فى منزل متوسط الحال تجلس سيدة خمسينية، لا تستطيع أن ترى عيناها من كثرة الدموع، التى لم تنته حزناً على ابنها الأصغر.. منذ اللحظة التى ودعته فيها إلى مثواه الأخير، وهى غير قادرة على استكمال الحياة بدون شريكها الوحيد فى المنزل، بعد وفاة والده منذ ثلاث سنوات، وزواج أشقائه الثلاثة. تشاركا كل شيء.. وفى الأوقات.. لا تستطيع أن تأكل إلا فى وجوده ويخاصم النوم عيونها إذا تأخر عن ميعاده المحدد.. مازالت لا تصدق أنه هو من قرر أن يتركها وينتحر. «المسدس موجود فى بيتنا منذ عشرات السنوات، فوالد شريف كان من هواة ضرب النار فى الأفراح، فقرر أن يقوم بترخيص مسدس خاص به، لكى يستخدمه متى يشاء، وبعد وفاته كان شريف يُخرجه على فترات، كى ينظفه ويعيده كما كان». تؤكد الأم سعاد محمد: «الأخبار التى تداولت عن شراء شريف لمسدس من أجل الانتحار غير صحيحة». مازالت والدة شريف لا تصدق أن حالات الضيق والحزن التى كان يشعر بها ابنها، من شهر يونيو الماضى، ستتطور معه إلى حالة اكتئاب لا يستطيع الخروج منها، رغم محاولات المقربين منه. «شلة الجامعة اصطحبته للعديد من الحفلات من أجل الخروج من هذه الحالة، إلا أن جميعها باءت بالفشل»، ترفض سعاد أن تصدق أن ابنها انتحر، إلا أنه أمر وارد، خاصة وأنه كان دائم تنظيف السلاح خلال الأشهر الماضية. ضيف ثقيل شريف قمر، واحد من بين ملايين الشباب الذين زارهم الضيف الثقيل «الاكتئاب»، حاول مقاومته كثيرا إلا أنه كان أقوى منه وبدأ يزداد يوماً بعد الآخر حتى سيطر عليه كلياً وبث فى عقله فكرة الانتحار. ووصل الأمر به إلى أن يضع استفتاء على صفحته الشخصية بموقع «تويتر» يجمع فيه الآراء حول كيفية انتحاره؟ «نط أم شنق أم سم؟»، ليداعبه الأصدقاء ظنًا منهم بأن صديقهم يلقى بنكات. ولكنهم لم يدركوا أن الاكتئاب بلغ ذروته عند «شريف» وسينفذ حقاً ما يدور فى رأسه منذ فترة، ووقع ما لم يتوقعوه، وأطلق شريف النار على رأسه. صديق شريف محمد ممدوح الذى شهد ميلاد لحظات الاكتئاب الأولى عند صديقه، يؤكد أنه حادث انتحار فكثيراً ما كان يتحدث إليه شريف عن رغبته فى التخلص من الحياة، بسبب ضيق الرزق، وحاول ممدوح بث روح الأمل والتفاؤل فى نفس صديقه، إلا أن طبيب الأسنان البالغ من العمر 28 عاماً سئم انتظار العمل المناسب لدراسته أو حتى أى عمل آخر يتناسب مع مهاراته البشرية. كان شريف يلتحق بأعمال فى مجال خدمة العملاء والسيلز ولكن كانت تأتى هذه الوظائف بنتائج عكسية، فيزداد حزنه واكتئابه وسخطه، حزنا على ضياع أحلامه. قرر ممدوح ومجموعة من أصدقاء شريف إنشاء مؤسسة غير هادفة للربح تحمل اسم صديقهم من أجل التوعية ضد مرض الاكتئاب، لتوضح للمكتئبين وأسرتهم كيفية تجاوز محنة الاكتئاب، بالتعاون مع مجموعة من الأطباء النفسيين المتطوعين فى هذا المجال، ويؤكد ممدوح أنه رغم مرور أسابيع قليلة على إنشاء المؤسسة، فالمساعدات المادية والمعنوية من الأطباء ورجال الأعمال جيدة ومُشجعة لاستكمال الخطوات التالية. سبتمبر المخيف انتحر شريف فى شهر سبتمبر الماضى، وهو الشهر الذى اختارته منظمة الصحة العالمية، للتوعية ضد هذا المرض، بحسب جورجيت سافيدس، استشارى العلاج النفسى الإكلينيكى، وهو الوقت الذى يصاب ما يقرب من 63 % من سكان العالم بما يعرف «باكتئاب الخريف» الناتج عن تغير الظروف المناخية لاستقبال فصل الشتاء الهادئ والذى يعتبر بيئة مناسبة للاكتئاب والأفكار التشاؤمية.. أكثر من 800 ألف منتحر سنوياً تترواح أعمارهم بين 15 و 29 عاماً أغلبهم من البلدان النامية، وتؤكد سافيدس أن المحيطين بالمنتحر يستطيعون اكتشاف رغبته فى الانتحار بكل سهولة، فبدون قصد يقوم المنتحر بإصدار العديد من الإشارات غير المباشرة سواء كانت لفظية أو سلوكية.•