بدأ الحديث عن «تيسلا» يتردد مع خروج السيارة الكهربائية التى تحمل هذا الاسم للنور.. منذ أكتوبر 2015 ولكن، ليس الحوار هنا عن سيارة تيسلا، بل عن نيكولا تيسلا الرجل الصربى الذى -منذ حوالى قرن- اخترع العديد من الاختراعات التى نستمتع بها ليومنا هذا، منذ اخترع التيار المتردد، والاتصال اللاسلكي، والمحرك الكهربى الحديث، والتكنولوجيا الحديثة لليزر والرادار، وأشعة إكس النيون، والروبوتات، وأجهزة التحكم عن بعد، وتكنولوﭽيا الهاتف الخلوي، وتكتيكات حرب النجوم.. ورغم هذا، أغفل التاريخ هذا الإرث العالمى لهذا الرجل الذى تضاهى شهرته إسحق نيوتن، وإينشتاين، ومنافسه توم إديسون! لماذا لا يتذكر العالم نيكولا تيسلا؟ ولد نيكولا تيسلا سنة 1856 فى قرية سميلجان بكرواتيا الحالية، ولما بلغ عمره 28سنة، انطلق بعقله العبقرى حاملًا دراسة جامعية غير مكتملة، وسيرة مهنية مشرفة نحو نيويورك عام 1884، ليعمل لدى إديسون الذى يكبره ب 9 أعوام، وعُرف كأشهر مخترع. حيث اخترع جهاز الفونوغراف، والمصباح الكهربي، ونظام التوزيع الكامل للكهرباء، ولكنه كان يعتمد على التيار الكهربائى المستمر الذى ينطوى على عيب خطير.. وهو تدفق التيار الكهربى فى اتجاه واحد؛ معتمدًا على محركات بخارية تشغل مولدات كهربية تولد تيارًا مستمرًا ينتقل عبر الأسلاك إلى المصابيح، إلا أن الطاقة الكهربية تضعف مع ازدياد طول الأسلاك ولا تعود تصلح لتشغيل المصابيح بعد مسافة 2 كم تقريبًا، لذا وجب وجود محطات توليد على مسافات متقاربة ومستمرة، وهو أمر غير اقتصادى وغير عملي! وكان حل المشكلة طبقًا لقانون جول الكهربى يتلخص فى وجود تيار كهربى منخفض وجهد عال! كان إديسون يعرف خطورة نقل آلاف الﭬولتات بشكل آمن إلى البيوت، حيث لا يقدم التيار المستمر حلًا بديلاً. فى الوقت نفسه، كان هناك نوع تيار آخر اسمه التيار المتناوب.. ومثل الكثيرين، آمن تيسلا بأنه الحل الوحيد والبديل المستقبلى عن التيار المستمر. إذ إن التيار المتناوب بخلاف المستمر يغير اتجاهه بشكل دوري، وهذا التغير ينتج تغيرًا آخر فى ملف مجاور بحيث يمكن تغيير الجهد فى التيار الجديد حسب الرغبة، وهذا هو محور عمل المحولات الكهربائية! ولكن كان لهذا التيار مشاكله المستعصية أيضًا! فبينما كان يعمل جيدًا فى تشغيل المصابيح، كان لا يوجد ثمة محركات تعمل عليه، وهو أمر حاسم فى الصناعة، وغير قابل للحل. فكان بإمكان إديسون الارتياح لسيطرته على سوق الكهرباء طالما بقى هذا المحرك غائبًا..
فرصة ويستنجهاوس ثم جاء تيسلا ومعه مفتاح سر الكهرباء بالعصر الحديث! قابل تيسلا إيديسون مقدمًا له توصية من أحد مدراء شركته فى باريس كتب فيها: عزيزى إديسون، أعرف رجلين عظيمين، أحدهما أنت والثانى هو هذا الشاب. فقام إديسون بتوظيفه على الفور، فكرس تيسلا كل حياته للعمل. حتى كان يعمل أكثر من 18 ساعة فى اليوم، دون توقف!.. ثم كان الفراق عن إديسون عندما وعده براتب قدره 50 ألف دولار، إن استطاع تطوير مولداته الكهربائية، وعندما أتم تيسلا المهمة الصعبة طالبه بالمال.. فأنكر إديسون مجيبًا: أنت فقط لا تفهم فى الدعابة الأمريكية يا تيسلا! فاستقال تيسلا عن إديسون على الفور، مدركًا أن عالم الأعمال مليء بالخداع، ثم تحرر من وهم المختر ع العظيم إديسون .. وكان هذا فى ربيع 1885 بعد أقل من عام من عمله مع إديسون. وكان هذا خطأ إديسون وقصر نظره الذى يصيب كثيرًا من المدراء الذين يوفرون حفنة من المال ويخسرون- بسوء تقديراتهم- أضعافه. عاش تيسلا بعد ذلك عامين، عاشت قساوتهما طويلًا فى ذاكرته. فى العام الأول، تعرف على مستثمرَين احتالا عليه وتركاه مفلسًا، فاضطر للعمل من أجل قوت يومه، من خلال حفر خنادق الكابلات التابعة لشركة إديسون، ولكن كما يحدث أحيانًا.. تقدم الحياة بعض الفرص، إذ تعاطف معه رئيس عمال الحفر، وعرّفه على صديق اشترك معه فى تأسيس شركة باسم تيسلا، وفى إبريل 1887 أسسا مختبرًا قريبًا من شركة إديسون. وكانت تلك الفرصة هى التى حولته من مخترع فقير إلى مدير شركته الخاصة، فأثرت تلك الفرصة على مسيرة الحضارة الإنسانية كلها، ففى مختبره وضع