رامى مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد، وصديقه منذ الطفولة، يعتبر أحد أعمدة النظام السورى، منذ وصول بشار للسلطة عام 2000.. والده محمد مخلوف، شقيق السيدة أنيسة حرم الرئيس الراحل حافظ الأسد.. استحوذ فى 2001 على شركتى «سيريتل» والمنافسة لها مجموعة «إم تى إن»، ما مكنه من احتكار قطاع الاتصالات.. أسس شركة «شام القابضة» للإشراف على إدارة التوسع الهائل لدوره الاقتصادى 2006، إذ أصبح يتربع على أكبر ثروة فى سوريا، ويسيطر على قرابة 7 % من الناتج المحلى الإجمالى الذى بلغ نحو 62 مليار دولار أمريكى.. توسعاته امتدت لقطاعات المحروقات والكهرباء والبنوك والنقل الجوى والعقارات.. مخلوف يسيطر على أكثر من نصف الأنشطة الاقتصادية فى البلاد، لذلك فهو صاحب القرار الفعلى فى الاقتصاد السورى.. الخلاف بينه وبين الدولة السورية يمثل انشقاقاً داخل قمة النظام الحاكم، ويحكى عمق الترتيبات التى يتم إجراؤها على المؤسسات السياسية والاقتصادية بتوجيه روسى. عندما اندلعت الحرب السورية مطلع 2011، رُفِعَت شعارات تندد بدور مخلوف فى الفساد السياسى واستغلال النفوذ، وطالب المتظاهرون بتحجيمه ومحاسبته، هاجموا مقرات شركاته وحاولوا تخريبها، ما دفعه للتفرغ ل«العمل الخيرى»، وإنشاء «جمعية البستان» لتحسين صورته، وتغطية نشاطه، ضمن تحالف مركَّب يتكون من مراكز قوى عسكرية وأمنية طائفية للدفاع عن النظام.. الجمعية تولّت بدايةً من 2012 تشكيل ميليشيات تابعة لها «قوات الكميت، المهام الخاصة، فوج مغاوير حمص، أسود البستان، الدفاع الشعبى، وكتائب الجبلاوى»، ضمت عناصر علوية، معظمها ينتمى لمحافظتَى اللاذقية وطرطوس، كما مولت الجمعية مجموعات قتالية تابعة لأجهزة الأمن، وتعهدت بتمويل «قوات النمر» التابعة للمخابرات الجوية برئاسة العقيد سهيل الحسن 2013.. لكن ذلك لم يمنع مخلوف من استغلال ظروف الحرب فى تنمية أعماله، وتوسيع نشاطه داخل الاقتصاد الرسمى.
الأزمة
الأزمة بين مخلوف ونظام الحكم بدأت صيف 2019، عندما استحوذت الدولة على «البستان» وحبست مديرها، وحلت الميليشيات التابعة لها، وفرع اللاذقية من الحزب السورى القومى الاجتماعى، المعروف باسم «حزب مخلوف».. فى ديسمبر 2019 وضع مخلوف تحت المتابعة ضمن عدد من رجال الأعمال بتهمة التهرب الضريبى والإثراء غير القانونى.. فى مايو 2020 بث ثلاثة مقاطع فيديو، اشتكى فيها من تعرضه للضغوط للتنازل عن شركاته، قبل أن يصدر وزير المالية قراراً بفرض حجز احتياطى على أمواله وأموال زوجته وأولاده، المنقولة وغير المنقولة، ضمانا لتسديد مستحقات هيئة تنظيم الاتصالات.. تداول هذه المقاطع أحدث قلقاً أدى إلى انهيار العملة السورية.. وزارة المالية نشرت وثيقة مطالبة بسداد نحو 234 مليار ليرة «180 مليون دولار أميركى تقريبًا» باعتبارها جزءاً من استحقاقات ضريبية متراكمة!!، لكن رامى تعلل بضخامتها، وصعوبة توفيرها فى التوقيت المحدد.. الوثائق شملت عددا آخر من رجال الأعمال المتهمين بالتهرّب الضريبى، والتربح غير القانونى خلال الحرب.
عقوبات «قيصر»
بانتهاء العمليات العسكرية، انكشف الوضع الاقتصادى الهش للنظام، وتدهور سعر صرف الليرة، وتراجع الدعم الاجتماعى الحكومى، وانخفض الإنفاق العام.. تراكمت مطالبات حلفاء النظام بتسديد المستحقات المترتبة عليه، فى الوقت الذى انخفضت فيه الإيرادات العامة من أكثر من 17 مليار دولار فى عام 2011 إلى نحو 9 مليارات دولار فى عام 2019، نتيجة لسيطرة أمريكا على حقول البترول، وخروج العديد من مصادر الثروة عن نطاق سيطرة النظام.. ما اضطر الحكومة للضغط على رجال الأعمال، الذين أثرَوا خلال الحرب، وإجبارهم على دفع مبالغ نقدية لتمويل استحقاقاته الداخلية والخارجية.
