%30 انخفاضًا في أسعار سندوتشات الفول والطعمية.. «الغرف التجارية» تكشف التفاصيل (فيديو)    محافظة الجيزة: قطع المياه عن منطقة منشية البكاري 6 ساعات    اليونيسف تعلن استشهاد أكثر من 14 ألف طفل فلسطيني في العدوان الإسرائيلي على غزة    متحدثة الأمم المتحدة للشئون الإنسانية: الموقف بغزة ما زال كارثيًا ومرعبا    المقاولون العرب يكشف تشخيص لؤي وائل وتطورات حالته    شتيجن يعلق على رحيل تشافي عن برشلونة    الأهلي يهزم وفاق عين التوتة ببطولة كأس الكؤوس الإفريقية لكرة اليد    درجة الحرارة تتجاوز 40 .. بيان هام بشأن الطقس الأسبوع المقبل: أعنف الموجات الحارة    أحمد صيام ناعيا صلاح السعدني: شخصية عظيمة رفضت التغييرات التي طرأت على الفن وتنحى جانبا    بعد قليل.. انطلاق حفل آمال ماهر وسط توافد جماهيري ملحوظ    لا يقتصر على السيدات.. عرض أزياء مميز ل «التلي» برعاية القومي للمرأة| صور    عمارة : مدارس التعليم الفني مسؤولة عن تأهيل الخريج بجدارة لسوق العمل    شروط التقديم للتدريب الصيفي لطلبة هندسة وعلوم بمركز بحوث الفلزات    مرموش يقود آينتراخت أمام أوجسبورج بالدوري الألماني    حسين فهمى ناعيًا صلاح السعدني: الأخ والصديق والحبيب    مطار مرسى علم الدولي يستقبل 149 رحلة تقل 13 ألف سائح من دول أوروبا    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    وزير الاتصالات يشهد ختام فعاليات البطولة الدولية للبرمجيات بمحافظة الأقصر    الهنود يبدءون التصويت خلال أكبر انتخابات في العالم    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    إخماد حريق بمخزن خردة بالبدرشين دون إصابات    ضبط لص الدراجات النارية في الفيوم    ولاية ألمانية تلغي دعوة القنصل الإيراني إلى حفل بسبب الهجوم على إسرائيل    تسجيل أول سيارة بالشهر العقاري المتنقل في سوق بني سويف    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    التنسيق الحضاري ينهي أعمال المرحلة الخامسة من مشروع حكاية شارع بمناطق مصر الجديدة ومدينة نصر    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    دعاء يوم الجمعة قبل الغروب.. أفضل أيام الأسبوع وأكثرها خير وبركة    وزير الصحة يتفقد المركز الإفريقي لصحة المرأة ويوجه بتنفيذ تغييرات حفاظًا على التصميم الأثري للمبنى    محافظ الإسكندرية يدعو ضيوف مؤتمر الصحة لزيارة المعالم السياحية    عمل الحواوشي باللحمة في البيت بنفس نكهة وطعم حواوشي المحلات.. وصفة بسيطة وسهلة    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    محاكمة عامل يتاجر في النقد الأجنبي بعابدين.. الأحد    متحف مفتوح بقلب القاهرة التاريخية| شارع الأشراف «بقيع مصر» مسار جديد لجذب محبى «آل البيت»    إعادة مشروع السياحة التدريبية بالمركز الأفريقي لصحة المرأة    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    «التحالف الوطني»: 74 قاطرة محملة بغذاء ومشروبات وملابس لأشقائنا في غزة    جامعة القاهرة تحتل المرتبة 38 عالميًا لأول مرة فى تخصص إدارة المكتبات والمعلومات    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    وفاة رئيس أرسنال السابق    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    استشهاد شاب فلسطينى وإصابة 2 بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم نور شمس شمال الضفة    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوية الأمس وهوية اليوم
نشر في صباح الخير يوم 15 - 08 - 2018


كتب: عز الدين نجيب
الشعوب تحمل هويتها تحت جلدها، فلا تظهر إلا حين تفرح أو تحزن أو تغضب أو تتفاعل مع المواقف، أما هوية الشعب المصرى فظاهرة فوق جلده، أو بالأحرى كانت كذلك فى الماضى، تسبقه وتوجه سلوكه وانفعالاته ومواقفه منذ آلاف السنين، كانت بمثابة «غلافه الروحى» المتوارث طبقة فوق طبقة منذ العصور الفرعونية.
