كتب: حسن بدوي كان إعلان مدينة زفتى أنها جمهورية مستقلة عن المملكة المصرية المحتلة من قبل بريطانيا في مارس سنة 1919، برئاسة المحامى الشاب يوسف الجندى، حدثًا بالغ الأهمية فى مسار الثورة المصرية التى انفجرت فى كافة أنحاء مصر، فقد ساهمت هذه الجمهورية الوليدة فى بلدة صغيرة بمحافظة الغربية فى تحفيز جموع المصريين، وخاصة الفلاحين، على تصعيد النضال ضد قوات الاحتلال، فأعلنت مناطق أخرى استقلالها مثل فارسكور بمحافظة دمياط، والمنيا وغيرها. وعقب اعتقال سعد زغلول ورفاقه فى 8 مارس 1919، ونفيهم إلى جزيرة سيشل، اشتعلت الثورة، وتم إعلان أول جمهورية شعبية مستقلة فى مصر، تشرع فى تنفيذ نظام ديمقراطى شعبى يطبق العدالة الاجتماعية، إيذانًا بدخول البعد الاجتماعى بقوة بعد ذلك فى أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية المصرية. كانت فى زفتى مجموعة من المثقفين وطلاب الجامعة والفلاحين والتجار، من بينهم يوسف الجندى وابن عمه عوض الجندى المحاميان، والشيخ عمايم والكفراوى والفخرانى وسويلم ومحمد أفندى عجينة صاحب مكتبة للأدوات المدرسية ومطبعة، وكانوا يلتقون فى مقهى بميدان بورصة القطن، واتفقوا على الانفصال عن المملكة المصرية وإعلان الاستقلال وإنشاء الجمهورية، وتجاوب معهم جميع أهالى البلدة من فلاحين وأعيان وشباب، حتى أن أحد الخارجين عن القانون توسل للانضمام لهم، وكان يدعى سبع الليل، وشارك بعد ذلك بأعمال بطولية ضد قوات الإنجليز، كما انضم إليهم ضابط النقطة فى البلدة، حمد أفندى، وفتح لهم السلاحليك «مخزن السلاح» وشارك معهم فى التخطيط. وانتخب الأهالى بحرية تامة لجنة سميت «لجنة الثورة»، وشكلوا المجلس البلدى الحاكم برئاسة يوسف الجندى. وذهب عوض الجندى إلى القاهرة وأبلغ الصحف لنشر الخبر. وشرع المجلس البلدى فى إصلاح الجسور وردم المستنقعات، وشكل عدة لجان، منها لجنة التموين والإمداد ومهمتها حصر المواد التموينية وحسن توزيعها على الأهالى، ولجنة النظافة وكانت تنظف شوارع البلدة وترشها بالماء، وتنير الطرقات ليلًا، ولجنة الإعلام وتولاها محمد أفندى عجينة، وكانت تقوم بطبع المنشورات لتوضيح الوضع العام فى البلدة، وإصدار جريدة يومية اسمها «جريدة جمهورية زفتى»، ولجنة الأمن والحماية وتولى الإشراف عليها الضابط الشاب حمد أفندى، وبمعاونة سبع الليل جمعوا الخفر ورجال سبع الليل والأهالى القادرين على حمل السلاح، وقسموهم إلى مجموعات كل منها يتولى حماية أحد مداخل البلدة. وأرسلت سلطات الاحتلال قوة للاستيلاء على البلدة، ولكن الأهالى تصدوا لها فرجعت وتمركزت فى ميت غمر. وفى اليوم التالى علم الأهالى أن هناك قطارًا قادمًا إلى البلدة محملًا بمئات الجنود، فقام سبع الليل ورجاله بقطع قضبان السكة الحديد على مسافة تقول بعض الروايات إنها 15 كيلو مترًا، فعجز الإنجليز عن دخول زفتى للمرة الثانية. ولجأ الفلاحون فى مختلف محافظات مصر إلى قطع الطرق والسكك الحديدية وقطع خطوط الاتصالات وأسلاك التلغراف وأعمدتها، كما فعل أهالى جمهورية زفتى، مما أرعب النظام الملكى وكبار الملاك وسلطات الاحتلال التى أرسلت فرقة من الجنود الأستراليين للقضاء على هذه الجمهورية، فقامت لجنة الثورة بطبع منشور باللغة الإنجليزية، ووزعته على الجنود. ومما جاء فيه: «أيها الجنود، أنتم مثلنا، وإننا نثور على الإنجليز لا عليكم أنتم. إننا نثور من أجل الخبز والحرية والاستقلال. والإنجليز الذين يستخدمونكم فى استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضًا». وعلى أثر ذلك أحجم الجنود عن اقتحام «الجمهورية»، واكتفوا بالانتشار فى محيطها. وفى فجر 29 مارس 1919 فوجئ الأهالى بعشرات المراكب التى تحمل جنودًا أستراليين تقوم بعملية إنزال الجنود على شاطئ النيل بالبلدة، وقيامهم بإطلاق النار على كل من يحاول عرقلة تقدمهم، وأعلنوا عن مكافأة مالية لمن يرشد عن يوسف الجندى ورفاقه. ولكن الأهالى قاموا بتهريبهم إلى عزبة سعد باشا بقرية مسجد وصيف، واستقبلتهم صفية زغلول، وقامت بإخفائهم حتى أفرج عن سعد ورفاقه. عاشت الجمهورية 19 يومًا لم يترك قادتها وجماهيرها حلمًا من أحلامهم إلا وحققوه، حتى أنهم أقاموا خيمة تعزف الموسيقى فيها يوميًا. ولكن لم يكن ممكنًا أن تستمر طويلًا جمهورية مستقلة فى بلدة صغيرة ضمن وطن محتل. ورغم ذلك فقد كانت تعبيرًا عن حلم كبير ظل ينمو فى وجدان وعقول المصريين، يربط بين استقلال الوطن وحرية المواطنين والعدالة الاجتماعية.