«جزمتك يا هانم بتدل على أنوثة طاغية».. هذه الجملة ظلت تتردد داخلى وأنا أجمع المعلومات لكتابة هذا الموضوع، فقد سيطر على تفكيرى الفيلم الكوميدى الشهير «مطاردة غرامية» - الذى أنتج فى أواخر الستينيات - من بطولة النجوم: فؤاد المهندس، عبدالمنعم مدبولى، شويكار وحسن مصطفى ومن إخراج نجدى حافظ، مستندًا فى جزء من فكرته على حذاء المرأة والكعب العالى للدلالة على مدى قوة الأنوثة وطغيانها، حتى إن بطل الفيلم فؤاد المهندس أقام داخل منزله غرفة كاملة لعرض أزواج من أحذية النساء التى جمعها من علاقاته المتعددة! ولكن كيف آلت الأمور إلى أن يصبح الكعب العالى رمزاً للقوة الجنسية الأنثوية الاجتماعية، ومعبرا عن المرأة العاملة.. هذا ما نستعرضه فى السطور المقبلة. الحقيقة التاريخية تقول إن الرجال هم أول من لبسوا الكعب العالى، وبالتحديد فى بلاد فارس، وكانت الفروسية أساس اختراع الكعب، فحين يقف الجندى خلال امتطائه الخيل ليتمكن من رمى رمحه بدقة، كان الكعب العالى فى خلفية قدمه هو الذى يساعده على التوازن والثبات.. أيضا فإن أحد المبادئ التى تحكم تقاليد الكاوبويز Cowboys فى الغرب، لبس الحذاء ذى الكعب العالى المعروف ب Boots. • الكعب للرجال الأرستقراطيين! وتوضيحا لتلك الحقيقة التاريخية فإن الكعب العالى كان مخصصاً للرجال الأرستقراطيين، الذين ليسوا فى حاجة إلى الذهاب للعمل أو المشى لمسافات طويلة، وهو ما لعب دورا مهما فى تبنى ارتداء الكعب العالى لدى طبقة الأغنياء الذين اعتادوا اختيار الملابس المعقدة لإظهار انتمائهم إلى طبقة معينة من المجتمع.. ولقرون عدة ظل الكعب مخصصاً لركوب الخيل وتحديدا فى الشرق وذلك حتى حلول القرن السادس عشر وانتشار ثقافة الكعب الفارسى فى أوروبا الشرقية، خصوصاً لدى الفئة الأرستقراطية من خلال تبادل العلاقات على يد الشاه عباس الأول، مما دفع - أيضا - الفئات الدنيا من الهرم الاجتماعى إلى اقتناء الكعب العالى فى محاولة لتقليد الأرستقراطيين، بل المبالغة فى طول كعب حذائهم، الذى يعتبر النسخة الأولى من الكعب العالى الذى تلبسه النساء اليوم. وفى محاولة لتقليد الرجل ومنافسته، فإنه سرعان ما انتقلت موضة الكعب العالى إلى نساء الطبقة الأرستقراطية، تماماً كما كان يحصل مع قص الشعر وإضافة «الكتفية» على الملابس وتدخين الغليون.. وهكذا أصبح الكعب العالى «إكسسوار» تختاره النساء من الطبقات العليا والمتوسطة فى القرن السابع عشر ليعطى المرأة «وقفة المغازلة الطبيعية» المتمثلة فى تقوس الظهر وإبرازالأرداف، مهما كان الألم الناتج عن ارتدائه!! فى عام 1670 أمر لويس الرابع عشر - أحد أهم جامعى الأحذية فى التاريخ - بإصدار مرسوم يسمح فقط لأعضاء بلاطه بانتعال الكعب الأحمر - كرمز للملكية والأرستقراطية - وذلك لارتفاع تكلفة الصبغ، من أجل التمييز بين من يملك مصالح مع الملك ومن لا يتمتع بتلك السمة، وهذا ما دفع الملك البريطانى شارل الثانى إلى تقليد الموضة الفرنسية الحمراء التى أطلقها لويس الرابع عشر.. ولكن بمجىء عام 1789 وانطلاق الثورة الفرنسية بمبادئها الشهيرة «حرية، إخاء، مساواة»، لم يعد تقليد الطبقة الأرستقراطية من الموضة، لتتخلى