نقول «كانت كذلك» حيث اعترتها فى العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة متغيرات جمَّة غريبة عن سياقها التاريخى والحضارى، ما يجعل لها وجها آخر غير ما كانت عليه، لذلك نحاول التشبث بملامح الشخصية الأصلية، أملًا فى استعادتها مع محاولات الإصلاح الاجتماعى والاقتصادى والسياسى الذى أدى غيابه إلى الانحراف بها.
وحين أستعيد هذه الملامح من ثنايا الذاكرة حتى ستينيات القرن الماضى، أجدها تتجلى بوضوح فور التعامل مع المواطن البسيط آنذاك، منها الإيجابية ومنها السلبية، وأغلبها متوارث وأقلها مكتسب فى فترات زمنية لاحقة، عمادها الأساسى يرتكز فوق إيمان قوى بالأديان وبالقضاء والقدر، والتسليم المطلق بما يصيب المرء منها خيرًا أو شرًا، وهو يظن دائمًا أن عين الله تراه فى كل لحظة. فيكثر من الشكوى إليه حتى ولو كان سببها يرجع لسوء أفعال الشخص، فلا يسعى جاهدًا لحل مشاكله بالعقل والعمل مكتفيًا بالاتكال على الله، ولا يتوقف عن القسم به بغير ضرورة فى كل صغيرة وكبيرة، ليبرئ نفسه أمام من يظن أنه يشك فى صدق كلامه أو يسلبه حقه، فيأخذه ذلك إلى المراوغة واللف والدوران.. حتى الكذب أحيانا!
الطبيعة.. والهوية
«كم لنيلك من أيادى»
النيل والموقع الجغرافى الفريد لمصر يشكلان أبرز العوامل فى شخصية المصرى وتاريخه الممتد بامتداد النهر ووفائه بالفيضان كل عام حاملًا الخير بلا انقطاع إلا فيما ندر، أما الموقع الجغرافى والأجواء المناخية فكانت سببًا فى انتظام الفصول واستقرار الطبيعة وازدهار الزراعة فى أول مجتمع زراعى فى التاريخ، وكانت سببا كذلك فى مركزية الحكم وتقديس الحاكم والخضوع للسلطان، وأدَّت فى النهاية إلى ازدياد أطماع القوى الاستعمارية فى مصر لنهب خيراتها والتحكم فى المسارات الملاحية الدولية المتصلة بها والهيمنة الاستعمارية على الشرق من خلالها بسبب موقعها المتوسط بين القارات.
ولم يكن للمصريين – على امتداد ألفى عام توالت خلالها موجات الاستعمار على مصر بدءًا من الرومان والفرس – من سلاح المقاومة إلا الدين، باعتبار المستعمرين كفارًا، ما جعل الغزاة والفاتحين – من أوائل الدولة الأموية حتى عصر الاستعمار العثمانى «1517 / 1798» يتخذون من الإسلام قناعًا يسيطرون به على الحكم ويجهضون به سلاح المقاومة الشعبية، ولم يكن أمام المصرى المستضعف إلاَّ سلاح المقاومة السلبية وما تؤدى إليه من أساليب النفاق والمراوغة والتكاسل والشكوى والتسليم للأقدار المكتوبة فى اللوح المحفوظ قبل ولادة الوليد.
أنماط المقاومة
لكن المصرى استطاع أن يبتكر أنماطًا أخرى للمقاومة بعبقرية فطرته فى مواجهة أشكال الفقر والاستغلال والظلم على أيدى الأجانب وخدَّامهم من المصريين والمستغلين، فباتت من ملامح هويته التاريخية.
