فى 27 أكتوبر 2014، عقدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بالتعاون مع جامعة جورج واشنطن مؤتمرًا حول «مهمة المخابرات فى القرن الواحد والعشرين» تضمن 5 حلقات نقاشية تناولت الأولى التحديات التى تواجهها أجهزة المخابرات فى القرن ال21، خاصة تلك المتعلقة بالمجال الرقمى، والثانية أبرز التحذيرات المتوقع أن تقدمها أجهزة المخابرات إلى صناع السياسات خلال هذا القرن، وناقشت الثالثة القوانين المنظمة لعمل المخابرات فى القرن الواحد والعشرين وسبل الإشراف عليها، ووضعت الرابعة المهارات التى ينبغى أن تتوافر فى رجال المخابرات فى القرن الواحد والعشرين، وفنّدت الحلقة النقاشية الأخيرة الأزمات الدولية والمهام السياسية والأمنية المشتركة فى هذا القرن. وخلال المؤتمر نال الشرق الأوسط النصيب الأكبر من النقاشات، كان أبرزها ما جاء فى الحلقة النقاشية الأخيرة التى تحدث بها مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية جون برينان، ومدير المخابرات البريطانية السابق جون ساورس، ومستشار الأمن القومى الإسرائيلى يعقوب أميديور، ومدير المخابرات الفرنسية والأمن الخارجى برنار باجوليه، حيث قال الأخير إنه يرى أن الشرق الأوسط الذى تأسس فى أعقاب الحرب العالمية الثانية انتهى، ودولاً مثل سورياوالعراق لن تستعيد أبداً حدودها السابقة، إذ إن الدولتين مقسمتان على الأرض والنظام بهما لا يسيطر إلا على أجزاء صغيرة من البلدين، ففى سوريا يسيطر الأكراد على الشمال، أما الوسط فيسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومن جانبه أبدى مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، جون برينان، صعوبة تخيل وجود حكومة مركزية فى سوريا وليبيا والعراق واليمن قادرة على ممارسة سيطرة على حدودها، معتبراً أن الحل العسكرى أو البحث عن تسويات نهائية مستحيل حالياً، وأنه ينبغى اعتماد استراتيجية الخطوات الصغيرة عبر السعى لخفض حدة النزاع، وبناء بعض الثقة بين الأطراف الموجودة والراغبة فى التوصل لتسوية سلمية، ويصف «برينان» التدخل الروسى فى سوريا بأنه أول وجود لها خارج حدودها منذ عقود وهو ما يشكل تحولاً فى سياستها الخارجية. يشار إلى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بدأت عام 2014 بالتعاون مع جامعة جورج واشنطن فى عقد سلسلة من المؤتمرات للجماهير سنوياً حول الأمن الوطنى تحت شعار «مهنة المخابرات وسماتها» بهدف تعزيز الثقة والتعاون بين المخابرات الأمريكية وأجهزة المخابرات الصديقة، لا سيما البريطانية والفرنسية والإسرائيلية للاستفادة من تبادل الآراء حول القضايا المشتركة التى تواجههم من جهة، والحصول على دعم الشعب الأمريكى من جهة أخرى، لأن الوكالة كانت التصقت بها سمعة سيئة فى أعقاب تسريب إدوارد سنودن، الموظف السابق ب«CIA» فى عام 2013 . وحضر المؤتمر كبار قادة مجتمع المخابرات وخبراء الأمن القومى، إذ تضمنت قائمة الحاضرين مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «CIA» جون برينان، ومدير المخابرات الوطنية الأمريكية جيمس كلابر، ومدير وكالة المخابرات الوطنية الجيوفضائية الأمريكية روبرت كارديلو، ومدير وكالة الأمن القومى الأمريكية الأدميرال مايك رودجرز، ونائب مدير وكالة المخابرات التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية دوجلاسوايز، ورئيس المخابرات الحربية البريطانية «القسم الخامس»، «MI5» أندرو بارك، ومدير المخابرات البريطانية «MI6» السابق جون ساورس، ومدير المخابرات الفرنسية والأمن الخارجى «DGSE» برنار باجوليه، ومستشار الأمن القومى الإسرائيلى يعقوب أميدرور، إضافة