مازلت أتذكر مدرستى الابتدائية فى محافظة بورسعيد، التى تطل على البحر مباشرة بفنائها الرحب وحصة التربية الرياضية، وحجرة كبيرة للموسيقى كحجرة التدبير المنزلى وحجرة العلوم. كانت أستاذة إيفون مدرسة التربية الموسيقية، كباقى المدرسات وقتها يتميزن بأناقتهن وعنايتهن بمظهرهن، وتصفيف الشعر بطريقة لا تختلف كثيرا عن نجمات السينما، كما كنا نشاهدهن على أغلفة المجلات خاصة الجميلة «شادية».. كان هذا مبهرًا جدا لى ولباقى زميلاتى وقتها، وكانت المدرسات كأنهن يتسابقن فى إظهار أناقتهن، حتى ناظرة المدرسة، وكانت ثقافة الجمال هى السائدة، وأسلوب الحياة الشياكة والجمال والرقى والنظافة.. أستاذة إيفون وجمالها الهادئ ونبرة صوتها الرقيقة أثناء الحديث وفى غنائها للسلم الموسيقى كانت أشبه بالنجمة Julie Andrews بطلة فيلم sound of music فلازلت أتذكر أستاذة إيفون وغناءها للسلم الموسيقى كلما شاهدت هذا الفيلم. غرفة الموسيقى بكل ما تحتويه من آلات «إكسليفون، أوكورديون، بيانو» وغيرها من آلات موسيقية، كنا نتمرن عليها، وكنت أتدرب على الإكسليفون حصتين أسبوعيا، وكان هناك اهتمام بالغ بالنشاط الفنى رغم الضغوط السياسية فى البلد وقتها وهذا ما أدركته لاحقا. فى ذكرى الانتصار وخروج قوات العدوان الثلاثى فى 23 ديسمبر، كانت الاحتفالات تقام فى كل مكان فى مدينة بورسعيد، وكان استاد بورسعيد يضم احتفالا خاصا يحضره الزعيم جمال عبدالناصر بعد جولة فى المدينة الباسلة.. كنا ننتظر هذا اليوم من عام إلى عام، ويبدأ طلبة المدارس الابتدائية فى التدريب لتقديم رقصات تعبيرية على أغانٍ وطنية، وتتزين واجهات المنازل لهذا الحدث كل عام، استعدادًا لهذا الحفل، وتقدم مجموعة من فتيات كل فصل فى المدرسة الحفل وأغانيه واستعراضاته، وتتشارك معلمتا الموسيقى والألعاب إعداد الطالبات لهذا الحدث. لغة العالم «الموسيقى هى اللغة الوحيدة التى تجمع العالم كله» أتذكر جملة أستاذة إيفون هذه دائما وكيف حاولت إيصال معلومة بهذه الرقة للأطفال، وكيف أن الموسيقى هى لغة الجمال واللغة التى يتحدث بها العالم دون تفرقة بين لون وعرق، وبعيدا عن اللغة سواء كانت عربية أو إنجليزية أو فرنسية، فحروف الموسيقى الوحيدة الثابتة فى العالم كله. أفتقد هذا الاهتمام بالموسيقى ونقلها لجيل جديد مع أحفادى فى مدارسهم الدولية والأمريكية، فالمدارس تهتم فقط بمناهج دراسية جافة، لم أسمع حفيدى يتحدث عن آلة موسيقية، أو تتحدث حفيدتى عن حصة التدبير المنزلى أو الرسم. أخشى على هذا الجيل من أسلوب تعليم قاسٍ وجاف يملأهم فقط بقيم النفعية، فمن أين ستكتسب أرواحهم تلك الرقة وتلك الذكريات التى نعيش عليها حتى الآن، ومازلنا نواجه بها قسوة مواقف الحياة رغم مرورنا بأصعب اللحظات كالنكسة والحرب بعدها، فهذا الجمال الذى نشأنا عليه جعلنا أكثر هدوءًا وأكثر قدرة على استيعاب أزمات الحياة وامتصاص أى ضغط أو ظرف وجعلنا أكثر مرونة. حصة الموسيقى حصة الموسيقى جعلتنى أتذوق الفن بطريقة مختلفة، ولا أتقبل كل ما أسمعه، ومازلت أعيش على ما سمعته من الموسيقى التى تشبعت منها منذ الطفولة مرورا بالمراهقة والشباب، أعذر هذا الجيل الذى لم يحصل حتى على القدر القليل من الثقافة الموسيقية، فى ألا يستوعب ذوق جيلنا. تيسير محمد مدير عام سابق بوزارة الثقافة