من ذلك حِسُّ الفكاهة والسخرية، يواجه بهما كروب الدهر وقهر الرجال وقبضة الاستبداد، ومنها الصبر الذى لا نهاية لحباله، والرضا بالمقسوم اعتمادًا على عدالة السماء فى الدنيا والآخرة، لأن الله عادل لا يرضى بالظلم، وهناك الإيمان بفكرة الخلاص بعد إرضاء الله بعبادته والتفانى فى العمل كنوع من العبادة، اتساقًا مع الحضارة المصرية القديمة، ومع قوانين الطبيعة الراسخة فى نظام الزراعة من زرع وحصاد ورعاية للمحاصيل فى مواعيدها المحتومة، وكذا رعاية الحيوانات الأليفة.. تلك الكائنات الطيبة الكادحة المعطاءة للخير وقوة العمل، وبذلك يمتد إلى عِرقه الحضارى – المصرى القديم – الذى ذهب إلى تقديس هذه الحيوانات.
كله سلف ودين
ومن وراء ذلك كله تكمن طبيعة حب المصرى للحياة والبناء والتعمير والانتماء للأرض والجذور وحتى للجدران، كما تكمن طبيعة التساند بين المطحونين فى السرَّاء والضراء، ويعبرون عن هذا وذاك بأعلى الأصوات والسلوكيات، من خلال المشاركة الجهيرة الصاخبة فى احتفالات الأفراح كما فى طقوس الموت.. كنت تجد الفلاحين الفقراء يقفون معًا فى الشدائد على قلب رجل واحد، فيتكفلون بدعم عائلة رجل رَحَل، أو بتعويض من اشتعل حريق فى بيته بعد تعاونهم فى إطفائه، أو يجتمعون لبناء بيت الجار بأيديهم متطوعين بشكل جماعى، وكأنه البيت الخاص لكل منهم، لأن الدور فى البناء سيأتى إليه يوما ما، وكأنه سلف ودين، من هنا فليست فى القرية المصرية القديمة أبواب تغلق طوال النهار؛ فدار الواحد هى دار الكل، وما بداخلها كذلك حق للكل، يأخذه كل واحد بأريحية ورضا، ولا مكان أصلًا للص يتسلل ويسرق بيتًا أو محصولًا من الأرض، فذلك عار لا يغتفر.
وكان الأهل يتواصلون مع الأسلاف الراحلين وكأنهم أحياء، فهم امتداد لهم وميراث معنوى للجماعة لا للأسرة وحدها، بكل ما يمثلونه من حكمة وعطاء وخبرة بالحياة وذكريات طيبة، وقد يملأهم الإحساس بأن أرواحهم تحل فيهم فتعطيهم دوافع جديدة، فكأنهم يواصلون الحياة نفسها بأسماء جديدة.. لهذا كنَّا نراهم يحتفلون معهم فى المقابر أيام الأعياد، حاملين معهم فطائر الرحمة، بما يذكرنا بموائد القرابين فى مصر القديمة !
التعليم.. والفن.. والحكمة
لكن المصريين حين يجدون من يحنو عليهم ويحقق العدل بينهم ويضىء لهم الأمل فى حياة أفضل، يسابقون الزمن لتعويض ما فاتهم من علم وتقدم، هذا ما رأيناه عندما أطلق الدكتور طه حسين صيحته الشهيرة «التعليم كالماء والهواء» عام 1950 حين كان وزيرًا للمعارف فى حكومة الوفد.. تسابق المصريون للالتحاق بالمدارس واكتساب أكبر قسط من التعليم، فرأينا منهم نوابغ لا تُحصى، ثم تضاعف ذلك بعد ثورة 1952، فأصبح الاستثمار الحقيقى للمواطن الفقير يتم بتعليم أبنائه، ولم يكتف المتعلم الذى أصبح معلمًا بما أصبح عليه فى بلده، بل بادر لتلبية دعوة أشقائه العرب فى كل مكان للقيام بتعليم أبنائهم على امتداد النصف الثانى من القرن الماضى، رغم بداية التجربة لم تكن مغرية ماديا بأى حال.. إنها تجربة هائلة خرجت أجيالًا من المتعلمين والنابهين بمصر والعالم العربى لا ينكرها أحد، فأضاءوا بذلك مساحات شاسعة من ظلام القرون!
