كان الوضع هادئًا فى مدينة مينيابوليس بولاية مينسوتا الأمريكية، يوم 25 مايو الماضي، وبحلول المساء أوقف عناصر من الشرطة سيارةً ترجَّل منها 3 أشخاص، بينهم «جورج فلويد»، الذى بات اسمه الأكثر تداولًا حول العالم الآن، بعد مقتله بسبب طريقة الاعتقال. «لا أتنفس» بدأت عملية الاعتقال بالطريقة ذاتها، حيث وُضعت القيود فى يدَيْ فلويد، الأفريقى الأصل، وأُجبر على الوقوف أمام الحائط، ثم الجلوس انتظارًا لاقتياده إلى السيارة، لكن قبل وضعه فيها سقط أرضًا، وبدأ الناس يصوّرون آخر لحظات حياة فلويد. فى الأثناء قرر شرطى يدعى «ديريك شوفين» التعامل بعنف مع فلويد، الذى تم توقيفه بتهمة الاحتيال؛ إذ ظهر وهو يجثو بوزن جسده على رقبة فلويد، وهو المشهد الذى أثار صدمة المارّة فى الشارع، توسلوا إليه مرارًا ليرفع ركبته عن فلويد، لكن دون جدوى، حتى فلويد نفسه توسل إلى الشرطى بصوت مخنوق، وأطلق عبارته التى أصبحت رمزًا لاحتجاجات أمريكا الحالية: «أرجوكم لا أتنفس». استمرّ هذا المشهد لدقائق حتى لفظ فلويد أنفاسه الأخيرة ونُقل إلى المستشفى وانتهت هناك حياته، وكانت بداية أعنف وأوسع احتجاجات تشهدها الولاياتالمتحدة فى عام 2020. يواجه شوفين ورفاقه الثلاثة تهمة «القتل من الدرجة الثالثة»، وعقوبتها القصوى طبقًا لقانون ولاية مينسوتا هى 25 عامًا فى السجن فى حالة وجود حوادث سابقة من استخدام العنف المفرط من جانب المتهمين. جرائم الكراهية العنصرية داخل المجتمع الأمريكى أحد أبرز سمات القوة الأكبر فى العالم منذ نشأتها ومقتل مواطن أمريكى من أصل إفريقى على يد رجل شرطة أبيض، ليس خبرًا شاذا لكن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة. منذ وصول باراك أوباما لمنصب الرئيس الأمريكى عام 2009 وفوزه بفترتين رئاسيتين حتى 2016 تصور البعض أنها نهاية العنصرية بشكل نهائى لا رجعة فيه، فها هو مواطن من أصل إفريقى يسكن البيت الأبيض، لكن الأحداث على الأرض فى السنوات الأربع الماضية أثبتت أن الأمر ليس كذلك، فالرئيس الأمريكى «الملياردير الأبيض» صاحب التاريخ الطويل من التصريحات العنصرية تجاه المرأة والأقليات العرقية قبل انتخابه شخصية شعبوية تنتمى لليمين المتطرف المنادى بسيطرة وتفوق الرجل الأبيض. وبالفعل رصدت عشرات الأبحاث الأمريكية والدولية ارتفاعًا هائلًا فى «جرائم الكراهية»، أى قيام «مواطن أبيض بالاعتداء على مواطن من أصل إفريقى أو لاتينى أو ينتمى لأى أقلية أخرى»، وهذه الاعتداءات تشمل التحرش اللفظى أو السخرية وصولًا إلى القتل. تاريخ العنصرية ليس سرًا أن نشأة الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها شهدت واحدة من الجرائم العنصرية الأبشع فى تاريخ البشرية، حيث تمت إبادة الهنود الحمر وهم السكان الأصليون فى الولاياتالأمريكية على أيدى المهاجرين القادمين من أوروبا بحثًا عن حياة أفضل فى العالم الذى كان جديدًا وقتها. ولم تنته قصة العنصرية فى أمريكا مع إبادة السكان الأصليين؛ بل بدأ فصل جديد منها وهو فصل العبودية؛ حيث تم جلب الملايين من سكان إفريقيا بغرض تعمير العالم الجديد وكانوا يعملون كعبيد لدى السادة من العرق الأبيض. واستمرت قصة العبودية قرونًا فى ظل الاستعمار البريطانى والفرنسى لأمريكا الشمالية، ثم جاء إعلان استقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية ووضع «وثيقة الاستقلال» عام 1776. وما بين توقيع وثيقة الاستقلال التى جاء نص السطر الأول فيها «كل الرجال خلقوا أحرارًا» وبين ما يحدث اليوم، يوجد تاريخ طويل وممتد من العنصرية متجذر فى الثقافة الأمريكية ذاتها، فلا يمكن النظر إلى مقتل فلويد على أنه «حادث فردي»، فبعد حصول الولاياتالمتحدة على استقلالها بالفعل عن التاج البريطانى عام 1783، اشتعلت الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861 واستمرت حتى 1865 بين الولايات الشمالية ونظيرتها الجنوبية وكان سببها هو العبودية، فولايات الشمال أرادت إلغاء العبودية والجنوبية رفضت ذلك، وانتهت الحرب بانتصار ولايات الشمال فكان منطقيًا أن تنتهى العبودية فى أرض الأحرار، وهو ما حدث بالفعل -على الأقل من الناحية القانونية- لكن العنصرية لم تنتهِ بل أخذت أشكالًا أخرى. وبعد قرنين من انتهاء الحرب الأهلية، شهدت الولاياتالمتحدة اغتيال أبرز زعماء الأمريكيين الأفارقة مارتن لوثر كنج فى 4 أبريل 1968، وكان كل جريمته هو نشاطاته لمحاربة التمييز العنصرى فى أمريكا التى كانت وقتها تقود المعسكر الغربى الديمقراطى الحر المنادى بحقوق الإنسان والمساواة فى مواجهة المعسكر الشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى وهو المعسكر الشيوعى القمعى غير الديمقراطي. الاحتجاجات تتحدى كورونا احتجاجات جورج فلويد التى انتشرت فى عموم البلاد لم يردعها الخوف من عدوى وباء كورونا الذى قتل أكثر من 106 آلاف أمريكى -أى أكثر من ضعف عدد قتلى الولاياتالمتحدة فى حرب فيتنام- وأصاب ما يقرب من المليونين، أى أقل قليلًا من ثلث عدد الإصابات حول العالم، وهذا فى حد ذاته دلالة على مدى الاحتقان داخل المجتمع الأمريكى بعد أقل من 4 سنوات من وصول ترامب إلى البيت الأبيض. ولكن اللافت أكثر من حوادث العنف والسلب والنهب الأمريكية – بعكس احتجاجات هونج كونج مثلا- هو الاحتجاجات المضادة من جانب أنصار اليمين المتطرف، أى وجود مواطنين فى مواجهة مواطنين وهى إشارة على وصول الاستقطاب والانقسام داخل المجتمع الأمريكى إلى نقطة خطيرة تنذر باندلاع حرب أهلية، وهو ما ردده ترامب أكثر من مرة آخرها فى سبتمبر الماضى حين هدد بأن «البلاد ستشهد حربًا أهلية حال عزله الكونجرس».