تولدت فكرة «مهرجان القاهرة السينمائى الدولى» كحُلم فى ذهن متعدد المواهب والألقاب كمال الملاخ عام 1968، واستنفر كل رواد عصره من عاشقى السينما ومبدعيها لمساعدته فى تحقيق حلمه الذى كان مواتيًا لرياح عتية عاصفة على صعيد السياسة والأوضاع الداخلية فى مصر وأيضًا على الصعيد العالمى. تمهل الملاخ ورفاقه فى إطلاق مهرجان سينمائى دولى، فقد جاء تأسيس «جمعية للنقاد» والدولة تخوض حربًا اشتعلت قبل 16 يومًا من إشهارها، وخلال السنوات الثلاث التالية لتأسيسها وقبيل إطلاق الدورة الأولى من مهرجان القاهرة، كانت الجمعية تقوم بتقديم عروض سينمائية أجنبية، كعرض أول وحلقات بحث لهواة النقد والإبداع السينمائى بفروعه. تأسيس مهرجان القاهرة السينمائى كان الملاخ قد بدأ التفكير فى تأسيس مهرجان سينمائى دولى فى مصرعام 1968 أى قبل ثمانى سنوات من انطلاق الدورة الأولى للمهرجان طبقًا لما ذكره الناقد سمير شحاتة فى كتابه «الفرعون الأخير». أراد الملاخ حينها أن ينبه المسئولين، ويلفت نظرهم إلى أهمية المهرجانات الفنية وأثرها الكبير، فكتب فى مقاله الشهير (ملامح صغيرة) فى جريدة الأهرام قائلًا: «سؤال كثير ما أردده.. كلما سمعت عن مهرجان دولى يقام، لماذا لا نقيم مثله.. فى أسوان أو الأقصر شتاءً؟ أو سيدى عبدالرحمن ومرسى مطروح صيفًا.. سياحة وفن وتعريف بالهدوء والخيال فى بلدنا، للجيل الجديد من أهل (بلاد بره)!! وكان هذا نداءً توجه به فى قالب سؤال إلى المسئولين الذين بيدهم إمكانيات التحقيق والتنفيذ، وبعد أقل من عشر سنوات، أصبح «مهرجان القاهرة السينمائى» الدولى واقعًا تتجه إليه أنظار المعنيين بالسينما وفنونها. فى برلين عندما قال الملاخ لزملائه: «تعالوا نعمل مهرجان» وكان بينهم مجموعة نقاد يمثلون مصر فى مهرجانات عديدة «كان، إسبانيا وإيطاليا وموناكو وبرلين» أثار فى نفوسهم الغيرة بأن يكون لمصر مهرجان سينمائى دولى، وفى صيف 1973 فى مهرجان برلين السينمائى، كان يجلس الملاخ مع الناقد أحمد ماهر ومارى غضبان الناقدة بدار الهلال وفوميل لبيب بمجلة المصور وعبدالمنعم سعد مدير إدارة المهرجانات بمؤسسة السينما ودار الحديث عن السينما العالمية والمهرجانات الدولية والسينما المصرية غير معروفة عالميًا وسط كل هذه التيارات الفنية المتجددة، فصاح الملاخ: «هل هذا معقول؟..مصر بكل ما فيها.. ليس فى حاضرها ظاهرة فنية؟» وقالو: «ماذا تقصد؟».. قال: «تعالوا نعمل مهرجان ولو متواضع.. ونتركه يكبر بعد ذلك». وفى عام 1974 قدَّم الملاخ دراسة وافية إلى مجلس إدارة الجمعية بحضور يوسف السباعى وزير الثقافة والرئيس الفخرى للجمعية، عن كيفية إقامة المهرجان، فقرر السباعى اتخاذ خطوات تنفيذية سريعًا لتكون مصر سباقة وصاحبة الريادة فى المنطقة باحتضانها أول مهرجان سينمائى دولى. أغسطس 1976 « سنة أولى.. مهرجان القاهرة» اعتمد مهرجان القاهرة السينمائى فى تمويله