ووجد المصرى فى الفن والحكمة وسيطا للتعبير عن نفسه وأحواله بأفراحه وأحزانه، بلوْعَة عشقه وحُرقة اغترابه، ولمنحه القدرة على احتمال ذلك كله واجتيازه، من خلال الموال والناى والمزمار والرسم والتزيين، وإضفاء لمسة الجمال على واجهة بيته وجدران مسجده وأنماط أزيائه وأدواته المستعملة، متماهيًا بذلك مع حضارة أسلافه الأقدمين، كما ابتكر من الأمثال الشعبية الحكيمة ما يحل به أعتى المشكلات مستدعيًا من خلالها حكمة الدهر، ولو قمنا بتحليل هذه الفنون بأنواعها والأمثال بمدلولاتها لوجدناها كتابًا مفتوحًا نقرأ فيه ملامح وأسرار الهوية المصرية «التى كانت»، ولعرفنا منه أن محبة الفنون لا تقتصر على صانعيها فى كل مجال، بل هى هوى عميق داخل الشخصية المصرية فى جوهرها، ما يجعلها خاصية أساسية من خواصها.
لكن بعض هذه الفنون تتحول فى حالات خاصة إلى أداة لتكريس عادات وتقاليد سلبية، خاصة ما يرتبط منها بالسحر والشعوذة، حيث ينحرف وعى الفقراء بعيدًا عن الأسباب الحقيقية لمشاكلهم وتخلفهم، فيبحثون عنها عبر طقوس الشعوب البدائية حتى أصبحت هذه الممارسات القبلية – حتى عهد قريب – مخرجًا للتنفيس عن المقهورين والمرضى النفسيين وبعض المنحرفين بالدين نحو طقوس أقرب إلى الوثنية، مثل طقوس الزار وأعمال السحر، لاتقاء شر أو لجلب محبة! فتأصلت بذلك عقلية خرافية، وتم تكريس الخوف من المجهول، وممن يعيشون بيننا من «أرواح» فتعيث بحياتنا فسادًا دون أن نراها!
هوية اليوم
لكن.. أين نحن اليوم من هذه الشخصية بجانبيها الإيجابى والسلبى؟.. يؤسفنا القول إنه على امتداد العقود الأربعة الأخيرة تلاشى أو انزوى الكثير من الملامح الإيجابية، ونمت فى المقابل الملامح السلبية المذكورة آنفًا.. حتى أصبحنا أمام شخصية مختلفة لا تنتمى إلى الجذور الحضارية التى كانت تميز الشخصية القديمة..
لقد تفككت أواصر الجماعة وتحول الناس إلى جزر منعزلة يتربص بعضها بالبعض الآخر، وسادت الأنانية وقيم التسلق والانتهازية، وتراجع الشعور بالانتماء للأرض والجذور، وتضاعف الشعور بالعداء للنظام والتربص برموزه بتأثير خاطئ لمناخ ثورتى يناير ويونيو، وتحللت الأسرة مع افتقار أفرادها إلى روح التضحية والجماعة والمسئولية المجتمعية فى حمَّى السعى اللاهث وراء المال والمصلحة ولو على حساب أى شىء.
وضعُفَ وازع الضمير الفردى والجمعى تجاه الوطن، واندثر الصبر أو كاد، واندثرت معه معانى الرضا والتسامح وأواصر المودة، وانحسرت معانى الإيمان الصحيح لصالح تجار الدين السياسى أو مظاهر الخرافة والغيبوبة باسم الدين.
واضمحل العلم والتعليم واختفى دورهما فى المجتمع، ولم يعد رب الأسرة يؤمن بفكرة الاستثمار فى أبنائه بالتعليم، بل أصبح كل همه حصول إبنه على الشهادة كمؤهل لكسب العيش أو للوجاهة الاجتماعية لا غير.
