الربيع فى بلادنا حالة انتظار لفرح البهجة، ووعود التغيير بالخروج من حالة الكمون إلى النشاط والأمل التى عبرت عنها أغانى الحب والورود و.. و.. تلك الحالة التى توارثها المصريون منذ آلاف السنوات، حينما كانوا أول من ابتكر احتفالات مهرجانات الربيع. بفخر كانوا ينتظرون اللحظات التى يتربع فيها قرص الشمس فوق قمة الهرم فى نفس التاريخ من كل عام. فاردة أشعتها حول جانبيه فى ظاهرة كونية عجيبة، كما لو كانت تحتضنه وتحتويه فى احتفال مهيب بين الضياء والظلال، وبشغف يشهدون لحظات تساوى ساعات الليل بالنهار بابتسامة تفاؤل يرسمها كل برعم جديد يبزغ لنبات خامل، يعد أن طاقة الأرض الكامنة تتجدد بألوانها وتأثيرها اليقظ على أرواحنا وأجسادنا، ذلك الإحساس الذى توارثناه كمصريين مع قدوم كل ربيع.. ليومنا هذا. آدى الربيع عاد من تاني.. كنا نعرف أنه زمن الربيع «لما النهار يبتدى يطول شوية» كما يخبرنى عم محمود بائع الخبز الجوال الذى لا تمنعه سنواته الكثيرة من الحركة والنشاط، مستطردًا: كل شيء زمان كان يعطى المعنى الحقيقى للأشياء والأسماء؛ حتى المواسم والفصول.. فالربيع زمان كان ربيعًا بجد، والخريف كان خريفًا بجد..و..و.. فأسأله إذا كان سمع شيئًا عما يسمى الاحتباس الحراري... فيرسم ابتسامة حانية وهو ماضٍ فى طريقه ملوحًا بيديه، قائلًا: أعرف أغنية «آدى الربيع عاد من تاني» بتاعة فريد الأطرش، متسائلًا: تعرفيه؟ فأجيبه بثقة: «إلا أعرفه»!! أبتسم وأنا أتذكر أول مرة أشاهد فيها ذلك الأوبريت الذى يصف فيه «فريد الأطرش» فصول العام، وكيف كان الشاعر «مأمون الشناوي» ربما أول وآخر شاعر يبدع فى وصف ذلك الفصل الذى تغنى به فريد فى فيلم «عفريتة هانم» عام 1949 تأليف «أبو السعود الإبياري» وإخراج «هنرى بركات» كرمز لتغير حال الإنسان بين الحلم والحقيقة، بين الرفض والقبول، بين الموافقة والامتناع.. حتى صارت تلك الأغنية هى أيقونة الربيع التى طالما كان «فريد الأطرش» يستهل بها موسم الطرب والغناء فى حياته. بينما تستهل بها الإذاعات العربية موسم الربيع... وفى كل مرة أقف قليلًا أمام صيحة أحد المعجبين الذى ينطلق بصيحته قائلا: هل فريد وهل الربيع... الدنيا ربيع... أسأل «آمال يوسف» إذا ما كانت اختارت أغنية «الدنيا ربيع» لأن «دمها خفيف» مثل «سعاد حسني»، كما يخبرها البعض فى مجال الفن التى تعمل به كهاوية رغم أنها محامية؟ ولكنها بمنتهى الجدية تتفق مع رأى «مارى لمعي» – السكرتيرة بإحدى الجمعيات الأهلية – التى تخبرنى أن أغنية «الدنيا ربيع» هى تجسيد حى لقانون الربيع بما تقره من حالة التجديد والتغيير والبهجة التى يمنحها لنا قدوم هذا الفصل، بل والسلوك الذى يجب علينا اتباعه تناغمًا مع ذلك الانطلاق الإعجازى الذى يبثه الربيع بالأرض فى طيورها، وأشجارها، ونباتها، وزهورها.. وكأنها دعوة إلهية تطالبنا بانطلاق الروح والتخلى عن جفاف وجمود الثبات الذى يشبه حال الطبيعة قبل الربيع.. أما «آمال..» فتستطرد قائلة: وهو بالطبع ما نقلته إلينا «سعاد حسني» بصوتها وإيقاع رقصها، حتى باختيار لون فستانها وتصميمه، بل وقصة شعرها، وملامح أدائها فى فيلم «أميرة حبى أنا» الذى غنت فيه تلك الأغنية، ونقلت لنا عبره حركة انفتاح الكون على النور، والجمال المتدفق بنشاط بين روح الإنسان والطبيعة، فصارت هى وأغنيتها واحدة من أجمل أغنيات الربيع... الزهور