فى بداية الأمر، تجاوب مخلوف، لكنه بدأ يتذمر حينما أدرك أن الأمر يتعدى دعم النظام، إلى رغبة من النظام فى السيطرة على أصوله المالية وشركاته، ما دفع النظام لتصعيد إجراءاته.. الدولة تحاول تجنب التأثر بالعقوبات عند بدء تطبيق «قانون قيصر»، الذى يدخل حيز التنفيذ يونيو المقبل، خاصة أنها تتوقع أن تكون العقوبات حاسمة إلى درجة أنها ستقوم بتخفيض الدخل الوطنى للنظام إلى مليارى دولار فى السنة فقط.. المصرف المركزى السورى قبل شهر كانت أرصدته الاحتياطية 100 مليون دولار فقط!!، فى وقت تحتاج إعادة إعمار سوريا 400 مليار دولار، وهذا معناه أن النظام قد يتعرض للإفلاس بشكل كلّى.
التنافس العائلى
التفسير الثانى للأزمة يستند إلى أن هناك شعورا سائدا لدى عائلة الأسد بالاستياء من النفوذ المتعاظم لمخلوف وأشقائه، لاستغلالهم ظروف الحرب فى بناء إمبراطورية اقتصادية تتكون من 43 شركة، ما قد يشكل تهديداً مستقبليا على بشار، خاصة أن «البستان» كانت قد بدأت فى تقديم الدعم المالى للمنتسبين للجيش وقوات الأمن من أبناء العلويين، كما وفرت سبل العيش لعشرات الآلاف من السوريين، ما منحه قاعدة تأييد داخل المجتمع العلوى المستاء بشكل متزايد، وبين عناصر الجيش والأمن.. الرأى العام السورى لم ير فى الأزمة سوى تعبير عن حجم الفساد السائد، وسوء توزيع الثروات داخل الدولة، هذا التباين فى رد فعل الرأى العام تجاه الأزمة يفسر إصدار عدد من العائلات العلوية، بيانات تؤيد مخلوف، فى الوقت الذى تم فيه توزيع 5000 منشور بمدينة جبلة تحرّض على النظام.
أصحاب هذا التفسير يشيرون إلى ما تعكسه الأزمة من تحولات فى أعلى هرم السلطة وتوجهاتها، باستبعاد مخلوف لصالح فريق اقتصادى تشرف عليه السيدة عقيلة الرئيس، يستهدف تنفيذ خطة للإصلاح واستعادة الدولة للمبادرة فى قطاعات المال والأعمال، لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التى تجتازها البلاد، لكن ذلك بقدر ما يمثله من شرخ داخل الطائفة العلوية، التى تمثل العمود الفقرى للنظام السورى، إلا أنها ضرورة لدرء مخاطر أى منافسة محتملة تهدد مستقبل العائلة.
التفسير الثالث ينطلق من أن لدى إيران مشروع استراتيجى قديم فى سورية منذ 1979، يستهدف إقامة محور شيعى، من مزار الشريف فى باكستان وصولًا إلى جنوبلبنان.. روسيا أيضاً لها مشروعها الخاص، لتحويل سوريا إلى قاعدة لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفيتى السابق بالمنطقة، والوصول إلى مياه المتوسط، بوجود عسكرى استراتيجى دائم، وقواعد عسكرية ضخمة.. المشروعان غير قابلين للتعايش، والصراع بينهما واقع لامحالة.. مخلوف لعب على أحبال التنافس بين موسكو وطهران، فهو يرتبط بمصالح اقتصادية مع روسيا من خلال شقيقه العقيد حافظ مخلوف، رئيس فرع أمن دمشق التابع لإدارة المخابرات العامة إبان أحداث 2011، والذى أعفى من منصبه 2014، ويقيم مع والده فى روسيا.. الأخير يتعاون مع يفغينى بريغوجين المعروف بلقب «طباخ بوتين» وذراعه فى أفريقيا، المدرج على لائحة العقوبات الأمريكية، المؤسس لمجموعة «فاجنر» للخدمات العسكرية الخاصة منذ 2015.. مخلوف يتعاون أيضا مع إيران من خلال الميليشيات التى يشرف عليها ويتولى تمويلها بتدريب وتسليح إيرانى، فضلاً عن ترويجه للتجارة مع إيران.
