ليس هذا العنوان من عندى، وإن كنت طبعا أتفق معه إلى حد بعيد، فعلماء الإعلام العالميون وزعماء سياسيون كبار ليس أولهم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، وليس آخرهم المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، يؤكدون هذا المعنى، بل إن ميركل بصفة خاصة هددت برفع دعوى قضائية ضد «فيس بوك» بسبب نشر الأخبار الكاذبة المؤذية لمصالح بلادها، وبينما اشتهر أن الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب فاز بالمنصب بفضل الأخبار الكاذبة المنشورة عبر «فيس بوك» إلا أنه فى اليوم الأول له فى السلطة اتهم أكبر موقع للتواصل الاجتماعى فى العالم بأنه أكبر مروج للأخبار الكاذبة! وحاول «مارك زوكربرج» مؤسس ومدير «فيس بوك» مرارا نفى الاتهامات الموجهة لهذه المنصة واسعة الشعبية والنفوذ حول العالم، فى البداية أنكر تماما أى ضلوع فى نشر أكاذيب ترتب عليها الترويج لترامب وفوزه، وبعد مكاشفات وضغوط ومراجعات، تراجع واعترف بوجود «أخطاء» وأنه سيتم تصحيح هذه الأخطاء. لكن وباء الأخبار الكاذبة لم يتوقف عبر «فيس بوك».. فقررت إدارته اتخاذ خطوات عملية للتأكد من صحة المعلومات والأخبار قبل السماح بنشرها عبر المواقع العديدة التى تنشر على هذه المنصة العالمية الكبرى.. وجرت فعلا محاولات محدودة، تراجعت عنها الشركة بعد قليل، وهكذا.. يتواصل انتشار الوباء الذى أكد القادة السياسيون العالميون أنه يهدد الديمقراطية وهو التعبير الذى أطلقه «أوباما». وبينما تحاول إدارة «فيس بوك» التحلل من مسئوليتها عن المواد المنشورة عبر الموقع مدعية أنها شركة تكنولوجيا وليست مؤسسة نشر وإعلام.. يواجهها علماء الإعلام والاتصال الإلكترونى، وأعلام فى الصحافة والتليفزيون والإذاعة حول العالم بأن المسئولية ثابتة وعليها أن تكون على قدر هذه المسئولية، ويجب أن يكون هناك نظام رادع يحكم عمليات النشر الإلكترونى كما هو الحال فى النشر الصحفى. حكاية الفتى مارك و«مارك زوكربرج» لديه مشكلة، هى أنه أصبح مؤسس ومدير أكبر مروج للأخبار الكاذبة فى العالم، وكما رأينا فقد كان بطيئا فى الاعتراف بها، مع أنها موجودة بوضوح كل يوم. وعندما بدأ يعلن عن مواجهتها ومعالجتها لم يكن جادا، أو هذا ما ظهر من خلال النتائج العملية وليس الأحاديث والتصريحات والوعود، والحقيقة الغائبة عن المناقشة حول مشكلة مسئولية «فيس بوك» كأكبر منصة عالمية لنشر الأخبار الكاذبة يطلع عليها يوميا ما يزيد على مليار إنسان حول العالم، هى أن الفتى مارك، ليست له دراية بالعملية الصحفية والإعلامية التى هى عملية نشر الأخبار. وكشف بعض العاملين الحاليين والسابقين لدى الشركة عن عناصر خلل واضطراب داخلى حول كيفية القيام أو عدم القيام بمراقبة محتويات المواقع التى تظهر على منصة «فيس بوك» والتى يرى المستخدمون للخدمة أنها إما أخبار كاذبة أو أمور مؤذية أخلاقيا ومعنويا. وأيا كانت الخلافات حول تنقية أو«فلترة» المواد المنشورة فالأمر يتعدى ذلك بكثير ويتعلق فى جانب مهم بحكاية الفتى مارك الذى كان ولدا عبقريا فى التاسعة عشرة عندما وضع فكرة «فيس بوك» وبالمناسبة فهى مستمدة من تقليد يتبع فى كل مدارس وجامعات أمريكا اسمه «فيس بوك» هو عبارة عن مجلد سنوى يضم صور كل التلاميذ، ومن هنا جاءت التسمية «كتاب الصور». وهدفه أن يتوفر دليل متاح للجميع للتعرف على تلاميذ كل فصل دراسى. نقل الفتى مارك الفكرة إلى الإنترنت عندما ظهر هذا الساحر الإلكترونى الذى مع الوقت غير فعلا حياة العالم والناس، وكانت فكرته وقتها تشبه الكتاب المذكور، تكوين حلقة تعارف بين الطلاب الجامعيين فى كل الولاياتالمتحدة، لكن تطورات كاسحة جعلت «فيس بوك» أكبر صفحة أولى لنشر الأخبار كل لحظة وكل ساعة وكل يوم،حول العالم، وتحول الفتى مارك إلى أحد أكبر مليارديرات العالم وأصغرهم سنا.. لكن هل وقع عقدا بأن يعمل كناشر وأن يلتزم بمسئوليات