إلى قادة القطاع الخاص وبعض ممثلى وسائل الإعلام فى الغرب. وفى هذا السياق، قال مستشار الأمن القومى ووزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كسنجر فى مقال نشر بصحيفة «Wall Street Journal» الأمريكية 16 أكتوبر 2014 إن الشرق الأوسط بات يعانى من أربعة مخاطر تنذر بانهياره، لا سيما مع انتشار الفوضى فى كلٍّ من ليبيا واليمن وسورياوالعراق، مؤكداً أن أبرز هذه المخاطر هى الطموحات الإيرانية التى تستهدف إعادة الإمبراطورية الفارسية. ويرى مراقبون أن رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط بدأ مع الموافقة الأمريكية على الدور الروسى فى سوريا، إذ إن هذا يعنى تأييدها لقيام دولة علوية هناك، مشيرين إلى أن السبب وراء ذلك كان التدفق المفاجئ لأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين السُّنة لقلب أوروبا فى سبتمبر الماضى. ويقول مسئولون غربيون إن الإدارة الأمريكية والكرملين يقودان عملية تقسيم سورياوالعراق لعدة دول لتجزئة الصراع وتقليص دور «داعش» التى لن يلتفت إليها أبناء هذه الدول، لأنهم سيعكفون على بناء دولهم الجديدة، مشيرين إلى أن الخطوط العريضة لخطة التقسيم وضعت بالفعل ونالت موافقة أمريكية - روسية - صينية، وهو ما يعنى سهولة تمريرها فى حال طرحها على مجلس الأمن. وأشار مراقبون إلى أنه إذا كانت مصر قد عانت من أعباء نموذج الدولة الإقصائية، فإن سيناريو تفكك مصر لا يبدو محتملاً فى المدى المنظور لسببين أولهما أن توافر عوامل التكامل القومى والمجتمعى عبر التاريخ أتاح لها أن تعرف نموذج الأمة الوحيد فى المنطقة، والأطول فى التاريخ الإنسانى، وهو نموذج مرتبط بالأساس بنهر النيل، وثانيهما أن هذا السيناريو غير محبذ حالياً للقوى الإقليمية والدولية لما سيرتبه من تهديدات لا يمكن ضبطها لاستقرار الإقليم ولموازين القوة القائمة فيه. لكن هذا لا يعنى أن الخطر ليس موجوداً، لأنه فى ظل انخفاض الكفاية المائية لنهر النيل نجد أنه مهدد بالتحول من عامل للاستقرار الاجتماعى لعامل صراع، كما أنه مع تآكل العوامل المؤسسة للدولة المصرية بفعل التطور التكنولوجى، وعدم وجود تنمية عادلة بات الأمر يتطلب جهداً مضنياً للحفاظ على هذه الأمة بتعدديتها الإيجابية وفاعلية تأثيرها الخارجى. أما إيران، فإن نفوذها المتسع فى العراقوسوريا ولبنان واليمن وترتيبها الجيد لأولوياتها الإقليمية يمنحها قدرة عالية على المساومة فى الوقت الذى أصبحت فيه المنطقة على مشارف تسوية سياسية تتعلق بالأزمتين السورية واليمنية، إذ من المتوقع أن تعطى إيران أولوية لسوريا على اليمن، بينما تعطى السعودية أولوية لليمن على سوريا، بحيث تربح إحداهما أكثر فى صفقة وتكسب الأخرى أكثر فى الثانية. ويؤكد خبراء عسكريون إسرائيليون أن الصراعات الدائرة فى سورياوالعراق واليمن وليبيا تثير مشاعر ارتياح فى تل أبيب، لأنها تسهم من جهة فى تحويل الصراع العربى - الإسرائيلى لصراع ثانوى أمام الصراعات الطائفية والعرقية التى تشهدها المنطقة، كما أنه أياً ما كان الطرف الفائز فى الجولة النهائية، فإنه من المؤكد أن ميزان القوى فى المنطقة سيتغير بعد أن يتم استنزاف الجميع، عدا تل أبيب، وهو ما يعنى تقليص احتمالات مواجهة إسرائيل لتهديدات عسكرية. ويعود تاريخ المنطقة مع التقسيم إلى عام 1916، واتفاقية «سايكس - بيكو»، حيث اتفق فرانسوا بيكو، المندوب السامى الفرنسى لشئون الشرق الأدنى ونظيره البريطانى مارك سايكس وبإشراف مندوب روسيا على اقتسام تركة الدولة العثمانية المنهارة فى أعقاب الحرب العالمية الأولى وبموجب هذا الاتفاق تم وضع «المنطقة أ» (بلاد الشام