روسيا بدأت بدمج الميليشيات فى الجيش السورى، ومن بينها «قوات النمر»، التى تولى رامى مخلوف الإشراف عليها، بوحداتها ال24، موسكو حرصت بعد ضمها، أن يكون للجيش اليد العليا عليها تحييداً لدور مخلوف، بعد تغيير اسمها للفرقة 25 قوات خاصة بقيادة العميد سهيل الحسن.. تم اختيار أفرادها بعناية، وتولت موسكو تدريبهم، وبذلك عززت من قوة الوحدات القتالية العاملة تحت قيادة الأسد.. أما الفرقة الرابعة فقد منحها التدخل العسكرى الروسى فرصةً لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب صفوفها، ولذلك تسربت عناصر ميليشيات «البستان» للعمل معهم، ما أضعف حضورها الميدانى، قبل أن تفكك الدولة مجموعاتها القتالية، وتلحقها كاملة بالأجهزة العسكرية والأمنيَّة للنظام.
تعيين ممثل خاص لبوتين
حقيقة الأزمة التى ثارت بين رامى مخلوف والأسد، تتضح أبعادها السياسية من تزامنها مع تعيين الرئيس بوتين ألكسندر يفيموف سفير روسيا لدى دمشق ممثلا خاصا له، وهو إجراء كاشف فى توقيته، إذ يعكس منح يفيموف صلاحيات تخوله حق التواصل المباشر مع الرئاسة، للتعامل مع الأوضاع التى غدت بالغة الحساسية فى سوريا، كما يعكس أيضاً توجه روسيا نحو الإشراف على الاقتصاد السورى، خاصة أن يفيموف فى الأساس ذو خلفية اقتصادية قبل أن يكون دبلوماسيا، الإجراء الروسى يستهدف مواجهة مرحلة اقتصادية صعبة، نتيجة لتأثير العقوبات الجديدة، التى تهدد بخروج ثورة جياع، من شأنها التأثير على ما تعتبره موسكو إنجازا لها فى سوريا.. هذا الإجراء يستهدف أيضاً تعزيز الوجود الروسى فى سوريا، بعد تباهى شخصيات محسوبة على النظام، بأنهم «قادرون على طرد روسيا من قاعدة حميميم خلال نصف ساعة، بل من كل المناطق السورية»!!.. تعيين يفيموف يوجه رسالة للنظام بأنه لن يسمح له بأن يقرر ما يريده منفرداً، خاصة أن رفض الأسد للجنة الدستورية، ولعملية الانتقال السياسى وإجراء الانتخابات، تمثل تراجعاً عن التعهدات الثلاث التى التزمت بها موسكو لواشنطن بموجب القرار 2254.. انتهاء الحرب، حول الوجود العسكرى الروسى إلى نفوذ فعلى على الأرض.
وأخيراً، فإن روسيا تسعى لتدفق أموال الدعم من الدول الأوروبية والخليجية على سوريا لتمويل فواتير إعادة الإعمار، التى ستفوز بتنفيذ معظمها الشركات الروسية، مما يحقق مصلحة مزدوجة لسورياوروسيا، لكن ذلك لن يتسنى تحقيقه فى ظل الفساد المرتبط بأقارب الأسد، ودعمهم للتواجد الإيرانى، مما يفرض تدخل موسكو المباشر.. الصحف الروسية الرئيسية وعلى رأسها «برافدا» شنت حملة إعلامية واسعة ضد الدائرة الضيقة للعائلة الحاكمة فى سوريا، خاصة ماهر الأسد، وأبناء خال الرئيس، رامى وحافظ مخلوف، إلى جانب رجال أعمال ورئيس حكومة النظام المقال عماد خميس، ووصفتهم ب«عشيرة الأسد»، وحذرت من أن عجز بشار عن ضبط الأوضاع الاقتصادية فى سوريا بسبب أقاربه والفساد، يمكن أن يفقده نصف البلاد.. الإجراءات المتخذة ضد رجال الأعمال، ورامى مخلوف، ثم إقالة خميس.. حملة موسعة ضد الفساد، توجهها روسيا، وتتزامن مع إجراءات إزاحة التواجد الإيرانى من البلاد، فى عملية إعادة تموضع للقوى الدولية والإقليمية وأدواتها فى سوريا، بما يتناسب مع الأزمة الاقتصادية الخانقة، واحتياجات إعادة الإعمار.