حكى محمد ملص «المخرج السورى الكبير» أنه توقف عن عمل الأفلام بعد حادثة قاسية تعرض لها، حاول أصدقاؤه أن يعيدوه إلى عالمه الحقيقى «السينما» وفشلوا ويأسوا، طلب منه يوسف شاهين أن يمثل فى أحد أفلامه، رفض ملص بالطبع، فأصر شاهين وضغط وعاند حتى وافق ملص، بعد انتهاء الفيلم صارحه شاهين، أنه قصد أن يعيده بالقوة إلى موقع التصوير ولو أمام الكاميرا فتعود إليه ذكرى شغفه بالسينما، ونجحت خطة شاهين وعاد ملص للإخراج، فيلم «فتح أبواب السينما محمد ملص» إخراج «نزار عندارى» الذى عرض فى البانوراما الدولية فى مهرجان القاهرة الدولي، كان بالنسبة لى مفجر الذكريات «قمة النوست لجيا» أعادنى إلى سنوات الثمانينيات. حين جاء محمد ملص إلى مهرجان القاهرة السينمائى حاملا أهم أفلامه «أحلام المدينة»، وكنت وقتها أدخل فى «إطار المهرجان» تسيطر على تيمات «سحر القاعات المظلمة» هذه جملة الأستاذة رؤوف توفيق أول من علمتنى كتاباته حب السينما فأتبدل وأتعلم وأرتقى، وكان فيلم «أحلام المدينة» أحد الأفلام التى عاشت فى وجداني. حكاية شاهين وملص تشبه الحكاية التى دفعتنى للعودة إلى الكتابة بعد توقف طويل وحكايتى هى : «طلبت منى صديقة اختارت أن تعيش بعيدًا، وابنة حبيبة أبعدت رغما عنها، أن أكتب لهما عما شاهدته من أفلام البانوراما الأوروبية التى عرضت فى سينما زاوية قبل مهرجان القاهرة بأسبوع واحد، فاستجبت وكتبت لكل منهما خطابين عن كل فيلم، فعدت وأعادتنى الكتابة إلى الكتابة، وأعادنى مهرجان السينما «كالعادة» إلى روحى أو أعاد لىّ روحي. هذا الإحساس الغريب الذى يلازمنى طوال الوقت الذى لا أعرفه، يتغير بمجرد دخولى فى «إطار المهرجان»، بمجرد أن أنظر إلى جدول عرض الأفلام «البروجرام» هذه الدورة كان مريحا ومرتبا ومتوافرا، ثم البحث والتردد وسؤال أصدقائى النقاد، هذه المرة كانت المعلومات متدفقة وغزيرة ، ثم حجز التذاكر واللقاء صدفة مع أصدقاء لا أراهم إلا فى المهرجانات، حتى البكاء فى الأفلام وهذه المرة تفوقت على نفس فبكيت فى ندوة! الجمهور هذا العام كان كبيرًًا، الأعداد لافتة للانتباه، فى اليوم الأول كان الجمهور يصطف فى طوابير طويلة تلتف لتمأ كل مكان فى حديقة الأوبرا منذ التاسعة صباحا، مشهد تناقلته مواقع التواصل الاجتماعى «صفحات المهرجان على فيس بوك وأنستجرام رائعة». كان الحديث هو إعادة عرض فيلم الافتتاح الرجل الأيرلندى مجانا للجمهور، وعندما نفذت التذاكر ظل الشباب مصطفين ليحصلوا على بطاقات أخرى لعروض مختلفة، وقفت ساعة ونصف الساعة لأصل إلى شباك التذاكر وأحجز فيلم «فيتالينافاريلا» ويا له من فيلم كان بداية رائعة. أعود للساعة والنصف مدة الانتظار، هل تضررت؟ هل شعرت بالملل ؟ هل فكرت فى الانصراف والعودة فيما بعد ؟ الإجابة على كل الأسئلة لا. كنت فقط محلقة، أعيد النظر فى الجدول والبروجرام، أجرى حوارات عفوية مع من حولى من الشباب، أستمتع بالبهجة وهى تتسلل ببطء إلى ثنايا روحى وتطرد الغربة. فيلمى الأول كان فيلمًا برتغاليًا- يعرض فى القسم الرسمى خارج المسابقة اسمه هو اسم البطلة «فيتالينا فاريلا»، وهو يتكون من لوحات تشكيلية متتالية، كل صورة على الشاشة بلا استثناء هى لوحة من الظل والضوء، الأسود والأبيض، القصة بسيطة ومتكررة وشديدة الحزن، قصة سيدة مهاجرة، تتمكن أخيرا من العودة إلى لشبونة، بعد 25 سنة غياب قضتهم فى كاب فيردى بعيدا عن زوجها، فتصل بعد موته بثلاثة أيام. لتعيد اكتشافه من خلال أصدقائه، وبيته، واكتشاف ماضيها. قصيدة حزينة عن الفقر والغربة والوطن. كان الفيلم بالنسبة لى يستحق أن يكون فيلم مهرجان، وهو حاصل على ذهبية لوكارنو، ومخرجه بيدر كوستا سبق أن فاز