بقلم الفنان: لطفى بوشناق الحديث عن الموسيقَى والأغنية التونسية بإطناب يَلزمه ساعات وساعات، ولكن سأختصر قَدر الإمكان. فلنبدأ بالموروث الموسيقِى الذى يُعتبر نتاج تفاعُل العديد من الحضارات، التى مرّت بها تونس، وأهمها نوبات (جمع نوبة) المالوف (المألوف)، وقد يقابله فى المشرق وصلة الموشحات مع الاختلاف فى التركيبة والمُدة الزمنية، وهو عبارة عن خليط بين الموسيقَى الآتية من الأتراك مع موسيقَى المورسكيين- الذين هاجروا من الأندلس بعد سقوط حضارتهم هناك- ولا يُعرَف لهذا القالب مُلحنون ولا شعراء، بل هو موروث رواه جيل بعد جيل. اشتغل يهود تونس بصناعة الموسيقى والعمل بهذا المجال واحتكروا هذا الميدان حتى أربعينيات القرن العشرين تقريبًا، وبرزت أسماء عديدة، أمثال: «الشيخ العفريت، حبيبة مسيكة»، ثم «راؤول جورنو» وغيرهم، ولكن غالبيتهم جنحوا نحو الإسفاف ومخاطبة الغرائز فى أغانيهم وأصبح ما يُعرض لا يمثل علية القوم والعائلات التونسية المحافظة ولا تقاليدها وعاداتها. تأسيس الرشيدية.. أمام ما سبق ذِكره وبمبادرة من رشيد باى(باشا) تأسست الرشيدية (نسبة لاسمه) وكانت غايتها المحافظة على التراث من الاندثار وتكوين جيل صاعد من مُغنين وشعراء وحثهم على الارتقاء بمستوى ما كان يُعرَض، وقد لمعت أسماء من خلال هذه الجمعية، كان أبرزها الشيخ خميس الترنان، والمطربة صليحة، بشيرة التونسية. فرقة الإذاعة والنقلة النوعية.. تأسست فرقة الإذاعة الموسيقية سنة 1957 وضمت أبرع الموسيقيين والمطربين على الساحة، وتَوَلّد عن هذا جيلٌ آخر من النجوم المؤثرين فى المشهد الموسيقِى، وزاد من تألقهم وشهرتهم ميلاد التليفزيون التونسى فى ستينيات القرن العشرين، وكانت مصلحة الموسيقَى بالإذاعة عبارةعن خلية نحل يؤمها الجميع (شعراء، ملحنين، موسيقيين، مطربين ومطربات) يعملون على مدار السنة للنهوض بالأغنية التونسية. وبرز من هذا الجيل عددٌ كبيرٌ من الأسماء، أمثال: (أحمد حمزة، الهادى الجوينى، يوسف التميمى ، على الرياحى، قاسم كافى، علية، نعمة، سلاف، زهيرة سالم) ومن أبرز هذه الأسماء بلا منازع على الرياحى والهادى الجوينى، اللذان لاتزال أغانيهما تُردد حتى الآن. التسعينيات.. جيل آخر أخذ المشعل ممن سبقه وواصل المسيرة وبرز فى مطلع 1990، من أبرز رواده عدنان الشواشى، نور الدين الباجى، صلاح مصباح، لطفى بوشناق، لطيفة، أمينة فاخت، صوفية صادق، نجاة عطية، ذكرى، صابر الرباعى. لذلك كانت الفترة ما بين (1960و2011)هى الفترة الذهبية للأغنية التونسية، أمّا الفترة عقب ما يُسمى بالربيع العربى، فقد اختلط فيها «الحابل بالنابل» ولم تَعُد هناك رقابة وتعددت الإذاعات والقنوات التليفزيونية، بل أصبح كل من «هب ودب» يَعرض إنتاجاته صباحًا ومساءً، والتاريخ وحده كفيل بإنصاف مَن يستحق البقاء. على مَرّ التاريخ.. كانت هناك دومًا أغانٍ وطنية على مَرّ التاريخ، وإذا كان القصد أغانى ما بعد الثورة فأغلب هذه الأغانى بسيطة وسطحية ولا ترتقى لمستوى التغيرات التى شهدتها تونس أولًا ثم بقية الأقطار العربية بعد ذلك، ويعود ذلك لتسارُع الأحداث وتداخُلها والارتجال فى التنفيذ مسايرةً لسرعة تواتر ما ذكرتُ. الجدير بالذِّكْر، أن أهم مَن برزوا فى مجال الأغنية السياسية (الملتزمة) فى تونس هم الهادى قلة، الزين الصافى، حمادى العجيمى، محمد بحر، بالإضافة إلى مجموعات موسيقية مثل: «الحمائم البيض، إيمازيغن، أصحاب الكلمة، نبراس».. وأخيرًا ومثل كل فنان، أحلم أن أحلق بعيدًا، وأفتح آفاقًا أخرى لم تكن ممكنة أو مستطاعة، مثل كل فنان يحلم أن يشع عالميّا وأن يكون صوت شعبه ووطنه ليَظل يتذكره التاريخ.