الروائى: عبدالرحمن منيف يكتب: فى المزة، القرية الصغيرة التى ترتاح على التلال الغربية لمدينة دمشق، ولد نذير نبعة، فى فترة من أدق الفترات، وربما أصعبها، خلال هذا القرن، حيث ولد قبل الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة، ليشهد فى أول أيام طفولته كيف تقصف مدينة دمشق من قبل الفرنسيين، لإخماد الثورة، وكيف تتحول الثكنة الواقعة على الرابية العالية فى قريته الصغيرة إلى رمز للقهر والعدوان، ثم لتصبح سجناً. فى هذه القرية التى تغرق بالخضرة، وتتصل -عبر الوادى- بربوة دمشق، وتحيط بها المياه من أكثر الجوانب، كانت ألوان الطبيعة المتعددة تمتزج بألوان الأشياء والبشر، وكانت أول ما يتفتح عليه النظر، وأول ما يكتشفه الطفل، وتظل هذه الألوان تتزايد وتتكاثف ما امتدت مساحات الرؤية، خاصة حين تبلغ قمة جبل الشيخ البيضاء، التى تُرى من البعيد. فإذا أضيف إليها الدوى الآتى من وراء الجبل، باعتبار أن الطريق إلى الأرض المقدسة، فلسطين، لابد أن يمر فى المزة، حيث كان المسافرون يستريحون فى هذه القرية الصغيرة فى طريقى الذهاب والعودة، عندئذ لابد أن تحتشد فى ذاكرة الأطفال الألوان والحكايات والأحلام، ويصبحوا أطفالاً من طبيعة خاصة. أن يولد الإنسان فى هذا المكان إذن، وفى ذلك الوقت بالذات، وأن يكون على استعداد للتعامل مع اللون والفرشاة، فلا بد أن يكون إنساناً محظوظاً وشقياً فى نفس الوقت، لأن المكان بمقدار ما يفتح الذاكرة البصرية، فإن الزمان، خاصة إذا كان استثنائياً، يلونها بألوانه المميزة، ويجعلها تكتسب سمات غير عادية، فإذا تداخل العنصران وتفاعلاً فعندئذٍ لابد أن ينعكس هذا فى حالة مركبة ليس من السهل إعادتها إلى عناصرها الأولية. فنذير الذى ولد فى المزة تلك، وفى فترة ثلاثينيات هذا القرن، والمختلفة كلياً عما هى الآن؛ وفى وقت الاحترام ثم الانتقال، ويكون مع ذلك قادراً على أن يعبر الوادى إلى الربوة، لابد أن «يصطدم» فى رحلة البحث والاكتشاف بواحد أو أكثر من أولئك الذين اختاروا المهنة الجميلة والصعبة فى آن واحد: التصوير، خاصة فى تلك المرحلة التى سيطرت خلالها الانطباعية، حيث كان الرسامون، فى ذلك الوقت، أكثر شجاعة وأكثر حرية وهم يحملون ألوانهم وأدواتهم، ويحاولون تصوير الطبيعة فى لحظاتها المتعددة، وكانت الربوة إحدى البقاع الموحية، والتى أغرت عدداً من الرسامين على تصويرها، وكان أحد هؤلاء مروان قصاب باشى. يذكر نذير نبعة، فى حديث خاص، أنه حمل الماء البارد من بيته والتين لهذا الشاب الذى أخذ يتردد على الربوة، ومعه أدواته، لكى يرسم ويكون رد فعل مروان، والذى يكبر نذير ببضع سنوات، الارتباك، فيحمر وجهه، لأنه فتى صغير يحمل إليه هذه الهدايا، والمقابل الوحيد الذى يريده، ولا يطلبه، أن يتابعه وهو يرسم!. هذه القصة البسيطة تدل إلى أى مدى تغلغل الفن فى قلب وعينى هذا الفتى الذى يحاول اكتشاف العالم والتعرف على الحياة، وتكون وسيلته الوحيدة، أو إحدى وسائله، أن