فجأة أصبحنا نلقى اللوم على وسائل التواصل الاجتماعى «السوشيال ميديا»، مثل (الفيسبوك- التويتر- الانستجرام)، بأنها سبب مشاكل ونواقص حياتنا. وأصبحت «السوشيال ميديا» السبب الرئيسى فى «قلة» أدب الشباب وثوراتهم السياسية، والغش فى الامتحانات، والعنف عند الأطفال، والمشاكل الزوجية، والإباحية وفساد الأخلاق، والأمراض النفسية، وانتشار الجريمة...... كأننا مجتمع ملائكى، وجاءت «السوشيال ميديا» وسوست فى نفوسنا فجعلت منا مجتمعًا من الخبثاء والشياطين!! هذه الاتهامات «للسوشيال ميديا»، نخوضها مع كل اختراع جديد. كان البعض يقول إن الكهرباء تفسد الأخلاق لأنها تجعل الناس تسهر. وكان البعض يطلق على التليفزيون «شيطان المنزل» لأنه ينشر الموسيقى والغناء والأفلام السينمائية. وكان هناك من يدعى أن أصل البلاء هو انتشار الفيديو والفضائيات لأنهما يعرضان الأفلام الممنوعة. وجاء عصر «الإنترنت» و«الموبايل» وقالوا إنهما ينقلان كل الثقافات العالمية المفسدة. وأخيرًا صرنا فى عهد إدمان «السوشيال ميديا» ليس فقط للأطفال والشباب بل للكبار أيضا. وبعيدًا عن الاتهامات المرسلة، فالسوشيال ميديا غيرت كثيرًا فى حياتنا الاجتماعية، وأضفنا نحن المصريين لمحاتنا وثقافتنا الخاصة على تطبيقاتها. غيرت علاقتنا العائلية أتذكر عندما هاجر خالى وخالتى إلى أمريكا منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لم نكن نستطيع التواصل معهما إلا عبر التليفون الأرضى المشترك بخدمة الاتصال الدولى من الهيئة القومية للاتصالات بأسعار غالية جدًا فى ذلك الوقت. لذلك لم يكن التواصل مع الأهل المهاجرين يتم إلا فى الأعياد والمناسبات السعيدة أو التعيسة. الهجرة كانت مؤلمة وقاسية جدًا -آنذاك- لأنها كانت تعنى الانقطاع التام عن من تحب. اليوم تستطيع أن تتواصل يوميًا مع الشخص المهاجر عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى بأسعار زهيدة جدًا. وهكذا، من خلال التواصل الدائم صار شعور البعد والهجرة أكثر قبولًا وأقل ألمًا.. أغلب العائلات المصرية أنشأت لنفسها جروبا مغلقا على واتس آب والفيسبوك، تجمع فيه أفراد العائلة داخل وخارج مصر، وتنقل من خلاله التفاصيل اليومية والمناسبات العائلية فى شكل رسائل قصيرة وصور وفيديوهات. الأرشيف العائلى أيضا له مكانة مميزة، حيث يتسابق الكبار فى وضع الصور الأبيض والأسود القديمة، لتذكير الجيل الجديد بأصولهم العائلية. لا شك إن هذه الجروبات تزيد الود والتضامن العائلى والتواصل بين الأجيال. وفى الوقت نفسه، تخلق الكثير من التوترات العائلية. وخاصة عندما يستعرض أحد أفراد العائلة ممتلكاته ورحلاته الفاخرة، أو عندما يظهر أحد الأفراد محبة زائدة لشخصية معينة دون الآخرين عن طريق إشارات الإعجاب أو الحب. وفى تقديرى هذه الجروبات وما تحتويه من رسائل مكتوبة وصور حديثة وقديمة يمكن أن تشكل مادة غنية لدارسى التاريخ الاجتماعى للمصريين.. صارت السوشيال ميديا أيضا