على شاطئ البحر فى دمياط عشت، أسير إلى جانب البحر وأحلم، بعينى أعبر الجسر قبل أن أبلغه، أتأمل مئذنة جامع البحر، السارين فى الليل، القمر واضحا. لا تحجبه العمائر عنى ولا عن الناظرين إليه، شغفنا حبا، نحن أهل هذه المدينة الهادئة التى بقربها تحدث المعجزة، بحر مالح أجاج، ونهر عذب يلتقيان فلا يبغيان فأقف أمامهما لأتبصر هذا التوازن بين الثورة والسكون، وأنصب برجى برج الميزان، وأظل أضع بيدى هنا قوقعة وهناك أخرى، هنا صدفة وهناك صدفة، هنا سمكة وهناك سمكة، ثم أهتف: «يا سمك ياسمك هل أنت على عهد البحر مقيم؟»، المغامرة، والاكتشاف، التجدد، كانت كل تلك المعانى در الصدف، وعهدى مع البحر. كانت ليالىَّ مقسمة بين قراءة ألف ليلة من مكتبة والدى، والتوافر على قراءة الصحف والمجلات التى كان أبى حريصًا على شرائها يوميًا، وفى مرحلة لاحقة ارتبطت بمكتبة المحافظة، وكانت تعيرنا الكتب مجانًا، كان لكل قارئ صفحة استعارة، تمتلئ بما يقرأ، فكان لى على نهاية الصيف، ومقدم الشتاء صفحتان ازدانتا بروايات محمد عبدالحليم عبدالله، ويوسف السباعى، ثم اجتذبنى عالم نجيب محفوظ، وكتابات سارتر، وسيمون دى بيفوار، مترجمة إلى العربية، كنت من الجيل الذى شهد وجود مكتبة الفصل، ومكتبة المدرسة، وحصة الألعاب الرياضية، وشاركت فى الأنشطة المدرسية، جماعة الإذاعة، وجماعة الصحافة، وجماعة المرشدات، أرتدى زيًا خاصًا بها، وأضع شارتها زهرة عباد الشمس على كتفى، وألبس البيريه ذا اللون البنى على رأسى، وأرفع يدى بالقسَم بعد تحية العَلم، ونشيد بلادى بلادى، فأقول: «أقسم أن أخدم الوطن، أقسم أن أخدم المجتمع والناس»، لقد كان لهذا القسَم تأثيرسحرى فى نفسى، فكنت أعمل بمحبة وحماس، أحيانًا فى برامج الإذاعة المدرسية، وأحيانًا فى جماعة الصحافة، وأذكر أنه كانت هناك جماعة صحية لها زى خاص باللون الأبيض، وكان غطاء الرأس أبيض، وضع عليه أبى هلالاً أحمر من قماش، وكانت هذه الجماعة تتفقد ضرورة وجود صيدلية تحتوى على الإسعافات الأولية فى كل فصل من فصول المدرسة. تمتعت أيضًا بحصص الرسم، والموسيقى، وبما حفظت فيها من موشحات مثل « ياغصن نقا مكللاً بالذهب / أفديك من الردى بأمى وأبى / إن كنت أسأت فى هواكم أدبى / العصمة لا تكون إلا لنبى». الموشحات التى قربت إلىّ التمتع بصوت أم كلثوم الذى كان ينطلق من إذاعتها التى كان يبدأ البث بها فى تمام الخامسة مساء، ثم يغنى عبدالوهاب، ومن بعده عبدالحليم، وفريد الأطرش. وبدأت الأغنيات القصائد تسكن قلبى، تعلقت بما غنته نجاة من كلمات نزار قبانى، وظل يخايلنى البحر بصوت عبدالحليم: «الموج الأزرق فى عينيك ينادينى نحو الأعمق / وأنا ما عندى تجربة فى الحب / ولا عندى زورق»! فأقول له ما يقول البحر: «جاءت معذبتى فى غيهب الغسق / كأنها الكوكب الدّرّى فى الأفق / فقلت نورتنى يا خير زائرة / أما خشيت من الحُراس فى الطرُق / فجاوبتنى ودمع العين يسبقها / من يركب البحر لا يخشى من الغرق». عرفت فيما بعد أن الكلمات ليست للبحر، وإنما للسان الدين الخطيب، لكننى كنت ومازلت أنسب كل معجزة إلى البحر، كل جمال، وكل كمال، لأننى رأيت معجزة الماء، ولقاء النهر بالبحر، كنت أحلم بأن أسافر مثل رجال عزبة البرج كصيادين إلى اليونان، كانوا يتركون عزبة البرج مدينة للنساء فأتمرد، وأتمنى أقدار