يرى الآخرmن كيف يعملون، كيف يصنعون الجمال من المادة الصماء، ويقوى هذا التوجه ويترسخ حين يتردد على مراسم بعض الفنانين الكبار، مثل جلال والجعفرى وشورى، وأيضاً فتحى محمد النحات، وكيف ستتبدى تأثيرات هؤلاء الفنانين، ونوعية الأدوات التى يتعاملون معها، وكيف ستكون الكتلة إحدى الملامح التى ستميز بعض أعمال نذير نبعة الفنان فى وقت لاحق. إن معرفة المكان الذى ولد فيه الإنسان، والذى احتضن طفولته، ومعرفة طبيعة الزمن الذى عاشه، تتجاوزان، فى بعض الأحيان، الحيز المكانى أو الزمانى، من حيث أنهما حدان، لأن طبيعة التلقى تختلف من واحد لآخر، خاصة إذا كان المتلقى فناناً، وبالتالى فإن ما ينعكس فى الذاكرة، وما تفرزه هذه الذاكرة لاحقاً، لابد أن يأخذ أشكالاً متعددة لمن يمتلك وسيلة تعبير، وسيلة «قول» تختلف عن ذاك الذى لا يملك مثل تلك الوسيلة، ومن هنا نجد أن طفولة الفنان أحد «أقواله» الرئيسية فى معظم ما ينتجه. كان لابد من تأكيد هذه النقطة لكى نرى «آثارها» فى الكثير مما أنتجه نذير نبعة، من حيث الألوان والأشكال والموضوعات، وربما حتى الأساليب، وكيف أن البعدين، المكانى والزمانى، شديدًا الحضور فى معظم ما «قاله». ليس ذلك فقط، أى أن البعدين الزمانى والمكانى لا يتحدد تأثيرهما بالمكان الأول الذى ولد فيه الفنان، أو بالزمان الذى عاشه فقط، وإنما يمتدان ويؤثران فى الرؤية والفهم والتعامل مع هذين البعدين. فالمكان الأول، ومع الإقرار بدوره وأهميته، إلا أنه يكون رؤية شاملة للمكان بمعناه العام، أياً كان هذا المكان، كما أن الزمان لا يتحدد بكونه تقويماً، وإنما وبالدرجة الأولى والأساسية، بكونه مفهوماً من ناحية، وحساسيته من ناحية ثانية، فالزمن العاصف، الصعب، لا ينظر إليه هكذا فى حينه فقط، وإنما بمدى تأثيره على الفنان، وأيضاً بما يتوصل إليه من مفهوم للزمن، وموقفه منه، وبالتالى رد فعله تجاه كل ما يحدث حوله أو فى الأماكن الأخرى. ولذلك، فالمكان (المزة) الذى عاش فيه نذير نبعة أول ما اكتشف الحياة، رافقه، من حيث المطابقة أو المخالفة، ثم المقارنة، وهو يتنقل فى الأماكن الأخرى، واستطراداً، لابد أن نشير -بشكل مبكر- إلى تأثير ، ومن ثم انعكاسات فترة إقامته فى مصر، ثم فى دير الزور، إذ حمل من هناك ألواناً جديدة، ونظرة جديدة إلى المحيط الجغرافى، ليس فقط بمعناه المادى وإنما بمعناه النفسى والفلسفى أيضاً. كما أن الأزمنة الرجراجة، الانتقالية، العاصفة، التى تلازم طفولة الفنان، بالإضافة إلى ما تحمله من تأثيرات، تُكوّن رؤية وموقفاً، وهذه الرؤية أو هذا الموقف، لا يُقاس من خلال الوعى نتيجة المقارنة، وإنما من خلال البعد النفسى بالدرجة الأولى، وبالتالى فإن رد فعله يختلف، وربما نوعياً، عن ذاك الذى ينظر ويحكم من خلال المقايسة والمقارنة وحدهما. قد تبدو الأزمنة والأمكنة محايدة من خلال النظرة البسيطة، وذلك من خلال نظرة أعمق نجد أن الإنسان، خاصة إذا كان فناناً، منحازًا بالضرورة.•