تغنى ما عاش بإفريقية، كتب لها أجمل أشعاره، فهو القائل: «وحينما غنيت.. غنيت لعينيك ومسّت شفتى فى وله رموشها حينئذ رأيت فيهما توهج الألم رأيت فيهما العذاب والشموخ والشمم».. إنه الشاعر السودانى محمد الفيتورى (1936 - 2015) الذى ولد فى السودان، وعاش فى الإسكندرية بمصر، كل دواوينه تتغنى بعشقه لأفريقية؛ فقد أصدر ديوانه الأول عام 1955 بعنوان: «أغانى إفريقية»، وديوانه، الثانى: «عاشق من إفريقية» عام 1964، وديوانه الثالث: «اذكرينى يا إفريقية» عام 1965، وديوانه الرابع: «أحزان إفريقية» عام 1966. فى قصائده عذوبة، وصدق عاطفة، تواتيه أبياته الشعرية كتدفق نهر فيندفع إليها معانقًا تموج الموسيقى،وعمق المعنى،تسمع إيقاع قصائده كالطبول، وتراها كراياتٍ يغرسها فى أرض الحُب، ولدت لتبقى،وعاشت لتخلد معبرة بحق عن عاشق من إفريقية وكلنا لها عشاق ومن قصائده التى تجلو عالمه الشعرى المتجدد، ونهجه الشعرى اللافت قصيدته «معزوفة درويش متجول»، ويقول فيها: «فى حضرة من أهوى عبثت بى الأشواق حَدَّقت بلا وجه ورقصت بلا ساق وزحمت براياتى وطبولى الآفاق عشقى يُفنى عشقى وفنائى استغراق مملوكك لكنى سلطان العشاق» .. محمد الفيتورى هذا العاشق الذى كان يكبر هواه كلما كبر فهو القائل «عاشق من إفريقية صناعتى الكلام وكل ثروتى شعور ونغم ولست واحدًا من أنبياء العصر لست من فرسانه الذين يحملون رايات النضال أو يخطون مصائر الأمم لكن لى هوى يكبر كلما أكبر لم أمنحه مرة لملك متوج
إنها مصر
محمد الفيتورى
إن الضوء مسكوب على الأشياء والصورة فى تموج العينين لا ترتجف هاهى ذى الأرض التى تمتد فى خارطة الدنيا وهذا نيلك الإلهى اليدين أعمدة التاريخ والأهرام سقف الكون والأزهر فى جلبابه الضافي وقبة الحُسَيْن.. بستان أيامك فى أيامك الأولي انتفاضاتُ جناح الطائر المسجون فى أصابع اليدين لم تأت.. ولم تذهب بعيدًا أيها الطفل الذى استلقى على قارعة الوقت عجيب أنت مثل الوقت لاتدرك كيف اختلطت أقنعة الموتى وفى أية رؤيا اغتسل العاشق بالذكرى وأين؟ لا ترتجف لم تأت من ماضٍ، ولم تذهب بعيدًا أنت كمن يحلم كانت تنسج الأقدار أرجوحتك المزرقة المصفرة، السوداء كانت مصر تغرورق بالدمع فتبتل السماوات وأشجار السماوات ومساحات المدائن والتصاوير التى ترسمها فى الليل وأقواسك فى الليل وأصوات المداخن ربما أبصرتها تائهة تركض فى الغيم فاستيقظت مقرورًا من الخوف لماذا انفرطت سبائك الفضة فى الأرض وقَصَّت شعرها الشمس لماذا الأرض، والحنطة، والشمس احملوا يا أيها الآتون ألواح البدايات وكونوا بذرة الفجر الذى ينمو جنينًا فى حشاها إنها مصر إنها مصر ولكنك لم تأت، ولم تذهب سلام لانكفاء الأرجل المثقلة التعبي سلام لارتعاشات الأيادى والمناجل لحائط الصفصاف، والكافور والحور، وأمواج المشاعل ليتجه الناي وآهات الأراغيل وإيقاع الجداول لقامة سمراء، يكسوها الصبا الحلو وخلخال يغازل لوجه فلاح عن التربة والتاريخ، والحُب يقاتل وللعصافير التى تجرى مع الأطفال فى عيد السنابل لا ترتجف إنك لم تذهب، ولم تأت غفوت أعوامًا وها أنت صاح حالم بين يديها إنها مصر.. إنها مصر