البحارة أحببت السندباد البحرى فى ألف ليلة وليلة، وحلمت برحلات بحرية اشتهيتها، لكنها لم تتحقق أبدًا. التحقت بندوة الاثنين الأدبية بقصر ثقافة دمياط - والتى لاتزال تُعقَد حتى الآن، وشاركت فى ندوات شعرية من خلال جماعة رواد التى أصدرت مجلتين هما مجلة: « رواد» ومجلة «عروس الشمال»، وكان يحضر هذه الندوة مجموعة كبيرة من أبرز الأدباء فى دمياط، وهم الآن من أبرز أدباء مصر فى الشعر، والمسرح والرواية، والقصة، والسينما، وكانت فى المدينة جريدة واحدة أهلية، تنشر أخبار المدينة، وبعض المقالات الجميلة عنها، خلدت المدينة أبناءها فمَدرستى الابتدائية كان اسمها «الشاعر محمد الأسمر»، ومَدرستى الإعدادية كان اسمها «بنت الشاطئ». وكان للمدينة طابع خاص، الكل يعمل، وحركة العمل دائبة فيها ليل نهار، الجدية والاهتمام طابع السكان، إجادة العمل جعلت من صناعتهم فنًا، بل فنونًا تضمها الآن فنون التراث اللامادى التى حرصت اليونسكو على تسجيلها من خلال جهود أبناء دمياط المبدعين، ومنذ زمن بعيد وقر فى قلبى أن كل عمل أتقنه صاحبه يتحول بقدرة قادر إلى فن، إلى سحر. حصلتُ على الثانوية العامة من مَدرسة دمياط الثانوية بنات، وكان اسمها فى عهد سابق «مدرسة اللوزى»، التحقت بكلية الإعلام، قسم الصحافة، وأقمت فى المدينة الجامعية للبنات بالجيزة، كان بينها وبين جامعة القاهرة مسافة بسيطة، مسافة السِكّة، كنت أقطعها على قدمَىّ لأننى فى الطريق كنت أمُرّ على باعة الكتب على الرصيف، وعرفت قيمة هذه الهواية فى اكتشاف الكتب، فقد كان فى مكتبة الرصيف كتب قيمة، امتلأت خزانتى فى المدينة الجامعية بالكتب المختارة، وبعقود اللولى البسيطة حاملة حنينى إلى البحر، وبصدفة اختزنتها فى حقيبتى، أضعها على أذنى أحيانًا فأسمعه يحكى لى. لم أكن لأضيع الوقت الثمين، فلقد كانت الصحافة حلمى، وكان الأدب طريقى، كانت مجلة «صباح الخير» فى صباىّ تجمع بين الصحافة والأدب، فكانت تُصدر كتيبات صغيرة مرفقة بالمجلة فى حجم صغير، يشبه كتاب الجيب، وكان اسمها «حكايات صباح الخير»، وكنت أحتفظ بها وأتأمل أغلفتها وما بها من رسوم جميلة فأحببتها، بدأت رحلتى مع الصحافة منذ عامى الدراسى الأول فى الجامعة فعملت فى جريدة «المساء»، ونشر لى عبدالفتاح الجمل لى أول قصيدة فى الصفحة الأدبية التى كان يشرف عليها، ثم عملت بجريدة «السياسى» فى الصفحة الأدبية وكنت أكتب عروضًا للكتب، وأحببت فى هذه الفترة شعر محمود حسن إسماعيل؛ خصوصًا ديوانه «موسيقى من السّر». ثم عملت فى مجلة «روزاليوسف»، والتحقت بالعمل فى «صباح الخير»، فحققت أحد أحلامى بأن تكون قصصى ومقالاتى بين دفتيها، المجلة التى أحببتها فى صباىّ، والتى شكلت حلمى الأول، وسعادتى التى تعلقت بها كثيرًا، وفيها تعرفت على كتابات فتحى غانم، وعبدالله الطوخى، وصبرى موسى، وأحمد هاشم الشريف، وزينب صادق، وفوزية مهران، ونهاد جاد، ومصطفى محمود، وعبدالفتاح رزق، وأشعار فؤاد حداد، وجذبتنى كتابات صلاح حافظ، وكتابات ورسوم حسن فؤاد، وكاريكاتير بهجت عثمان، وحجازى، ولوحات جمال كامل، وعبدالعال، وهبة عنايت، ومحمد طراوى، وكتابات رءوف توفيق، ومحمود السعدنى، ولويس جريس، وحوارات مفيد فوزى، هنا حيث تتشكل دائمًا، ملامح نجوم الصحافة والأدب، يحملون راية الإبداع، والكتابة، والفن، من جيل إلى جيل. فى قاهرة الثمانينيات كانت هناك حركة أدبية ثرية، فكانت كلية دار العلوم تعقد ندواتها الشعرية فأذهب لرؤية وسماع طاهر أبوفاشا، وأمل دنقل، وفاروق شوشة، وأحمد سويلم، ومحمد إبراهيم أبوسنة، ومحمد أبودومة. ومن شعراء مصر فى دار العلوم د.