على الجهود الذاتية بشكل كبير بفضل كمال الملاخ. وفى ظل دعم حكومى محدود، تقرر إقامة حفل غنائى كبير ومن إيراد الحفل تكون البداية المادية للمهرجان، غنى فى الحفل «عبدالحليم حافظ ووردة ورقصت فيه نجوى فؤاد»، وكان قد تم الاتفاق مع أصحاب دور العرض على نسبة من الدخل.. «نجوى فؤاد وأول راعى رسمى» من الاحتياجات الأساسية للمهرجان توفير الإقامة فى أحد الفنادق الكبرى للنجوم والوفود الأجنبية . الفنانة نجوى فؤاد المعروف عنها حبها الشديد للسينما كان لها دور مهم فى حل هذه المشكلة. كممثلة ثم منتجة، وكان رصيدها فى ذلك الوقت بالسينما أكثر من مائة فيلم وبحكم علاقة الصداقة التى جمعتها بالملاخ. تحدث كمال الملاخ إلى نجوى فؤاد، وتمكن من خلالها الحصول على موافقة زوجها فى هذا الوقت «سامى الزغبى» مدير فندق الشيراتون على تدبير الإقامة الكاملة المجانية لضيوف المهرجان كأول تطبيق لنظام «الراعى» للمهرجانات فى مصر، وكان المطلوب طبقًا للوائح الفندق سداد مبلغ رمزى، وهو ما تكفلت به أيضًا نجوى فؤاد. أما دور العرض التى ستستقبل أفلام المهرجان واختيار إحداها لحفل الافتتاح فقد تم الحصول مجانًا على سينما قصر النيل من صاحبها مصطفى جعفر بمساحتها الكبيرة وموقعها المناسب وشكلها المشرف.. وكذلك خصصت سينما ميامى قاعة لعروض المسابقة الدولية للأفلام الطويلة والقصيرة والأفلام التى تعرض خارج المسابقة. وسائل الاتصال والفاكس والتليكس للإعلام العربى والأجنبى.. تكفلت بها هيئة الاستعلامات التى كان يرأسها د.مرسى سعد الدين.. ولعبت دورًا مهمًا فى مساندة المهرجان، بإقامة مركز صحفى وتحمل تكاليف إصدار نشرة يومية، وتنظيم رحلات وزيارات ترفيهية لضيوف المهرجان وإهداء عدد من تذاكر الطيران.. للمراسلين الأجانب.. وتحملت مصر للطيران جانبًا من قيمة التذاكر.. وأوفدت هيئة الاستعلامات السيدة عايدة حسين لتشرف على الصحافة الأجنبية ورحلات الضيوف. حسنًا.. لم يتبق سوى اختيار الأفلام ودعوة النجوم الأجانب، فسافر الملاخ إلى مدينة كان فى صيف 1975؛ حيث يعقد أهم وأعظم مهرجان سينمائى عالمى على شاطئ الريفييرا الفرنسى؛ وهناك بدأت الاتصالات واختيار الأفلام؛ ومقابلة الوفود السينمائية العالمية التى ستشارك فى أول مهرجان سينمائى دولى فى مصر؛ وسافر لنفس الغرض أحمد ماهر إلى موسكو؛ وسافرت مارى غضبان إلى إيطاليا لدعوة مشاهير السينما هناك؛ وإحضار أفلام.. نجحوا جميعا فى جلب نجوم ومشاهير السينما والصحافة وجلبوا أفلامًا مهمة؛ أضافوا لمهرجان القاهرة قيمة كبيرة وذاع صيته وتردد اسم القاهرة فى كل أرجاء الدنيا.. يوسف السباعى رئيسًا للمهرجان اختارت الجمعية الأديب يوسف السباعى رئيسًا لمهرجان القاهرة السينمائى إلى جانب رئاسته الفخرية للجمعية، ورئاسته شرفية مع رئاسة الملاخ الفعلية للمهرجان.. ولأول مرة فى التاريخ رئيس الجمهورية رئيس مهرجان سينمائى فى