جائزة لوكارنو، أيضا بداية موفقة نقلتنى إلى العمق دفعة واحدة. ثم من فيلم إلى آخر «بيك نعيش التونسي، غبت طويلا الصيني، سيدة البحار السعودي، جدار الصوت اللبناني، وغيرها اثنا عشر فيلما طويلا وعشرة أفلام قصيرة». تنوع حقيقى فاتنى الكثير والجميل بشهادة النقاد والجمهور، لكنها قدراتي. فى المهرجان لا أهتم بما يفوتني، مادمت مثل جاهين «النشوة قلبى ارتوي». •• أتوقف عند أجمل اللحظات ومقياس الأحب عندى هو الدموع ! بما أننى وصلت إلى البكاء فأنا الآن أعيش اللحظة الأجمل. فى نهاية فيلم «سمير» المخرج العراقي، اسم الفيلم «بغداد فى خيالي» بكيت وفوجئت بدموعى التى استمرت بعد إضاءة أنوار قاعة العرض، كدت أرفع صوتى مخاطبة نفسى «أنا أهو»، أنا التى تبكى فى القاعات المظلمة فقط حضرت، أنا هنا. أحببت الفيلم لا أعرف لماذا ؟ ربما لأننى وقعت فى غرام الممثل «هيثم عبدالرازق»، أو شخصية الشاعر التى يؤديها فى الفيلم، الشاعر المعذب جسديا وروحيا، أحببت أظافره المخلوعة، أحببت ضعفه وانهياره الذى كان سببًا فى مقتل أخيه، أحببت قوته وتضحيته لإنقاذ ابن أخيه، أحببته وأحببت الجميلة زهرة غندور الممثلة العراقية،وأحببت الشخصية التى تؤديها إن كانت ليلى أو سهير، أو ربما لأننى أحب بغداد عن بعد أو لأننى أحب سنان أنطون.. لا أعرف فكل ما أعرفه أن «بغداد فى خيالي» فيلما هزنى وأبكانى وهذا لو تعلمون عظيم. •• الفيلم الثانى لم أبك خلال عرضه، بل بكيت أثناء الندوة التى عقدت مع المخرجة. الفيلم هو «الخرطوم أوفسايد»، فيلما تسجيلى طويل للمخرجة «مروى زين». يحكى الفيلم قصة كفاح بنات السودان للاحتراف بفريق كرة القدم النسائية، فيلم حقيقى صادق، دخل قلبى من المشهد الأول إلى المشهد الأخير، بجمال روح وفكر البنات، مرجعهن وقوتهن، حبهن للحياة وتمسكهن بحقوقهن فى عمل ما يردن رغم قسوة الظروف. أما مروى «المخرجة» فهى استثنائية بكل معنى الكلمة، هى سودانية الأصل مصرية النشأة تعلمت فى القاهرة وتدربت على أيدى مخرجين كبار، وأحبت بلدها الأصلى دون أن تراها، عندما قررت أن تذهب إلى الخرطوم لعمل فيلم تسجيلى قصير عن بنات يلعبن كرة القدم النسائية كانت تعتقد أنها ستنجز عملها فى أسبوعين أو ثلاثة لكنها لم تستطع أن تقاوم سحر التعرف على وطنها الأم، وتحولت البنت وقضيته من مجرد مادة للفيلم إلى صديقات وقريبات وجزء من حياتها، لم تتمكن من الانفصال عنه بسهولة، كانت مروى تحكى تجربتها فى الندوة ومقدار حبها للعمل، فينقطع صوتها وتتوقف عن الكلام، حتى تتمكن من كبح دموعها تسكت وتبتسم، فيكون صمتا بليغًا، ومشاعر تنتقل إلينا بمنتهى السلاسة، فى اللحظة التى توقفت فيها مروى عن الكلام عندما كانت تحكى عن صعوبة التصوير فى شوارع الخرطوم وخطورتها، وعن صعوبة لعب البنات الكرة فى شوارع الخرطوم وخطورتها، عن أنها كانت تقوم بأخطر عملية فى وقت واحد، لعب الكرة والتصوير فى الشوارع ثم توقفت لتمنع انهيار الدموع، تركت أنا الحرية لدموعى ونظرت إلى جوارى لأجد صديقتى بسنت تبكى هى الأخرى وتضحك فى آن واحد. قدمت مروى زملاءها الذين عملوا معها بالفيلم تكلمت عنهم، عن جهدهن، وقدمت أستاذتها وتكلمت عنهم، وأصدقائها وأفضالهم عليها، كادت مروى أن تقدمنا نحن جمهور الفيلم وجمهور الندوة. أكتب هذه الكلمات وأنا فى انتظار دخول أفلام اليوم الأخير فى المهرجان أحاول أن أتعرض للبهجة حتى آخر لحظة. عندى أفكار وكتابة أضعاف هذه السطور، لكننى أفضل أن أدخل فيلما من أوله، أفضل ألا أضيع دقيقة سحر على أن أكتب كنوع من الأنانية المشروعة. •• شكرا مهرجان القاهرة السينمائى الدولى 41.. شكرا لكل من ساهم فى أن أنجو من الهم لمدة أسبوع كامل.