يحكى أنه فى الزمن البعيد عندما كان الحب يسود الأرض وقع صقر قوى فى حب حمامة بيضاء فاتنة، حب نبت فى قلب ذلك الطائر الجارح الفظ.. فمتى يغازل الحمامة البيضاء، كان كلما يراها خارجة من عشها حتى يهبط فيكاد يلامس الأرض لتشاهد ما يستطيع أن يأتيه جناحاه القويان.. ثم يوجه إليها من بعيد أعذب الكلمات. أول الأمر كانت الحمامة تخاف منه متصورة أنه يريد أن يمسك بها ويفترسها، لكنها بعد أن لاحظت أنه لا ينقض عليها وسمعت كلامه الرقيق.. وعندما فهمت راق لها الصقر. كان الصقر شرسا قويا مختلفا عن رفيقها الذى يظل راقدا على البيض عندما تخرج لترى الزهور - كان رفيقها المسكين يكرر كل يوم الحديث عن الغذاء والعش، عن الحر والبرد.. أما الصقر الرشيق فكان ينطق بكلمات عذبة.. وعلى المدى الطويل لم تعد لديها القدرة على المقاومة كانت مسحورة به.. وذات يوم قبلت أن تذهب للنزهة معه.. وقالت له إنها لا تريد أن يراهما أحد.. فأخبرها الصقر أنهما سيصعدان عاليا فى السموات.. فقالت إن جناحيها أضعف من أن تواجه السماء وصواعقها.. وقال لها الصقر ألا تخاف إنه سيكون بجوارها يحميها.. والجمال الذى ستراه بانتظارها «تعالى يا كنزى الذهبى». معا فتحا أجنحتهما وطارا.. الصقر يتمهل فى طيرانه، بينما الحمامة تضرب بجناحيها إلى أن ارتفعا بها ارتفاعا شاهقا.. وشعرت بالتعب.. لمح الصقر سحابة صغيرة تكاد تتسع لهما فتوجهت الحمامة إلى الفراش الربانى، وما إن رقدت عليه حتى انقض عليها الصقر بكل قواه.. وقال لها.. إن أجناس الأولمب يباركون الحب وهذه السحابة هى فراش الأحلام بعيدا عن دمام الأرض.. وقد أمرت أجناس الأولمب أن تصيرى لى .. لم يكن للحمامة الصغيرة متسع من الوقت لتدافع عن نفسها.. وربما لم تكن لديها رغبة فى أن تقاوم.. وأحست بلذة مفاجئة وغير معروفة لها حتى شعرت الحمامة الصغيرة العفيفة بالخجل.. يا لها من خيانة ارتكبتها ومع عدو لبنى جنسها يطارد أقرانها ويفترسهم.. ودون تفكير ألقت الحمامة الصغيرة بنفسها فى الفضاء.. تذكرت كيف شاهدت الصقر وهو يهبط من أعالى السماء. تذكرت أنه يلصق جناحيه إلى جسمه ثم يهبط ورأسه إلى الأمام نحو الأرض كالسهم.. وفعلت مثله. وكان هبوطا مدوخا لكنه عن ثقة.. وعندما رأت أنها اقتربت من الأرض تبينت أن القفزة أكثر خطورة فبسطت جناحيها.. حركتهما فى الهواء الفاتر الصاعد من الأرض وبرفق حطت الحمامة على النجيل الأخضر ثم جرت تختبئ فى عتمة عشها بجوار رفيقها الوفى الوديع.. وطوال أيام عديدة لم تتركه ولم تبتعد من جواره وكان من عادته أن يراقب أرجاء الناحية بنظرات حذرة.. وحكى لها أنه شاهد صقرا غاضبا بدت عليه نوازع الشر يحوم ليلاً ونهاراً حولهما.. وأكد لها من الأفضل أن لازم العش حتى لو كان معاناة من ضيق الأنفاس. بعد عدة أيام أخبرها أن الطائر الجارح اختفى.. لم يعد الصقر الولهان يظهر فى الأفق.. كما لم يعد أحد يعرف ماذا حدث له. ومنذ ذلك اليوم.. سواء بحثا عن طائرها الوسيم.. أو رغبة فى إحياء ذكرى حبها القديم مضت الحمامة البيضاء تكثر من مغادرة عشها فى زرقة السماء.. تطير عاليا وتختفى بعض الوقت فى الفضاء ثم تنزل كما نزلت من قبل مثل ذلك اليوم الذى عرفت فيه الحب. لم يكن خلها الوفى الأمين يفهم لماذا تقوم بهذه اللعبة الخطرة.. ولم يكن يقلدها ولا حتى صغارها كانوا يفهمون ما تقوم به أمهم.. لكنهم كانوا يجربون معها.. ربما كان بعض هؤلاء الصغار من سلالة الصقر.. كل ما كان معروفا أن أولاد تلك الحمامة وأحفادها وأولاد أحفادها يواصلون الرحلة الرومانسية التى كانت تخرج إليها الجدة العاشقة. هذا أصل اللعبة التى يؤديها الحمام المنطلق كالسهم.. تلك اللعبة اللامعقولة التى لا يعرفها سوى أولئك الذين قضوا بعض الوقت فى مدينة أو قرية من مدن وقرى اليونان الشمالية.. وهذا الحمام الذى يطير كالسهم.. طيور رشيقة طويلة المناقير وجناحاها يشبهان شفرتين من رقائق الصلب ويحتفظ بها أصحابها فى أبراج صغيرة وعندما تصفو السماء ولا يهطل المطر يخرجونها فى الصباح أو قرب المساء ويدفعونها للطيران مشجعين بأصواتهم فتصعد إلى ارتفاعات شاهقة فى السماء، وعندما يدعونها للنزول فإنها تنزل على هيئة انقضاض عمودى فى خط رأسى لا انحراف فيه ولا تعرّج. كثيرون فى اليونان الشمالية شاهدوا ذلك العرض المثير الحافل بالحماسة والجسارة والبهجة، كثيرون هناك يقتنون ويربون حماما من سلالة الحمامة التى كانت تطير كالسهم. •