المكان يعج بالحياة، ولا يخلو من موت! ورغم كل هذا الضجيج والزحام والحركة، هناك صمت شديد الوقع على النفس. إيقاع صفير ثابت كدقة زمن شديدة الوطأة، يربك حركة الزمن التى اعتدناها خارج هذا المكان.. كم يشبه الإنذار، أو أنه مجرد إشارة للانتباه للوقت. محطة مصر، فى قلب القاهرة.. أم الأماكن كلها، مدينتنا التى تختصر الدنيا. كذلك المحطة تختصر المعنى من الحياة، وربما تختصر البشر فى نماذج.. وكأن لكل إنسان مر فى هذه الحياة شبيه هنا، أو ظل مر من هنا.. مسافر بين مسافرين، غريب من رحيل إلى رحيل. يحاول إدراك الوقت.. يحاول الوصول.. يحاول الفهم والعبور الصحيح دائمًا.. ويبحث عن رفيق يأنس له فى رحلته.. وكم يبدو الناس هنا فى غمرة حركتهم وانشغالهم وركضهم وديعين ولا حيلة لهم! •• فى مدخل المكان.. المحطة تشبه الدنيا والقطار يشبه حياة الناس بها. والناس تمشى، تركض، تهرول، تتعب وتقف لتبدأ من جديد. كأننا فى سباق.. •• فى مدخل المحطة سمعت فتاة تودع حبيبها «خلى بالك من نفسك» فقال مبتسمًا دون تفكير »بس انتى خلى بالك منى».. اندهشت للزحام بمكان كان مسرحًا لحادث مروع بالأمس فقط! أنظر فى وجوههم وعيونهم المفتوحة بانتباه شديد، أبحث عن خوف خبىء تغلبوا عليه بضرورات الحياة فلم أجد.. وكأن شيئًا لم يحدث..! الشمس بالخارج لطيفة دافئة.. مشرقة فى هدوء ورقة! والضجيج فى وسط المدينة لا يكف. ورغم كل شئ الحياة حلوة جدًا! •• فى محطة مصر، فى قلب الدنيا.. كل دقيقة يأتى قطار ويرحل آخر.. يتقابل أناس بها، ويفترق آخرون. وأنا كمحمود درويش، وقفت على رصيف المحطة لا لأنتظر القطار، ولا هتاف العائدين.. بل لأعرف كيف جن البحر وانكسر المكان؟.. •• كدوىّ أجراس هنا انكسر الزمان.. كنموذج للكون ترى حالة الحركة الدائمة فيه هنا.. كل شىء يتحرك، عقارب الساعات الضخمة المعلقة بكل مكان، ودقاتها التى تصاحب صفير القطارات.. والناس كلهم يتحركون.. كل شىء يركض، الأفكار والأحلام، الروائح والهواء، وسائر الأشياء تركض خلفنا.. والقلب يركض. وعندما يركض القطار ندخل معه فى دوائر الحركة الكونية.. ونرى الدنيا من خلف نوافذ القطارات التى تشبه السحر.. تحول كل واقع إلى خيال.. •• أذكر آينشتاين هنا وأنا على رصيف ثابت أرى حركات القطارات والناس والأشياء، وتتأكد نسبية كل شىء أو تكاد! اكتشف آينشتاين ارتباط الحركة وسرعتها بإيقاع الزمن، وارتباط المكان بالزمان كذلك.. لكل مكان حركته الخاصة وزمنه الخاص. ربما يتعلق الأمر فقط بالوقت، الزمن، العمر.. رأيت رجلًا يتأمل القاطرة المحترقة واقفًا وتعلوه ساعة معلقة.. أرى وأسمع معه فزع وصراخ الذين صعدوا إلى السماء فى فجوة من الوقت أو نكاد!.. وأرى أمتعة وحقائب ممزقة بلا مسافرين.. وكأن الحقيبة وحدها هى التى تبقى دائمًا وليس الرحيل..! كم كان يعلو لهيب هذا القطار فوق آلامهم واحتراقاتهم، كان دخانه يعلو على دخان أجسادهم.. وصفيره الذى أتى به كان يخفى نحيبًا.. وربما لم يحسبوا للقاء الموت حسابًا هنا.. اتأمل المكان وكأن أشباحهم تلوح لنا.. تحدثنا، هل مر بى شبحى وحدثنى؟! هل لوّح من بعيد واختفى؟!.. انظر حولى لأجد المسافرين من كل مكان مسرعين! إنه يوم الخميس الذى يسافر به المغتربون لذويهم.. مسافرٌ خفيف كعصفور يطير.. وآخر مثقلٌ بالذكريات وبالمكان.. أيد كثيرة تمسك بأكياسها وأحمالها.. حقائب تجرها السيدات والفتيات.. تنهدات.. روائح وأرواح حائرة.. يأكلون متعبين زادًا للطريق.... هنا يقف البعض متأملًا شكل الحادث.. صامتين وأحيانًا ينظرون لبعضهم بعضًا ولا يجدون ما يتحدثون به، ولايزالون يصورون. هل يرى كل منا ذاته هناك؟! أم يخشى أن يرى؟ أم أننا فقط نشارك الموتى حديثًا عابرًا عبر محطة قطار.. ويعود درويش قائلًا: « هناك موتى يوقدون النار حول قبورهم، وهناك أحياء يعدون العشاء لضيفهم». _ ويشرب الموتى هنا مع الأحياء شايًا بنعناع الخلود.. ولا يطيلون الحديث! يحيط بالموت من كل جانب صمتٌ شديد الهيبة، وله رائحة لا أعرف كيف تتميز؟ وتتحرك الحياة غير آبهة، لايوقف حركتها شيئًا أبدًا.. والحياة تحب ذاتها جدًا وتنتصر لذاتها.. لا يمكن أن تتحول إلى لاحياة.. كل ماظهر للوجود لا يستحيل إلى عدم أبدًا.. كل مافى الأمر أن تتغير طبيعة وجوده، ويظهر بطبائع مغايرة.. وللحظة تصبح الحقيقة ذاتها نسبية هنا.. والمحطة مثل وشم ذاب فى جسد المكان.. كل شىء كان مختلفًا ومؤتلفًا.. وقفت على المحطة، كنت مهجورًا كغرفة حارس الأوقات فى تلك المحطة.. مرّ القطار ولم نكن يقظين، فأنهض كاملًا، متفائلًا.. أنت أنت ولو خسرت.. لاتنتظر هنا، سقط القطار عن الخريطة وشبّت النيران فى قلب الخريطة.. بلادنا قلب الخريطة.. ويقول القضاةُ المنهكون من الحقيقة.. كل مافى الأمر أن حوادث الطرقات أمرٌ شائعٌ..•