مصدرًا أساسيًا للتسلية والألفة لكبار السن، تنزع عنهم سأم الوحدة وأوقات الفراغ الطويلة. لذلك تجد الكبار يمارسون نشاطًا على السوشيال ميديا مثل الشباب تقريبًا. تحولت الأعياد الدينية ومجاملات الفرح والمواساة فى الحزن إلى عبارات مكررة نمطية وكروت معدة سلفًا من صناعة السوشيال ميديا. دفء المشاعر الذى كنا نشعر به عندما نقترب من بعضنا البعض فى الفرح والحزن، هل صرنا نشعر به عندما تمتلئ صفحات الفيسبوك بالقلوب الحمراء والورود !!! يجوز الإجابة عند البعض نعم، والبعض الآخر لا. السوشيال ميديا الإعلام الرسمى للمواطن العادى والجهات الرسمية الصفحة الرسمية على السوشيال ميديا لأى مواطن عادى هى بمثابة صحيفة إعلامية وإعلانية عنه. تقول لك من هو أو هى وكيف يحب أن يراه الآخرون. ويستطيع المتابع لصفحة أى شخص أن يحدد ما هو وضعه الاجتماعى،وما هى اتجاهاته الدينية والسياسية والاجتماعية، وما هى رياضته المفضلة، وما هى أنواع الطعام التى يحبها. وذلك من خلال تحليل بسيط لما يكتبه أو ينشره من صور وأفلام وما يبديه من إعجاب أو غضب أو حزن على صفحات الآخرين أو حتى صمت وتجاهل.. وإذا كانت هناك شركات كبيرة تدفع أموالًا طائلة لمراكز الأبحاث لتحليل صفحات «السوشيال ميديا» وتحديد الاتجاهات التسويقية لجمهورها وتصنيفها حسب العمر والجنس والمناطق الجغرافية والخلفيات التعليمية والاجتماعية، وذلك لتسهيل عملية بيع السلع للمشتركين على صفحات السوشيال ميديا، فإن هناك مواطنين عاديين بارعون أيضا فى مراقبة وتحليل صفحات أصدقائهم وتحديد اتجاهاتهم. وقد يستخدمون هذا التحليل فى أغراض جديدة، وأحيانًا أخرى فاسدة وعاطلة. ومثلما أنشأ محمد على جريدة الوقائع المصرية عام 1828 للتعبير عن اتجاهات الدولة، ونشر قوانينها وقراراتها الرسمية، اليوم أنشأت كل وزارت الدولة وأجهزتها الرسمية صفحات رسمية على السوشيال ميديا للتعبير عنها ونشر كل استراتيجياتها وأنشطتها وإنجازاتها. واليوم تنشر جريدة الوقائع المصرية أعدادها على صفحتها الرسمية على الفيسبوك، وحتى أصغر الإدارات المحلية فى أصغر قرية مصرية لديها صفحة على الفيسبوك. وبذلك انتهى دور الصحافة اليومية الورقية فى نشر أخبار الدولة لأن كل قطاعات الدولة تقريبًا لديها صفحات إعلامية على السوشيال ميديا أسرع وأكثر دقة من الصحافة اليوم. فلماذا يقرأ المواطن أخبار الدولة فى الأهرام بينما يستطيع أن يعرفها من مصادرها الأصلية. ورغم ذلك يبقى للصحافة دور عظيم فى متابعة وتقييم هذه المادة الهائلة المنشورة وتحليلها وتقديمها للقارئ بصورة بسيطة. لقد صارت «السوشيال ميديا» دون منازع جهازًا رقابيًا شعبيًا، واستطاعت فى السنوات الأخيرة تحريك كثير من قضايا الفساد والموضوعات الاجتماعية إلى أن وصل الكثير منها للقضاء وأجندة الدولة. الحقيقة، أن «السوشيال ميديا» ليست ملاكًا ولا شيطانًا. فالخير والشر، الصلاح والطلاح قابعان فى نفس وعقل الإنسان وليس السوشيال ميديا.