بيته، وافتتح رئيس الوزراء ممدوح سالم مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأول فى السابعة مساء يوم الاثنين 15 أغسطس 1915 بدار سينما قصر النيل.. بحضورجمال العطيفى وزير الثقافة والإعلام ومحافظ القاهرة سعد مأمون وعدد من الوزراء ، كان فى استقبالهم يوسف السباعى وكمال الملاخ. حضر المهرجان عدد كبير من نجوم السينما العالمية من بينهم: «كلوديا كارد ينالى، ماريا أنجيلا ميلانون، فيرنا ليزى، فيرا ستنبرج وعمر الشريف وكانيسبيرجن وأيف مونتان وسيمون سيوريه وليندا جاكسون وجون ويسمولر». عرض للنجمة الإيطالية كلوديا كاردينالى فيلمان (الأنذال) إخراج باسكال اسكويتيرى: و(الشعلة)..وعقد معها فى صباح اليوم الثانى للمهرجان مؤتمر صحفي وأمضت النهار والمساء فى الإسكندرية بفندق فلسطين؛ وسبحت فى مياه البحر عند شاطئ المنتزه مع ابنتها باتريك.. فى ضيافة مهرجان القاهرة السينمائى.. اختير المخرج شادى عبدالسلام عضوًا فى لجنة التحكيم الدولية، وكان شادى يمثل السينما الطليعية فى مصر فى الستينيات مع مجموعة من شباب ضمت لجنة التحكيم أيضا المنتج الفرنسى رينيه تيفينيه؛ والشاعر الباكستانى فايز أحمد فايز والإيرانى هاجير داربوش سكرتير عام مهرجان طهران والنقاد: الأمريكى توماس كيرتس.والبريطانى دافيد روبنسون، والإيطالى نينو زوكيلى. بقيت أفلام الدورة الأولى من مهرجان القاهرة السينمائى شاهدة على عصر أصبح تاريخًا، فقد مثلت الأفلام دولًا.. بعضها تفكك، وأخرى توحدت، وثالثة تغيرت أو بقيت على حالها، فقد شارك الاتحاد السوفيتى بفيلم، عندما يأتى الخريف للمخرجين كوساجان وقسطئطين أوسلييف.. وقد تفكك الاتحاد السوفيتى إلى عدة جمهوريات وفيلم الغتاة روبنسون، للمخرج كاريل كاخينا من تشيكوسلوفاكيا التى تفككت إلى جمهوريتين (التشيك وسلوفاكيا) وفيلم «لينا براك»، للمخرج ألن بروستللينى مثل ألمانياالغربية التى توحدت فيما بعد مع ألمانياالشرقية. من أفلام المسابقة الدولية أيضًا «المذنبون إخراج سعيد مرزوق: من قصة نجيب محفوظ. سيناريو ممدوح الليثى. بطولة حسين فهمي؛ سهير رمزى. وزبيدة ثروت وعماد حمدى.. كما عرض لسعيد مرزوق أيضًا فيلم «أريد حلا» بطولة فاتن حمامة ورشدى أباظة وأمينة رزق.. وقد فاز بجائزة التمثيل؛ الفنان عماد حمدى عن دوره فى فيلم «المذنبون» وجائزة فى فيلم فى مسابقة ليالى السينما المصرية، وفازت فاتن حمامة عن دورها فى فيلم أريد حلا، وأقيم حفل توزيع الجوائز فى فندق شيراتون القاهرة. ضمت المسابقة الرسمية؟ أفلامًا قصيرة لثلاث دول عربية؛ هى السعودية بفيلم «تطور مدينة الرياض» للمخرج عبد بن الحسين؛ والإمارات «الجمل» للمخرج محمد الخالدى؛ والكويت بفيلم «كويت.. كويت» للمخرج جون فينى وهو مخرج نيوزيلندى وثائقى؛ أقام فى مصر 40 عاما رأس لجنة المشاهدة محمد الدسوقى رئيس مجلس إدارة هيئة السينما والمسرح. وهو ابن شقيقة ومدير أعمال سيدة الغناء العربى أم كلثوم. ضمت لجنة المشاهدة؛ المخرج صلاح أبوسيف وماجدة كامل «ماجدة الخطيب»: والنقاد د.