بقلم: نجيب محفوظ انتهى الأستاذ حسان جلال، وهو محام تحت التمرين من كتابة المذكرة القضائية التى شرع ينشئها منذ الصباح الباكر، فى تمام الساعة الثانية عشرة، وكان الجهد قد نال منه كل منال فاستند إلى ظهر كرسيه فى إعياء ونصب، ومد يده إلى فنجان قهوة وارتشفه وهو ينظر إلى الأمام بعينين يوشك أن يلتقى جفناهما، ودخل الخادم عند ذاك فأقبل على سيده وبصره بخطاب كان تركه على المكتب قبل ساعة، والشاب مستغرق فى عمله فألقى عليه نظرة فاترة، وتناوله بغير اكتراث، ولكنه حين وقع بصره على الخط المكتوب به العنوان حدثت فى وجدانه صدمة عنيفة مباغتة أرهفت حواسه وأثارت انفعاله، وأقلقت باله فالتمعت عيناه بنور خاطف وبدا شخصا جديدا، عرف الخط من أول نظرة فتأمله بدهشة وكأنما ينظر إلى وجه كاتبه فى ضوء النهار. فلم ير خطًا، ولكن رأى وجهًا مستديرًا كالبدر، خمرى اللون، تدل قسماته الدقيقة على الأناقة والملاحة، وغشيه الانفعال ساعة لا يدرى من أمره شيئا، ثم جذبه الخطاب من العالم الداخلى الغارق فيه، ولكنه لم يطع لأول وهلة الدواعى الدفينة التى تهتف به أن يفض الغلاف، وأبقاه على يده، وجعل يديم النظر إليه فى شغف ولذة وارتباك وخوف، وقد فرح به وحزن، ورضى عنه وغضب، وتساءل فى حيرة أيصح أن يطلع على ما فيه أم الأولى له أن يطرحه فى سلة المهملات؟ على أنه كان يتساءل ويداه تفضان الغلاف بسرعة وتبسطان الخطاب، وما لبث أن قرأ مطلع الكتاب وهو «عزيزى حسان» فلم يستطع أن يستمر فى القراءة واستولت عليه خواطر وشجون وأحس بخيبة لم يهن من شأنها أنه كان يتوقعها كانت إذا كتبت إليه فيما مضى تبدأ خطابها فتقول: «حبيبى حسان»، أما اليوم فهى تتجنب هذه الكلمة الساحرة، ولعله دار بخاطرها ما يدور بخاطره الآن حين همت بالكتابة إليه فليس إبدال حبيبى بعزيزى بالشىء الهين، وإنما هو حدث من الأحداث، فجيعة من الفواجع، رباه.. لماذا تراسله وتجذب أفكاره إلى واديها فتنكأ جرحًا فى فؤاده أوشك أن يلتئم وتثير بركانا كاد يخمد بين جوانحه؟ وتنهد من أعماق صدره، وكر بعينيه الحالمتين إلى صفحة الخطاب، وألقى عليه نظرة عامة، فأدرك إيجازها التلغرافى، وأحس لذلك بكآبة خفية وانقباض صدر، وكأنه كان يرجو لو أنها أطالت وأسهبت ثم قرأ ما يلى: «راودت نفسى مرارا على الكتابة إليك فكانت تتمنع وتتأبى حتى كدت أسلم اليأس بعد أن تقادم الفراق، وبعد أن نالنى من تغاضبك ما نالنى، لولا سؤال حيرنى إدراكه فرأيت أن ألقيه عليك عسى أن يكون لديك جواب عليه، إنى أسأل: لماذا هذا الجفاء؟ ولماذا هذا الهجران؟.. هل دعت إليهما دواع معقولة؟ فإنى أخشى أن يظل كلانا يتعذب لغير سبب». ورفع رأسه عن الخطاب، وقد ثقل تنفسه ويبس حلقه وحملق إلى لا شىء بعينين مظلمتين، يا له من سؤال، أليس يحق لها أن تسأل كما يحق له أن يسأل لماذا هذا الجفاء؟ .. لماذا يتباعدان؟ لماذا يعانيان الألم والعذاب فى صمت وعناد قرابة عام طويل ثقيل؟ أواه، كم كان يحبها وكم كانت تحبه، وإن أى ذاك الحب لتبدو لعينيه خلل الذكريات كما تبدو المشاهد الغارقة فى الظلماء على ضوء المغنسيوم، فإنه ليذكر إخلاصها ومودتها وشدة وفائها، وكأنه كان يرى تألق عينيها حين تراه، أو يسمع تنهدها لدى قربه وعطفه، كانا يعيشان فى غمرة الحب ذاهلين عن كل شىء سوى آمالهما الناضرة، ومع ذلك قضى أن يتباعدا ويتفارقا، ويذوقا مرارة الهجران وألم الجفاء، وكان هو البادئ ولعله كان الظالم وعلى أى حال فقد استسلم للأوهام فلم تجد هى سبيلا إلا أن تلوذ بالصمت والصبر، لماذا هذا كله؟ على أنه كان فى تساؤله متجاهلا متبالها، وكان بذلك عليما فذكريات الأمس من القوة والعمق بحيث لا يمحوها اليوم ولا الغد، وقد دعت أشجانه إلى ذاكرته صورة أخرى عزيزة حبيبة طالما سكنت قلبه محوطة بالعطف والإجلال حتى انتزعها القبر بقساوة ولم يترك له منها إلا طيفا رقيقا يجفل من ضوء النهار ومشاغل الدنيا ويتسلل فى رفق إلى الذاكرة فى فترات الأحلام والحنين، جاءته بوجهها الذابل المكلل بالشيب ونظرات عينيها الحنونة فتنهد حزينا كئيبا وتمتم قائلا: أماه! نعم، هى أمه العزيزة التى قضى حبه إياها على سعادته وآماله، وفرق بينه وبين حبيبته وترك كلا لوحدته وآلامه. وارتدت عيناه إلى صفحة الخطاب تغلقان بين أسطرها التى اقتضبها الحياء، واختزلها الحذر والكبرياء، فلم يجد سوى هذه الكلمات: «سأنتظرك أصيل اليوم فى مكاننا المعهود بالحديقة الأندلسية، فإن أنت أتيت لكى نصفى الحساب - أى حساب يا ترى؟ -رحبت بك، وإن أنت أصررت على الجفاء فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد»، ويلى ذلك الإمضاء المحبوب: حسان. ج، وكان أول ما فاه به بعد تلاوة هذه الكلمات أن قال باضطراب: «أصيل اليوم، فى مكاننا المعهود»، وأحس بدنو الوعد فاهتاج شعوره، واضطرم صدره، ثم استقر بصره على هذه العبارة «فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد»، فجفل منها وذعر وانقبض صدره، ألم يجعل فراق سنة هذه العبارة حقيقة واقعة؟ أو لم يكن يظن أنه نفض يديه منها إلى الأبد؟ بلى ولكن ذاك الخطاب رده بسرعة فانبعثت فيه حرارة كما تنبعث الكهربا فى المصباح بعد سريان التيار إليه، وضاق عند ذاك بمقعده وبالمكان، فاعتزم مغادرة المكتب الذى يتمرن فيه وطوى الخطاب وارتدى طربوشه، ومشى إلى الخارج وفى الطريق ارتد خياله إلى الماضى يتعقب حوادث الأمس المنطوى، لا يدرى بالضبط متى تعرف بإحسان، وإن كان يشعر أنها تملأ ماضيه جميعا، ذلك أنه لم يعتد مطلقا عادة كتابة المذكرات، فسجلت ذاكرته الحادثات بنسبة تأثرها بها لا على حقيقة وقوعها، ولكنه يذكر بغير ريب أنه فى صيف العام الماضى سكنت أسرة إحسان فى عمارة رقم 10 بشارع البستان بالسكاكينى، وأنه تعرف بالفتاة قبل أن يمضى شهر على نزولها بالحى الجديد، وقد جعلت المقادير حجرة نومها تجاه حجرة نومه فتهيأت لكل منهما الفرص لتذوق صاحبه وتقدير مزاياه، وجذبته بادئ الأمر ملاحتها، وأناقة قسماتها فانجذب إليها ينشد الحب واللهو والعبث، وما يدرى إلا وقد بهره ذكاؤها ورقة روحها وأنوثتها الناضجة فأحبها الحب الصادق، وتعاهدا مخلصين أن تكون له وأن يكون لها ما امتد بهما العمر، وشارك المحبان حياتهما الهنيئة التى تطرد فى هدوء بين المناجاة واللقاءات والوعود والرياحين، إلى أن كان يوم عادت أمه فيه من إحدى الزيارات تكيل الذم لفتاة التقت بها لأول مرة فى بيت جارتها فدفعه حب الاستطلاع إلى السؤال والتحرى فإذا بالفتاة فتاته دون غيرها، وإذا بأسباب غضب أمه عليها أنه دار حديث بين السيدات عن أعمارهن ولما سئلت أمه على سنها قالت «كنت ابنة عشرين أيام الحرب»، وكانت تعنى الحرب الكبرى ولكن إحسان تساءلت بخبث تعقب على قول السيدة وهى تجهل أنها أم حبيبها «حرب عرابى يا تيزة» وضحك السيدات طويلا وضحكت إحسان كذلك ولم تكن قالت ما قالت إلا بدافع الميل إلى الفكاهة ولكن أمه لم تحتمل هذه الفتاة، وأحست بطعنة أليمة نغصت عليها صفوها، واستمع حسان إلى قصة والدته باستياء وغيظ وأسف وكان ينوى قبيل ذلك أن يعلن خطبته فاضطر إلى التريث مغلوبا على أمره، وعهد بإسكات ذاك الغضب إلى الزمن، ولما ظن أن ما كان من الأمر قد نسى وعفا أثره تقدم إلى والدته يحادثها فى أعز أمانى قلبه، ولكنه وجد منها ازورارًا وإباء وكبر عليها جدا أن تستأثر بابنها غدا التى أهانتها بالأمس فرفضت الإصغاء إليه وأصرت على أن مثل تلك الفتاة غير جديرة به، ولا كفء له وذهبت كل محاولاته وتوسلاته لاسترضائها أدراج الرياح، وعجب حسان لغضب أمه أكان حقا لتلك الدعابة المرة أم لإشفاقها من احتمال تحول قلب ابنها الوحيد عنها إلى امرأة أخرى؟ أم كان لهذين معا؟ ومهما يكن من الأمر فقد أسقط فى يده وتوزع قلبه ألما وحزنا بين أمه وحبيبته وكابد فترة من الحياة مليئة بالقلق والعذاب موزعة بين الألم والضجر واليأس والحنق ثم أعلن ما كان سرا وافتضح ما كان خافيا فصار عداوة صريحة بين أمه وخطيبته تحدثت بها ألسنة الحى جميعا، وإنها لعلى شدتها وقوتها إذ أحست أمه بالمرض فجأة فلزمت الفراش ثلاثة أيام ثم انتقلت إلى جوار ربها فى اليوم الرابع، ووقع الخبر بعنف وشدة ففزع وهلع وتقطع قلبه ألما، كان يحب أمه حبا كبيرا، وقد هاج الفراق الأبدى الحب المتغلغل فاختنق بالعبرات وأظلمت الدنيا فى عينيه، ووسوس له قلبه بخاطر زاد من ألمه، قال عسى أن تفرح إحسان لموت أمه وقد كانت تعدها عثرة فى سبيل سعادتها فما من شك فى أنها سعيدة مغتبطة وإن تظاهرت بمشاركته حزنه، وألمه هذا الخاطر ألما عميقا، وزاد من وقعه أن سمع من حوله يتهامسون فانطوى على الحزن والغضب ورأى قبر أمه العزيزة يقوم حائلا منيعا بينه وبين الفتاة. فهجرها فجأة وامتنع عن الرد على رسائلها وانغمس فى الكآبة والأحزان ومكابدة الآلام والأشواق زائغ البصر بين ذكرى أمه وذكرى سعادته حتى تعود على الألم وألف التصبر والتجلد وظن أنه يتناسى الماضى بهمومه وآلامه أو أنه نساه بالفعل. ازدحمت هذه الذكريات برأسه فى طريق العودة إلى البيت ولكنها لم تصحب بعواطف فى مثل مرارتها وحزنها إذ كانت الذكريات تمر برأسه أخيلة مجردة من عواطفها وإحساساتها، أما وجدانه فكان كله مستغرقا فى أثر الخطاب والموعد، لذلك انصرفت نفسه عن النداء، وعز النوم على جفنيه وجاءت أفكاره حول فتاته فتمثلها أمامه بقدها الممشوق ووجهها البدرى وكأنه كان يسمع رنة صوتها، ويشم رائحة «سوار دى بارى» التى تتعطر بها فانفعل انفعالا شديدا نيابة عن الطمأنينة ولم يكن تم رأيه على شىء ولا بت فى المسألة برأى بل كان يحاذر من مواجهتها مواجهة حتى لا يقطع فيها برأى ينغص عليه أحلامه أو يميل بها إلى حل يثير كوامن أحزانه حتى إذا وافى الأصيل وجد نفسه يغادر البيت ويقصد إلى قصر النيل مستسلما لتيار عنيف لا يتنكب عن طريقه ويأبى أن يقر بالاستسلام، ولكنه ألقى نفسه أمام ما يحاذره حين عبر الجسر، وطالعته الحديقة الأندلسية بخمائلها المعشوشة ومدرجاتها السندسية هنالك أحجم عن التقدم وانعطف إلى يمينه يساير النيل مضطربا حتى حجبه سورها الحجرى ثم استند إليه متريثا وقد لفته الحيرة والاضطراب، ولبث فى جمود تام، وكانت أفكاره تنجذب بشدة نحو تلك التى لا يفصلها عنه سوى السور الحجرى وسرى فى ملمسه من الحجر البارد تيار حار متدفق فخفق قلبه بعنف وكاد يتحول إلى الباب مندفعا وفى تلك اللحظة الفاصلة ارتد خياله فجأة إلى بعض حقائق الماضى الأليمة فبردت حماسته وهبطت حرارته وانتكس انتكاسا غريبا أحس من جرائه بخجل واستحياء وألم فجعل يتساءل مغيظا محنقًا: كيف حملتنى قدماى إلى هنا ولم يلبث أن احتدم بقلبه الغضب، وخال أن إقدامه على الذهاب إلى هناك عيب حقيقى بأن يجعله ضحكة للضاحكين والشامتين. وهز منكبيه باستهانة وانحدر فى الطريق الضيق مبتعدا عن الحديقة، ولم يعتوره التردد سوى مرة واحدة وقف عندها قليلا والتفت وراءه ثم استأنف المسير بعزم وبأس، ولم يكن يملأ فراغ خياله حينذاك سوى صورة أمه، وهكذا خان عهد سعادته ليكون وفيا لذكرى أمه، وكثيرون هم الذين يعانون الآلام والمتاعب فى سبيل ما يتمثل فى نفوسهم من الأوهام.•