى وحتى إرهاصات وجود نظام لأرباب الحِرف كان موجودًا منذ عهد الفراعنة كما تذكر الموسوعة، وكان ذلك فى عصر ما قبل الأسرات ثم الدولة القديمة والوسطى ثم الحديثة، وقد ازدهر نظام طوائف أرباب الحِرف فى العصر الأيوبى والمملوكى والعثمانى، وكان شيخ الحِرفة هو المتصرف الوحيد فى كل شئونها يعاونه أمين صندوق وكاتب وذلك فى القرن العاشر الهجرى - السادس عشر الميلادى، وكان ضمن سلطاته معاقبة الأسطى إذا ارتكب مخالفة لقواعد المهنة، وقد وصفهم المقريزى بأن لهم منظرًا بهيجًا، وتحت يد كل معلم صبية من أولاد الترك وغيرهم، ومن أبدع ما كُتب عن نظام طوائف الحِرف ما كتبه عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»، واستعانت به الموسوعة للتأريخ لطوائف الحِرف، فيقول الرافعى: «إن لنظام الطوائف بعض المزايا فى ترقية شئون الصناع وتعليم المبتدئين منهم أسرار الصنعة، فكان لكل صناعة مدة تمرين، يتدرب خلالها العمال على إتقانها، فإذا أراد الصبى أن يكون أسطى أو معلمًا فى الصنعة التى اختارها ذهب إلى شيخ الطائفة مصحوبا بمعلمه ويشهد له بأنه أتقن الصنعة، ومهر فيها، عندئذ ينادى به الشيخ عضوًا من أعضاء الطائفة». مصحوبا بالموسيقى ويذكر الرافعى أنه عندما كان الصانع يقوم بشىء مبتكر ذى قيمة، يضع ما صنعه على كسوة من الحرير، ويطوف بها على الحوانيت مصحوبًا بالموسيقى فيعطيه كل صاحب حانوت مكافأة نقدية، وترقية الصبى إلى مرتبة الصانع تتم بعد انتهائه من التدريب تحت إشراف أحد المعلمين الذى يدعو أهل الحِرفة التى برع فيها إلى حفل الترقية، ويعرض نموذجًا من أعماله فيثبت فى المهنة أو لا يثبت، فإذا نجح يأخذ النقيب باقة من الزهور، ويوزعها على المدعوين، ويعلن موعد الاحتفال بالصانع، وتتكون مراسم المهرجان بأن يصحب المعلم الصبى إلى مكان الاحتفال إن لم يكن بيت الصبى نفسه، حيث يكون شيخ الحرفة هناك مع النقباء، وتبدأ مراسم الاحتفال بقراءة الفاتحة، ثم يسأل الشيخ المعلم والصبى سؤالاً تقليديًا عن سبب مجيئهما فيجيب المعلم أن الصبى قد أتم تعلم الحِرفة ويرغب فى فتح حانوت خاص به. طقوس الشد والتمليح فإذا اطمأن إلى إجادته الصنعة يشد حول خصره حزامًا أو شالاً، ويعتبر طقس الشد أحد الشعائر المميزة لدخول الصبى فى الحِرفة، والتزامه بواجبات محددة نحو الجماعة، وفى عملية الشد تُعقد عدة عُقد أقلها ثلاث، وأكثرها ست، يحل الأولى الشيخ والثانية يحلها المعلم الذى درَّب الصبى، والثالثة يحلها «الأسطاوية» الذين حضروا الحفل، وبعد هذا الطقس، يُقص جزء من شعر الصبى ثم يلبس ملابس خاصة كالسروال، ويؤخذ عليه العهد، وتُلقى عيه بعض التعاليم مع إجازة ممارسة الحِرفة ثم يأخذ مكانه على السجادة إلى جانب زملائه لتناول الطعام التقليدى، ويُطلق على هذا الطقس «الوليمة» أو «التمليح».. والروابط كانت قوية بين أهل الحِرفة مما كان يُشعر أفراد الطوائف بالانتماء والحس