من بين كل ما قيل عن مصر والمصريين، يحضرني بشدة قول للشاعر جمال بخيت، إذ يصف المصري بأنه كثمرة البطاطا. حين تقتلع البطاطا من الأرض، تكون جامدة، خشنة الملمس، بلا طعم ولا رائحة. فقط عندما تلقي في النار، تصبح لينة، ناعمة، عسلة المذاق، برائحة تعبر المسافات. قال جمال بخيت ما قاله منذ سنوات، وربما لم يصدقه الكثيرون وقتها، ظنا منهم أن رومانسيته الشعرية قد غلبت علي رؤيته للواقع. لكن المؤكد، أن العالم كله يصدقه اليوم وكيف لا، وقد رأوا المصريين وسط النهار، وقد ظهر أجمل ما فيهم، ظهر ما كان خافيا تحت غبار القهر والكبت والفقر، ما سقط منهم سهوا في طوابير العيش، أو السفن الغارقة، والقطارات المحترقة. عاد المصري الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ، وقرأ عنه العالم. الرئيس الأمريكي باراك أوباما قال، «يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر»، بعد أن طالبه صحفي أمريكي في مؤتمر صحفي بإضافة الثورة المصرية للمناهج الدراسية الأمريكية، كي يتعلم شباب أمريكا من أقرانهم المصريين، وهو نفس ما طالب به ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني. مازلنا في أمريكا، لكن الأروع من التصريحات الرسمية المنقمة، والرؤي الإعلامية المدروسة، حادثة رواها لي أحد الأصدقاء، فقد توجه إلي الولاياتالمتحدة في الرابع عشر من الشهر الجاري، فرفع موظف الجوازات جواز سفره معلنا أنه مصري، ليضج مطار نيويورك بتصفيق حاد، دام لنصف دقيقة تقريبا. رواية كان من الصعب، بل من المستحيل تصديقها قبل شهر واحد فقط. «لا جديد في مصر، فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة»، هذا ما جاء علي لسان سلفيو بيرلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي. والحق يا دولة الرئيس، أن المصريين لم يصنعوا التاريخ وفقط، بل محوا ما سجله عنهم التاريخ لعقود متواصلة، من صفات الرضوخ والخنوع والاستكانة، أي أنهم أعادوا كتابة التاريخ. رئيس النمسا هاينز فيشر قال إن شعب مصر هو أعظم شعوب الأرض، ويستحق جائزة «نوبل للسلام»، وهي نفس المبادرة التي أطلقها الدكتور فاروق الباز، بدعوة الشخصيات العامة والمؤسسات لحشد المؤيدين لترشيح شباب الثورة البيضاء لجائزة نوبل للسلام. وهو أمر ليس مستبعدا، بعد أن رصدت جميع وسائل الإعلام العالمية سلوك ثوار مصر. فقد جاء علي شبكة cnn الإخبارية أنها «المرة الأولي التي يقوم فيها شعب بثورة، ثم ينظف الشوارع بعدها» الشبكة الإخبارية الأولي في العالم لابد لها أن تندهش، ويندهش العالم، فقد أغرق الشباب الجدران والأسوار بالعبارات المناوئة للنظام والرئيس، ثم انهمكوا في تنظيفها وغسيلها فور تحقق مطالبهم، بل وطلوا الجدران القديمة، والأرصفة، وغرسوا الأشجار ورصفوا الشوارع. أبدت الصحف البريطانية اهتماما كبيرا بأحداث ثورة يناير منذ اندلاعها، وحتي نجاحها الساحق بتنحي الرئيس مبارك في الحادي عشر من فبراير. صحيفة الجارديان البريطانية وصفت ما تعيشه مصر الآن ب «اللحظة التاريخية المهمة، التي أعادت ترسيخ مكانة مصر كقائدة للعالم العربي والشعب المصري في الصميم الأخلاقي لهذا العالم». أما الدايلي تليجراف فحملت عنوان «قوة الشعب تصنع التاريخ في مصر». وجاء في صحيفة الإندبندنت الشهيرة أن «ما حدث سيعرف في التاريخ باسم ثورة 25 يناير، وهو اليوم الذي اندلعت فيه الثورة، وسيؤرخ له علي أنه اليوم الذي هب فيه شعب مصر». كما أفردت الصحافة الأمريكية مساحات كبيرة لمتابعة أخبار الثورة، ومتابعة ردود فعل الإدارة الأمريكية يوميا، إذ ألقي الرئيس