وعمَّت مظاهر القبح البصرى والسلوكى فى الشارع المصرى وقلما يشعر المواطن بهذا القبح بعد أن تكيَّف مع وجوده... وكنتاج لكل ذلك شحبت الملامح الإيجابية لشخصية المصرى، وفّتّر إحساسه بالفخر والانتماء إليها، وغاب الشعور الجمعى بأهمية المشاركة فى صنع مشروع قومى لنهضة الوطن.
ومع ذلك أعتقد أن هذا الوجه الآخر الجديد للشخصية المصرية عارض مؤقت نتيجة تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية شهدتها مصر كما شهدتها كل دول العالم، وتفاقمت هذه التحولات بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيه مع ازدياد الاستخدام السلبى لوسائل التواصل الاجتماعى، تُغذِّى ذلك كله إحباطات سياسية واقتصادية واجتماعية خلال فترة انتقال مصيرية يمر بها الوطن، لكن مع تحقق منتظر لمزيد من الاستقرار الاقتصادى وتوافر لفرص العمل للشباب ومع تماسك مأمول لأيدى المصريين حول مشروع قومى لاسترداد موقعنا اللائق بنا ومكانتنا بين الأمم، ومع اكتمال ما نراه بأعيننا من محاولات للإصلاح وإعادة البناء، يمكن أن تستعيد الأمة وجهها وهويتها الحقيقية، مثلما رأينا فى مراحل تاريخية سابقة قبل يوليو 1952 وبعده، حينما استرد المصريون وعيهم بذاتهم وجذورهم ولمسوا ثمار الإصلاح.
المصرى فى عيون المبدعين
الظلال والتحولات
ولقد لمس المؤرخون والباحثون والمفكرون مثل هذه التحولات على امتداد القرون الماضية، بل تّجسَّدت النتائج أكثر فى مجالات الأدب والفن، منذ بدايات ظهور الرواية العربية على يد محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وقصص محمود طاهر لاشين ويحيى حقى وطه حسين والمازنى وتيمور والبدوى وغراب وعبدالحليم عبدالله، ثم تأصلت منذ الخمسينيات فى أعمال نجيب محفوظ والشرقاوى وإدريس ومسرحيات نعمان عاشور وسعد الدين وهبة، ثم فى أعمال رموز الأجيال التالية.
وبالمثل نجد التعبير عن الشخصية المصرية بنفس القوة فى أعمال الفنانين التشكيليين الرواد، بدءًا من النحات محمود مختار، الذى أعاد اكتشاف المرأة المصرية وخلد مكانتها العظيمة فى الحضارة واتخذها رمزًا للوطن والنهضة الحديثة، مرورًا برواد النهضة المصرية من المصورين: محمود سعيد، محمد ناجى، راغب عياد، يوسف كامل.. وغيرهم، ثم جيل الأربعينيات الذى أزاح الغطاء عن الأبعاد المسكوت عنها فى الفن للشخصية المصرية، الغارقة فى الخرافة والسحر، وقدمها برؤية نقدية، وعلى رأسهم الفنانون عبدالهادى الجزار وحامد ندا وسمير رافع وماهر رائف، ومن ورائهم فنانو جماعة الفن والحرية «رمسيس يونان، كامل التلمسانى، فؤاد كامل».. ثم يأتى الجيل الذى صاحب ثورة 1952 الذى تجلى فى لوحاته وتماثيله الوجه المضىء للشخصية المصرية، مثل حامد عويس، جمال السجينى، يوسف سيده، إنجى أفلاطون، تحية حليم، جاذبية سرى، زينب عبدالحميد.. إلخ.. إلخ.
ولا تزال الأجيال والرؤى الإبداعية تتوالى بأيدى الفنانين والمبدعين أدبًا وتشكيلًا وموسيقى ومسرحًا وشعرًا وسينما وغيرها.. معبرة عن الشخصية المصرية. مع اعترافنا بأن هذه المسيرة الإبداعية يكتنفها الآن ما يكتنف الشخصية المصرية من ظلال وتحولات، فى غياب بوصلة تقود إلى الطريق نحو المستقبل، وتفتح آفاقًا مشرقة لإحياء هذه الشخصية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.