النشر وآداب مهنة الصحافة والإعلام، وهل كان مؤهلا لهذه المهمة؟! يقول أحد العاملين إن الحكاية بدأت كمشروع جامعى وأصبحنا الآن ما نحن عليه وهو ما لا نقدر عليه ولم نكن أبدا نريد! أخطر أمراض الجسم العملاق المشكل الكبير الذى يعتبر من أخطر أمراض هذا الجسم العملاق المسمى «فيس بوك» وقد يتسبب فى وفاته ضمن أسباب أخرى هو كما يعتقد خبراء علوم الاتصال والصحافة والإعلام وعمالقة المهنة عالميا، هو عدم الكفاءة أى أن حجم العمل متضخم جدا وعدد من يمكن أن يقوموا به بكفاءة محدود جدا وبالتالى غير مؤثر.. والنتيجة: مشاكل ومهازل وجرائم ضد الحقيقة والإنسانية والمهنية الصحفية. وعدم الخبرة يرتبط بعدم الكفاءة والمشكل هو فى تاريخ الشركة التى لم تقم فى الأساس كمرفق إعلامى عالمى يتيح لأى إنسان أن ينشر الأخبار والمعلومات والصور، ولهذا لم تقم على كفاءات مهنية إعلامية صحفية تعرف قواعد المهنة وأخلاقياتها ومسئوليتها القانونية والاجتماعية وقوانين وآداب النشر.. لم يكن هذا فى الحسبان، فقد اعتمدت فقط على كفاءات فى مجال الاتصالات الإلكترونية كشركة تكنولوجيا اتصالات. وعاشت «فيس بوك» سنوات فى أحضان العالم الاستثمارى ومساهمات المليارديرات كمشروع يحقق نجاحا تجاريا وماليا فائقا، ولا ينكر أحد أن ل«فيس بوك» أفضالا عديدة على العالم فى خدمة الحقيقة والمعرفة، لكن ذلك لم يتم بقصد من الإدارة أو بترتيب مسبق، فقد ظهر نتيجة حسن استخدام بعض المتعاملين مع هذه المنصة الجبارة، فى إطلاق الثورات وكشف الحقائق وفضح الفساد وغير ذلك. وما يحتاجه الآن الفتى مارك هو إعادة هيكلة جهازه بما يتناسب مع الحجم المتفاقم للشركة التى تعتمد بسبب هذا التفاقم على جيش من من يمكن تسميتهم «مقاولون من الباطن»! أين خبراء النشر الإعلامي؟.. أين رجال ونساء الصحافة؟.. أين معلمو مهنة البحث عن الحقيقة؟.. كل هذا متغيب وغير موجود تماما فى أكبر ناشر للأخبار فى العالم ومن هنا تحول إلى أكبر مروج للأخبار الكاذبة. مشكلة أخرى كبيرة جدا: «فيس بوك» تعيش على دخل الإعلانات، ومن هنا سرعة النشر دون مراجعة ودون اهتمام ودون إحساس بالمسئولية عن النشر، بل إن بعض المراقبين يرى أن الشركة تتغاضى عن كل القيم وتغمض عينيها عن كل شىء حتى يتحقق لها أكبر عائد من الإعلانات ولهذا يرون أنها «محبوبة» المعلنين إذ لا ترفض لهم طلبا بعكس «جوجل» وغيرها.. ومن هنا يرون أن ادعاء الفتى مارك بأن شركته ستمنع الأخبار الكاذبة والإعلانات الخطيرة والمؤذية، هو مجرد تمويه على الرأى العام حتى يتم «تعويم» المشكلة العويصة التى تواجهه، فهذه الإعلانات تحقق له مليارات الدولارات.. فهل أصابه الجنون للتخلى عنها، وهذه الأخبار الكاذبة والملفقة والمزيفة هى التى تجلب الإعلانات والمعلنين فكيف يمنعها، فيمنع عن شركته سيل مليارات الدولارات؟! سؤال المستقبل يبقى فى النهاية سؤال المستقبل.. ما هو مستقبل «فيس بوك» وغيره من عمالقة التواصل الاجتماعي؟ يقول مدير مشروع السياسات الإعلامية فى كلية لندن للاقتصاد «داميان تامبينى» إن انفتاح «فيس بوك» وغيرها وتخلصها من عيوبها قد يكون بداية النهاية لها! فالأيام التى تمكنت فيها من التأثير فى الرأى العام وتحويله، من دون الخضوع لمسئوليات النشر، أصبحت معدودة، مع نمو التدقيق فى نشاطاتها من جانب السياسيين والإعلاميين وهناك حكومات مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا تطارد «فيس بوك» وستقاضيها وتغرمها أموالا طائلة ما لم تقم بإصلاح نفسها، بالنسبة لهذه الشركة العملاقة وغيرها أصبحت الأمور أكثر خطورة. يجب عليها الآن مواجهة حقيقة أنها تعيش أزمة وجود. إنهم يستخدمون بياناتنا ومحتوياتنا وإبداعاتنا لخلق موارد مال ضخمة، ونحن من يمنحهم الدرع الواقية من العديد من المخاطر التى قد يواجهونها. فنحن من أنشأهم عمليا. فهل تكون هذه السنة هى السنة التى نتخلص فيها منهم؟!• الأسبوع المقبل نكمل