سماحة عبداللطيف، ود.عبداللطيف عبدالحليم «أبوهمام»، ود. شعبان صلاح، ود. أحمد درويش، ود. حامد طاهر، أمّا فى كلية الإعلام فقد كانت هناك ندوات شعرية كان يحضرها فاروق شوشة وفاروق جويدة، كانت القاهرة عامرة بالندوات والمقاهى الأدبية، فكانت هناك ندوة دار الأدباء، وندوة نادى القصة الذى أسّسه يوسف السباعى، وكانت هناك ندوات أتيليه القاهرة، وندوة ريش، وندوة نجيب محفوظ، وقد حضرتها مرتين، وفيها سألت نجيب محفوظ عن حى السُكّرية، قلت له: من أين يبدأ حى السُكّرية؟ فقال لى: «يبدأ فى داخلى ثم لا ينتهى»، عبارته الساحرة التى أسَرَتنى، فكنت أذهب بكل ملامح المدينة إلى داخلى، تسكننى، وأسكنها. حرصت على التعرف على أشهَر الشعراء والأدباء، فقد كانوا ثروة من المعارف، ومنهم الشاعر صلاح عبدالصبور، وكنت قد قرأت فى ذلك الوقت ديوانه «الناس فى بلادى»، وأجريت معه حوارًا لمجلة الكلية، وكان حينذاك رئيسًا للهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد استمع إلى أشعارى، وكان معه الشاعر الغنائى مصطفى عبدالرحمن، وأفدت من الحوار معهما كثيرًا، أمّا لقائى مع يحيى حقى فقد كان مُهمًا جدًا بالنسبة لى لأنه أكد لى سر الفن، فقد سألنى: هل رأيت جامع السلطان حسن، وجامع الرفاعى؟، فلما كانت إجابتى ب«لا»، لم أرهما بعد، قال لى: لا يكتب شعرًا جميلاً من لم يرَ روعة البناء فى هذين الجامعين.. فذهبتُ أنا ووالدى لرؤيتهما فى أول رحلة فى عشق القاهرة، ومنذ تلك اللحظة الفارقة تشكل طريقى، فكتبت العديد من المقالات عن القاهرة وأحيائها، وأصدرت فيما بعد كتابى «أم الدنيا صورة قلمية للقاهرة والناس»، ثم كتابى «القاهرة الساحرة» وكتبت فيه عن جامع السلطان حسن وجامع الرفاعى فاتحة العشق، كما كتبت فيه عن أشهَر كنائس القاهرة، وعن أحياء القاهرة القديمة والحديثة، وعن الكثير من معالمها. وفى القاهرة أيضًا عرفت أجمل المكتبات، وأحببت دار الكتب المصرية، التى تعرفت فيها على المجلات الأدبية التى درستها فى مرحلتَى الماجستير والدكتوراه، وأحببت سور الأزبكية فى العتبة، ومكتبة مدبولى، وعشقت معرض الكتاب ورأيت فى ندواته الشعرية نزار قبانى، ومحمود درويش، وأذكر كيف كانت القاعات تزدحم بالناس الذين ينتظرون الشعراء وقوفًا، ويرهفون السمع لأجمل الأشعار. عندما أتأمل عقد الثمانينيات الذى عشته بكل ما فيه من حراك ثقافى، وتعرفت فيه على الساحة الأدبية فى القاهرة عن قرب، أرانى مثلما بدأتُ عاشقة للكتابة، وكلما اقتربت منها شعرت أننى مازلت فى بداية السِكّة، عاشقة للبحر، كتبت فى محبته شعرًا وقصصًا، وقد عبَرتُ إليه الجسر قبل أن أبلغه، وأجدنى أحيانًا أكلمه فى شغف، هو يقول لى: «أنا البحر فى أحشائه الدُّر كامن / فهل سألوا الغواص عن صدفاتى»؟، فأقول له: انتظرنى عند النهر، انتظرنى فى معجزة اللقاء بين العذب والمَلح الأجاج، انتظرنى، فأنا أسمع صوتك فى صَدَفتى، وأكلمك كل مساء ودائمًا أسمعنى أقول لك: لم أتم رحلتى بل هى الآن تبدأ، وكل هذه السنوات التى كانت مسافة السِكّة.