الأمريكي أكثر من أربعة خطابات خلال أيام الثورة، وظهرت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في خمسة برامج صباحية متتالية للحديث عن مصر، في خطوة وصفها المراقبون بأنها غير مسبوقة. قال الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقالة بعنوان «فرعون بلا مومياء» بصحيفة «نيويورك تايمز»، إن مصر كانت في حالة تصدع وتراجع، وكنتيجة لذلك، تراجع العالم العربي بوجه عام، ولكنها الآن استفاقت بشكل فريد علي أيدي شبابها، الذين لم يضعوا إسرائيل أو الولاياتالمتحدة نصب أعينهم وإنما كرامتهم وحريتهم والتمكين الشخصي». ونقلت الصحيفة نفسها عن بن كاسبيت المعلق الإسرائيلي البارز لصحيفة معاريف قوله : «الأمل والتفاؤل يتدفقان إلي مصر، شجاعة الجماهير جعلتنا نعجب بالمصريين، لقد استطاعوا الوقوف في وجه الرئيس مبارك، الشعب المصري من أعظم الأبطال». أما علي الصعيد الشعبي، فقد توجهت أنظار الشعوب إلي مصر، منها ما يحمل كثيرا من الانبهار، ومنها ما يحمل الكثير والكثير من الغبطة، ومنها ما حمل ردود فعل فورية ملهمة بالثورة البيضاء، وهو ما حدث في اليمن، ليبيا، البحرين، الأردن، الجزائر، عمان وإيران. مازالت الجاليات المصرية حول العالم تستقبل التهاني والتحية في الشوارع والمحال، وقد يصل الأمر في بيروت مثلا إلي تلقي الهدايا المجانية من المحال والمواطنين. وفي مدينة دينانت البلجيكية، شهد مساء السبت إقامة حفل موسيقي لأغاني كوكب الشرق، ابتهاجا بنجاح الثورة المصرية، أحيته مطربة تونسية صعدت علي المسرح متشحة بالعلم المصري. وقد بدأ الحفل بوقوف الحضور دقيقة حدادا علي أرواح شهداء ثورة يناير. وبالتزامن مع الحفل شهد ملعب هيرمان فاندر بورتن الذي استضاف مباراة ليرس وحيرمينال بييرسخوت حمل الجماهير لافتات تهنئ المصريين بعد نجاح ثورة 25 يناير. لم يكن الفنانون والأدباء حول العالم بعيدين عن نبض الشوارع، التي انشغلت بالثورة المصرية. يقول الشاعر والروائي البرازيلي باولو كويلو أن «العالم يتحول للأفضل لأن هناك شعوبا تخاطر بأرواحها لجعله أفضل.. شكرا أيها المصريون». كما بدأ المخرج الأمريكي مايك فارا الإعداد لفيلم حول الثورة المصرية بعنوان face book revolution، أو ثورة الفيسبوك، بالإشارة إلي الدور الذي لعبه الموقع الشهير في تنظيم الثورة المصرية والتواصل بين الثوار، وحشد المؤيدين لها حول العالم، وصولا إلي دوره الحالي كوسيط بين أصحاب الأفكار والمقترحات المهمة لإعادة بناء مصر. ويقودنا الحديث هنا إلي ردود الفعل في ثاني أكبر جمهورية في العالم من حيث عدد سكانها، جمهورية الفيسبوك. فمنذ اندلاع الثورة التونسية في ديسمبر الماضي، وصار الفيسبوك جامعة عربية جديدة، تشهد مبادرات التأييد والمساندة، ومناقشات سياسية حامية، واتخذ معظم العرب وبعض الأوروبيين علم تونس شعارا لهم. ثم بدأت الدعوة لانطلاق الثورة المصرية في الرابع عشر من يناير، بعد هروب زين العابدين بن علي، لتكون في الخامس والعشرين من يناير، الموافق لعيد الشرطة المصرية. ومنذ عودة خدمات الإنترنت بعد الأيام الأولي من الثورة، وحتي اللحظة، يعكس الفيسبوك بصورة ما، كل ما يحدث في مصر، وما كان يحدث في ميدان التحرير. والحق أن تحليل الدور الذي لعبه الفايسبوك، ومازال يلعبه مؤخرا في الحياة السياسية العربية، يحتاج إلي دراسات طويلة، وفهم عميق للتغيير الجذري وفي ديموغرافية المنخرطين في العمل السياسي. إلا أن العين، حتي وإن كانت لغير دارس، لا يمكن أن تغفل ملايين الأعمال المصرية والشعار الأغلب : «ارفع رأسك فوق.. أنت مصري»..!!