فى أيامى الأولى فى مجلة «صباح الخير» كنت أجلس بين مكتبى محمد الرفاعى وسلوى الخطيب.. كنت كأى قادم جديد أحتاج للدعم وقد قدماه لى حتى انتقلت من الاختباء بينهما إلى غرفة نهاد جاد فى قلب المجلة بالمعنى الحرفى والمجازى. كان رفاعى وسلوى يتبادلان قراءة الصحف وينتقدان كل ما تقع عليه أعينهم ثم يمزق رفاعى ما يعتقد أنه الأسوأ ويلقيه فى سلة المخلفات تحت مكتبه، وتشجعه سلوى وتمده بالمزيد من الأوراق التى تستحق التمزيق، ويحتفظ كل منهما بالقليل جدا الذى يتفق مع أفكارهما. كان دائمًا غاضبًا ثائرًا يحلم بمثالية مستحيلة وكان يعبر عن غضبه بكل الطرق بدءًا من تمزيق الصحف وانتهاء بالكتابة. كان محمد الرفاعى يكتب نقدًا مسرحيًا.. وكان نقده غالبًا حادًا لا يعرف المجاملة حتى ولو كان العمل المسرحى لأحد أصدقائه. كان يتابع ويكتب ويشجع المسرح الجاد، لم تكن تفوته مسرحية واحدة قدمت فى أى مكان فى مصر. ثم يدعونا لحضور المسرحيات التى تنال إعجابه. ويظل يحدثنا عن تفاصيل العمل. ويقدم لنا أبطاله. فى ذلك الوقت (الثمانينيات) كان يبدو محمد الرفاعى لنا وكأنه مكلف بمهمة الدفاع عن الفن المظلوم وعن فنانيه، كجانب أساسى من الدفاع عن المظلومين فى مصر بشكل عام ومحاولة رفع الظلم عنهم. كنا وقتها نعتبر أن الصحافة رسالة قبل أن تكون أكل عيش. (فى الواقع لم يكن العيش وقتها مشكلة كبيرة، كنا نأكل ونسكن ونتمتع بأساسيات تمكننا من اعتبار الصحافة رسالة). عندما وصلنى خبر أن محمد الرفاعى فى الرعاية المركزة كانت الفكرة الأولى التى استدعاها الخبر فى ذهنى هى: (صديقتى طبيبة فى نفس المستشفى وبالتالى سنتمكن من أن ندخل له سيجارة فى الرعاية). من يعرف تاريخ صديقى مع المرض، سيعرف أن الفكرة ليست مجنونة، سيعرف أنها فكرة تناسب تمامًا تعايش رفاعى مع المرض بقوانينه الشخصية وليس بقوانين الأطباء. محمد الرفاعى ظل لا يقبل أن يفرض عليه أحد (حتى ولو كان الطبيب) ماذا يفعل (حتى ولو كان الامتناع عن تدخين سيجارة). مرة واحدة اصطحبته إلى طبيب تربطنى به علاقة عمل، فأنهى الحوار بينهما هذه العلاقة للأبد. اشترط الطبيب على رفاعى أن يتوقف عن التدخين تماما حتى يوافق على إجراء قسطرة لتوسيع شرايين ساقه، فرفض رفاعى، فأصر الطبيب موضحا أن التدخين سيتسبب فى ضيق الشرايين مرة ثانية وأن ذلك يضر بسمعته كطبيب، فنهره رفاعى لأنه يحاول التدخل فيما لا يعنيه، وترك العيادة ومضى بساقه دون علاج. عاش محمد الرفاعى كما أراد ورحل كما أراد لم ينحنى لا لبشر ولا لمرض. بنفس العناد الذى كان يمزق به قصاصات الجرائد التى لا ترضيه كان يمزق روشتات الأطباء. ويصر على الحياة بنفس الروتين الذى وضعه لنفسه ولم يجبره عليه أحد، وينجح ويستمر. فاجأنى رحيل محمد الرفاعى كأنه لم يكن مريضًا أبدًا. وكأن المفاجأة فتحت أبواب كل الذكريات. وكأننى بينما كنت أودعه كنت أودع أياما نسيت فى زحمة الأيام أن أودعها. أيام كنت أحب فيروز وأحب أن أحلم. محمد الرفاعى أيضًا يحب فيروز، ابنته اسمها يارا وابنه اسمه شادى. أهدانى رفاعى برحيله وقتًا جميلاً، حزينا لكن جميلاً. شكرا يا صديق أيام الأحلام وإلى لقاء.