وجزء من الأراضى التركية الحالية ومنطقة الموصل فى العراق) تحت النفوذ الفرنسى، بينما احتلت بريطانيا «المنطقة ب» (الحدود الجنوبية للشام ومعظم الأراضى العراقية حالياً وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربى والمنطقة الفرنسية)، وتم اقتطاع جزء من جنوب سوريا، ليتم وضعه تحت الإدارة الدولية المشتركة بين بريطانيا وفرنسا ليأتى بعدها «وعد بلفور» عام 1917 ليقضى بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، ثم تم اعتماد هذا التقسيم فى مؤتمر «سان ريمو» عام 1920، حيث اعترفت عصبة الأمم بالحدود التى خطتها لندن وباريس. وفى ثمانينيات القرن الماضى ظهرت خطة «أودد ينون» الإسرائيلية التى كانت ترتكز على تحويل إسرائيل لقوة مسيطرة فى المنطقة مع إعادة تقسيم الدول العربية لدويلات صغيرة على أساس دينى ومذهبى وعرقى، لمنح الشرعية لوجود دولة يهودية فى تلك المنطقة، وفى عام 1992 كتب المستشرق والمؤرخ اليهودى الأمريكى ذو الأصول البريطانية برنارد لويس مقالاً بمجلة «Foreign Affairs» الأمريكية تحت عنوان: «إعادة التفكير فى الشرق الأوسط» يدعو فيه لتقسيم المنطقة وفقاً لاعتبارات عرقية وطائفية ولغوية مع التركيز على منطقة شرق الخليج العربى مع العمل على إشعال 9 حروب فى المنطقة للتعجيل بتنفيذ سيناريو التقسيم. وبعدها طرحت الولاياتالمتحدة نظرية «الفوضى الخلاقة» للحفاظ على مصالحها وأهدافها فى الشرق الأوسط وحماية إسرائيل بأقل تكاليف, التى صاغها المفكر الأمريكى مايكل ليدن عام 2003 لتغيير منطقة الشرق الأوسط بالكامل، وإعادة بناء هوية جديدة لدول المنطقة بعد هدم الأسس والتقاليد القديمة. ووفقاً للنظرية، فإن هذا التغيير يتحقق من خلال إطلاق الصراع الطائفى والعرقى، وضرب مؤسسات الدولة واستبدالها بولاءات عشائرية وحزبية ذات صبغة طائفية وقومية، وإطالة أمد الاختلال الأمنى والصراع المصحوب بالقتل والدمار، وإرباك المنطقة بموجة إعلامية تحقق أهداف النظرية مما يجعل المجتمعات فى حالة من اليأس والضغط النفسى، ليخرج من رحم هذه الفوضى نظام جديد. وفى عام 2006 ظهر للمرة الأولى مصطلح «الشرق الأوسط الجديد» بالتزامن مع سيناريو جديد لتقسيم المنطقة يحمل اسم «حدود الدم» قدمه الكولونيل الأمريكى المتقاعد رالف بيترز، حيث وصف الحدود التى وضعها الفرنسيون والإنجليز للمنطقة ب«المشوهة»، وهو لم يختلف كثيراً عن سابقيه، إلا أنه أعطى أولوية لتأسيس دولة للأكراد، والتركيز على تفتيت السعودية وإيران وباكستان بوصفهم منبعاً للشرور. وكتب الإسرائيلى الأمريكى جيفرى جولدبرج، فى عام 2007 سلسلة مقالات بمجلة «Atlantic» ترسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، حيث تطرق فيها إلى انفصال جنوب السودان، واستقلال سيناء، وتقسيم الصومال، وتأسيس دولة درزية فى شمال الأردن وجنوب سوريا. وكانت صحيفة «New York Times» الأمريكية نشرت فى 28 سبتمبر 2013 خريطة توضح تقسيم 5 دول هى: (العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، والسعودية) لتصبح 14 دولة، حيث قسمت سوريا إلى 3 دويلات الأولى علوية تطل على الساحل، والثانية سنية فى الوسط، والثالثة كردية مرشحة للانضمام لأكراد العراق، وتم تقسيم العراق لدولة سنية فى الشمال وأخرى شيعية فى الجنوب وامتداد كردى مواز لأكراد سوريا، كما تم تقسيم السعودية لخمس دول فى الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط، بينما قسم اليمن ليمن شمالى وآخر جنوبى، أما ليبيا فقسمت على أساس قبلى لدولة فى الشرق عاصمتها بنى غازى، ودولة فى الغرب عاصمتها طرابلس، ودولة فى الجنوب عاصمتها سبها. •