زى الستات... الربيع يعنى أغنية «زى الستات» التى غناها «محمد فوزي» بعبقرية نادرة.. يقول «مطاوع حسين» -كاشير- فى منتصف الأربعينيات! فوجدتنى بتلقائية شديدة أخبره أننى لست متعجبة من اختياره، حائرة من ذكر السبب الحقيقى الذى دفعنى لإخباره بهذا... ولكننى قررتُ قول الحق: أرى أنك تمتلك مهارة عد الفلوس وتأمل النساء فى آن واحد! ضحك «مطاوع» مؤكدًا: طبعًا.. ما هو كله فن! ظللتُ أدندن بكلمات الأغنية التى كتبها الشاعر «صالح جودت»، وغناها «فوزي» عام 1954 فى فيلم بنات حواء، حيث تصف النساء بالزهور التى يشرح لنا المؤلف والملحن الرمز الذى تشير إليه كل منها.. فالبنفسج رمز المرأة الجميلة بمسحة الحزن الهادئ، والقرنفل الساحر رمز المرأة القوية والمتميزة بخفتها وشقاوتها، أما المرأة الحساسة التى تعرف كيف تعبر عما يجيش بنفسها فهى الورد البلدى بمختلف ألوانه وأحجامه... يا بدع الورد.. ولأنه شاعر، أخبرنى رجل الأعمال «إيهاب بهاء الدين»- أن أغنية «يابدع الورد» للمطربة «أسمهان» واحدة من أجمل الأغنيات التى تبشر بالربيع.. وتخبرنا كيف كان المبدعون فى الأربعينيات والخمسينيات يسهمون فى خلق الجمال والطاقة الإيجابية بأسلوب بسيط، بعيدًا عن الوعظ والإرشاد والتوبيخ. رغم أن من كتب كلماتها هو شاعر غير معروف اسمه «حلمى الحكيم» - أقاطعه: ولكن اللحن لفريد الأطرش - مؤكدا على قولى بإيماءة رأسه، مستطردا: كان كل تركيز الشاعر على وصف الورد كلوحة من إبداع الخالق فى كلمات تسمو بالقيم الأخلاقية، فيصفه كرسول العشاق، وسمير المشتاق.. وبدون إهمال للمشاعر الإنسانية يقول: ندّى وردك يا خولى اوعى يجرحك شوكه واسهر عليه، دادى حبك ياهايم احسن يألمك شوقه واعطف عليه، هادى حبك ياعاشق وردك ينعشك طوقه وقبّل ايديه.. باقة أغانى الربيع.. فى كل الأحوال، ومع حلول الربيع..كانت -وربمالا تزال- القنوات الأرضية والفضائية تذيع علينا الأغانى التى تغازل الورود كرمز أصيل لهذا الفصل وعودة الروح للحياة بعد البيات الشتوى الكوني..منها: «ياحلاوة الورد يا جمال الورد..» التى شدت بها «هدى سلطان» وكتبها الشاعر فتحى قورة عام 1954 فى فيلم «لمين هواك». وكيف كان لحن الربيع بفيلم «لحن الوفاء» كلمات الشاعر «محمد على أحمد»، وألحان العبقرى «رياض السنباطي» الذى سحرتنا به «شادية» عام 1955... هى هدية الربيع بما تحتويه من صور تؤكد أن آلام الحياة ومتاعبها لا تهون ولا يخفف حدتها سوى الحب الذى وصفته «شادية» بأنه الربيع والهوى والغرام. أما أغنية «مين يشترى الورد مني» التى كتبها الشاعر «أحمد رامي» وشدت بها «ليلى مراد» عام 1942 بفيلم «ليلي» فجاءت- من إبداع «السنباطى أيضا- تصف الورد وألوانه، حيث الأصفر يعنى الغيرة، والأبيض يعنى الصفاء، والأحمر سر الغرام .ولا يأتى الربيع دون أن ننسى كيف أن أغنية «الورد جميل.. شوف الزهور واتعلم» التى كتبها الشاعر «بيرم التونسي» عام 1947 قد خلدتها سيدة الغناء «أم كلثوم» بمجرد غنائها، بينما حولها أسلوب غناء الملحن «زكريا أحمد» لأغنية مرحة رغم كل الجدية التى يتغنى بها. الطريف أن جميع من قابلتهم لم يذكر لى أية أغنية حديثة تشير إلى فصل الربيع... لعل المانع هو الكثير من الواقعية والمعاناة والضغوط التى أفقدت أبناء ذلك الجيل القدرة على تأمل الطبيعة، والاحتفال بقدوم أجمل فصل فى مشهده ومعناه أيضا... •