رفيق الصبان وحسن إمام عمر؛ وعائشة صالح.. 35قرشا سعر التذكرة صباح اليوم الثانى للمهرجان. خفضت إدارة المهرجان أسعار تذاكر مقاعد الصالة فى أى دار تعرض نشاطها إلى 35 قرشا للصالة والبلكون بدلا من 180قرشا.. كانت إدارة المهرجان مضطرة إليها لرد بعض نفقات دعوة 150 نجمًا عالميًا وناقدًا دوليًا من بلادهم بالطائرة إلى مصر وإقامتهم وضيافة كاملة وتنقلات إلى معالم مصر الحضارية وزيارة أرجائها لمن يريد فى القاهرةوالإسكندرية.. وبقيت أسعار الفوتيل لوج كما هى.. وكانت الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما منظمة المهرجان والداعية لإقامته قد دعت طلاب معهدى السينما والفنون المسرحية لدخول حفلاته طوال أسبوع المهرجان بالمجان. وأهدى د.أحمد قدرى مدير عام هيئة الآثار.. نموذجين بالحجم الطبيعى لرأسى نفرتيتى وزوجها أخناتون الفرعون الفيلسوف إلى مهرجان القاهرة السينمائى الأول.. تم عرضهما فى مدخل المقر الرئيسى لحفل الافتتاح ليطلع عليهما الجمهور لنشر الوعى الحضارى التاريخى لمصر أمام وفود السينما.وقد اتخذ المهرجان من رمز نفرتيتى شعارًا له. أما د.جمال مختار رئيس هيئة الآثار قد أهدى تمثالًا برونزيًا يمثل أخناتون إلى مؤسسة السينما بناءً على رغبة رئيسها المهندس محمد الدسوقى ليهديه إلى الفيلم الأجنبى الأول.. وذلك غير 50 تمثالًا لحتحور ونفرتيتى صممها الفنان مأمون الشيخو وصبها المثال منير زكى وهى الجوائز التى تهديها الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما واختارت تمثال حتحور رمزًا لربة الجمال والمودة والرشاقة وحب الفن عند الأجداد لتهديه الجمعية كأوسكار محلية للأفضل بين فنانى وفنيى السينما المصرية عن أفلامهم ليقدمها لهم يوسف السباعى الرئيس الفخرى للجمعية ومحمد رياض وزير الإعلام بالإنابة وسعد الدين وهبة وكيل أول وزارة الثقافة.. وذلك غير الأوسكارالمصرية التى ستهدى على هيئة تمثال لنفرتيتى فى ختام المهرجان للأفضل بين فنانى الأفلام الأجنبية التى تعرض وتراها لجنة تحكيم عالمية.. ونظرًا لاعتماد المهرجان على الجهود الذاتية، كان الكتالوج يباع للجمهور والنقاد مقابل خمسين قرشًا وفقًا للسعر المطبوع بالصفحة الأولى للكتالوج وهى المرة الأولى والأخيرة التى يباع فيها كتالوج المهرجان قبل أن يوزع مجانًا فى السنوات التالية.. وكان يحتوى على إعلانات تدر عائدًا مربحًا للمهرجان. ومن هنا أصبحت الفكرة والحلم واقعًا وبعد مرور41 عامًا أصبح مهرجان القاهرة السينمائى هو الجناح الأكبر والحدث الثقافى الأهم فى مصر، مهما تعددت المهرجانات الوليدة ومهما بلغت أهميتها، ليظل «القاهرة السينمائى» هو المظلة الأهم والأكثر أصالة وحلم مصر الأول تجاه تبنى التيارات الفنية الجديدة .