الأسرى، وأصبح من أعرافهم أن الصنعة نسب، فكانت تتوارثها العائلات وتبرع فيها. حضور مجتمعى وكما يقول الرافعى «كان للطوائف الحِرفية حضورها القوى فى المجتمع المصرى لاسيما فى الاحتفالات الدينية والمناسبات الاجتماعية كالأعياد، والزواج، والموالد، ومن أشهرها موكب أصحاب الحِرف عندما يجهزون عربات مماثلة لحرفهم كى يسيروا بها فى شوارع القاهرة، وقد تزين الحِرفيون بملابس فاخرة، ويتخذ أهل القاهرة أماكنهم لحضور الموكب، وكانت القاهرة تحفل بأكبر عدد من الحِرفيين وخاصة فى الجمالية والدرب الأحمر والخليفة والسيدة زينب».. لكن الموكب استمر إلى سبعينيات القرن الماضى فى بعض أقاليم مصر فى رأى كاتبة المقال فقد شهدتُ فى طفولتى موكب الحِرفيين فى دمياط، وكان ذلك يتم ليلة الرؤية واستطلاع هلال رمضان احتفالاً بالشهر الكريم، وقد رأيت على عربات الكارو المفروشة بمفارش ملونة بهيجة نماذج دقيقة مصغرة من أعمال النجارة، كالكراسى الخشبية الصغيرة فى حجم الكفين، ورأيت كل صاحب حِرفة وقد اصطحب أداة من الأدوات التى يستخدمها فى حرفته كالقادوم، والمنشار وغيرها، وكان ذلك يثير الخيال ويستنهض الهمم لتجويد الصنعة، واختفى ذلك مع اختفاء طقس الموكب. تأثيرات وافدة لكن موسوعة الحِرف التقليدية ترصد ما أثر على الحِرفة فى مصر فى عهد الاحتلال العثمانى بسبب إجبارالسلطان سليم شاه، أمهر الحرفيين على الرحيل إلى الآستانة، فى أكثر من خمسين حِرفة، مما أثر على الصناعات اليدوية فى مصر، ورغم اهتمام محمد على باستمرار الحرف فى مصر فإنه كان يوجهها لخدمة أغراضه الشخصية، وعيَّن المحتسبين الأتراك الذين تعسفوا فى معاملة الحِرفيين كما نقلهم من أماكنهم إلى القصور للعمل فيها، ثم حدث بالتدريج التأثر بثقافة الغرب حتى وصلت ذروتها فى عهد الخديوى إسماعيل، حيث بدأ الاستيراد من الخارج، وأدت زيادة الضرائب إلى إنهاك الكثير من الحِرف، ولما صدرت أوامر الخديوى توفيق التى قرر فيها احتراف أى مهنة حلت الجماعات الاختيارية محل الطوائف وأهل الحِرف. إصرار وعزيمة ورغم كل هذه المؤثرات ظلت مصر بطبيعتها التاريخية والإبداعية حريصة على فنونها المتوارثة، وحافظت على روحها الخلاقة، ولاتزال الحِرف التقليدية فى مصر لها طابعها الخاص، فى مجالات خرط الخشب، والخيامية، والتطعيم، والمصاغ الشعبى، وصناعة الفخار، والزجاج، والنسيج، ومشغولات النحاس والفضة، وصناعة الكليم والسجاد اليدوى مما يدعو إلى الفخر، ولايزال الفنان المصرى مبهرًا بأعماله الفنية، وما أتقنه من حِرف يدوية يغزل نهجه الخاص وأسلوبه المتفرد، ولا تزال شوارع القاهرة القديمة وأزقتها، حافلة بآيات الفن والجمال فى شارع المعز وشارع الخيامية، وقصبة رضوان، وفى منطقة سيدنا الحُسين، وفى الجمالية، وفى منطقة السيدة زينب، وفى أقاليم مصر وأنحائها، حيث تكمن روح الإبداع، وهذه العبقرية فى كيان الفنان المصرى المطبوع على التفرد والإتقان.