تيسلا حجر الأساس لانطلاق العصر الجديد الكهربائي، ناقلًا العالم إلى عصر جديد لم يعهده من قبل. فحالما حصل على بعض الظروف العادلة التى يستطيع العمل فيها.. كشفت عبقرية تيسلا عن نفسها، فأنجز محركه العبقرى الذى اعتمد على خلق حقل مغناطيسى دوار، لتشغيل ملفات للمحركات بتوقيت متتابع، ولم يقف عند ذلك، فاخترع أيضًا نظامًا كاملًا لتوليد التيار المتناوب من المولدات والمحولات وأجهزة التحكم وطرق النقل والتوصيل.. ما جعلها أهم براءات الاختراع فى تاريخ العلم. إنه النظام الكهربائى نفسه الذى لا يزال العالم يستخدمه حتى اليوم! محاولات تشويه إديسون لتيسلا عرض تيسلا نظام محركه الكهربائى فى محاضرة عام 1888، فتحمس له واحد من أكثر مؤيدى التيار المتناوب، وهو المخترع ورجل الاعمال الأمريكى جورج ويستنجهاوس.. منافس إديسون اللدود، فى سباق توزيع الكهرباء بالولايات المتحدة. وفى صفقة نقلت تيسلا إلى الثراء السريع، اشترى ويستنجهاوس جميع براءات اختراعاته المتعلقة بالتيار المتناوب مقابل مليون دولار! يتلقاها تيسلا عن كل قدرة حصانية ينتجها نظامه الكهربائي! ولأول مرة، يشعر إديسون بخطر حقيقى يحدق بإمبراطوريته، حيث كان نظام تيسلا أفضل من نظامه فى كل شيء، لكن التيار المتناوب عند بعض الترددات كان أكثر خطورة من التيار المستمر، فقرر إديسون إعلان الحرب على التيار المتناوب وداعميه، مسلحًا بنفوذه وشهرته من جهة، وغريزة الخوف لدى الناس من جهة أخرى! فبدأ إديسون أشرس حمله تشويه إعلامى عرفها التاريخ.. عُرِفت باسم حرب التيارات الكهربائية! أخرج فيها إديسون أسوأ ما بجعبته، فأخذ موظفوه يديرون تظاهرات عامة يصعقون فيها الحيوانات باستخدام التيار المتناوب فى مشاهد كريهة لا تُنسى، وأخذ يروج لتسمية هذه الطريقة الوحشية فى القتل ب «طريقة وستنجهاوس»، وفى تصعيد من مساعديه .. تم إنشاء أول مرسى إعدام باستخدام التيار المتناوب!.. وفى عام 1890 تم تجربة هذا الاختراع الهمجى (الكرسي) على أحد المجرمين ليموت بإحدى أقسى الميتات التى شهدتها حضارة الإنسان.. فى حالة قتل مقززة تطلبت عدة محاولات مريعة من الصعق الكهربائي! كانت حملة إديسون فعالة، فكان من السهل تخويف الناس حديثة العهد بالكهرباء.. لكن التعارك مع عبقرى مثل تيسلا لم يكن بهذه السهولة، حيث كان بإمكانه اختراع ما لا يمكنه إديسون! ففى عروض كهربائية سحرية قام تيسلا بعرض مئات آلاف الﭬولتات التى تمر من خلال جسده دون أى ألم أو أثر، كاشفًا أن التصميم المناسب للتيار المتناوب يجعله آمنًا مهما كان الجهد عاليًا! وهكذا، كانت هذه العروض ضربة قاضية لإديسون وحملته الهيستيرية.. ثم انتهت حروب التيارات الكهربائية وبدأ عصر الكهرباء فى سنة 1893 عندما فاز ويستنجهاوس بعقد تمديد الكهرباء لأول معرض كهرباء عالمى يدار بالكهرباء فى مدينة شيكاغو، فنجح المعرض نجاحًا باهرًا أذهل الحضور بإضاءاته الملونة ومصابيحه الوهاجة، وكانت من أروع العروض التى لم يشهدها العالم من قبل، ورسخت طويلًا فى الذاكرة الأمريكية.. كل هذا تم إنجازه بعقل تيسلا. وخلال سنوات قليلة انتشر التيار المتناوب ولم تعد ترى محطات إديسون الذى خسر حرب التيارات الكهربية التى أعلنها بنفسه، وكان هذا نكبة على أعماله. بنظام تيسلا، أصبح بالإمكان وضع محطات التوليد ذات الضوضاء والروائح الكريهة بعيدًا عن المناطق السكنية، وصار بالإمكان أيضًا نقل الكهرباء لمئات الكيلومترات بفاعلية كبيرة، حيث توضع الأسلاك الحاملة للجهد العالى على أبراج بارتفاع عال، ثم تحول بالمحول الكهربية إلى جهد منخفض لتستخدم فى البيوت والصناعة، حيث إن المسافة القصيرة نسبيًا بين المحول والمنزل تصل بالخسارة الكهربائية للحد الأدنى. اليوم، كل الكهرباء التى فى العالم تقريبًا يتم إنتاجها بنظام تيسلا.. التى هى ليست سوى واحدة من إبداعات تيسلا العبقرية! التى كانت مقدمة لاختراع تقنية الاتصالات اللاسلكية المستخدمة فى البث الإذاعى والتليفزيوني. وتقنية التحكم عن بعد. والتقاط أول صور الأشعة السينية.. مثلما طور أيضًا تقنية النيون، والفلورسنت، واختراع تقنية الصواريخ الموجهة!