النساء أيضاً عن الكعب العالى بعد تنازل الرجال عنه. ومع الحركة الفكرية التى أنارت القرن الثامن عشر، تخلى الرجال عن معظم تقاليدهم الصاخبة فى اللباس والحياة اليومية وتنازلوا عن الصبغة ولبس الألوان الفاقعة والأقمشة الفاخرة وأيضًا الكعب العالى وتبنى طلة بسيطة وعملية، وهذا ما قرّب فئات المجتمعات الذكورية المختلفة بعضها من بعض، لكنه جعل التفرقة بين الجنسين أكثر وضوحاً.. فالرجل مثقف وعملى، بينما المرأة عاطفية وغير مثقفة، ولعل هذا هو المجتمع الذكورى الذى لايزال موجوداً حتى اليوم فى عالمنا العربى.. مجتمع «الكعب العالى الأنثوى»، الذى يرمز إلى السطحية للبعض وإلى الإغراء للبعض الآخر، وبذلك فإن الصورة لم تتغير كثيراً حتى اليوم. • البورنو والكعب الجنسى ومع اختراع الكاميرا الفوتوغرافية، وظهور فتيات البوسترات المثيرات وانتشار الصور البورنو، عاد الكعب العالى لدى النساء فقط فى منتصف القرن التاسع عشر، وحرص «البورنوجرافيون» - مصورو البورنو- على تقديم عارضات عاريات بالكعب العالى، وبذلك تم تقديم الكعب للمجتمعات الحديثة بحلة مثيرة، قبل أن يتبناه عالم الموضة.. وهذا الترابط بين الإغراء والكعب العالى، هو الذى لايزال يجذب الرجل المعاصر - ولو فى اللاوعى - للمرأة التى تنتعله.. وفى القرن العشرين حدث تطور ملحوظ فى دور المرأة السياسى والاجتماعى، ومع امتهانها أعمالاً وهوايات ورياضات - كانت حكراً على الرجال - قررت المرأة ألا تتخلى عن كعبها العالى، الذى أصبح يرمز للأنوثة والإغراء.. ولعل إعادة انخراط الرجل فى الحياة الاجتماعية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، دفع المرأة إلى استعادة مكانها فى المنزل، مع «تأليه» الكعب العالى الرفيع الأنثوى خصوصاً بعد اكتشاف مواد وتقنيات معدنية أيام الحرب، ساهمت فى إنتاج كعوب عالية ومتينة. • هوس نسائى وربما من البديهى أن تظنوا بأن الأضرار الجانبية المؤلمة والمشوهة للقدم قد تدفع النساء إلى لبس الكعب العالى بطريقة أكثر عقلانية، ولكن واقع الأمر يؤكد أنه ما من شىء قد يوقف امرأة عن هوس ارتداء الأحذية الضيقة ذات الكعب الذى يعلو 10 أو 15سم أو أكثر عن «سطح الأرض»، خصوصاً إذا كان يرمز لقوتها الاجتماعية بين النساء والرجال على السواء!.. وإذا كنا اليوم لا نجد رجالاً ينتعلون الكعوب العالية باستثناء موسيقيى الروك أو الفتيان الذين لايزالون عالقين فى زمن «الديسكو» وخلال بعض التظاهرات التى تطالب بحقوق المرأة.. فإنه مع احتمال تغير رمزية الكعب العالى الاجتماعية، من الوارد أن يعود الكعب العالى موضةً للرجال، خصوصاً إذا أصبح يرمز إلى السلطة العليا، وهذا ما قد يدفع الرجال لنسبه إلى جنسهم والتغنى بأمجاد الماضى السحيق لعله يعيدهم إلى مكانتهم التى اهتزت فى جميع العوالم «الأول والثانى والثالث» بفعل الزمن أو اجتهاد المرأة ودأبها ومنافستها للرجل فى جميع المجالات.(!!)• كعب «كاتم للصوت»! لم يسلم الكعب العالى من بعض الفتاوى الإلكترونية ومنها تلك التى تشرّع لبس الكعب العالى شرط أن يكون كاتماً للصوت ومستوراً، فما دامت لا تصدر أصواتاً مثيرة أو ملفتة للانتباه، فلا مانع من لبسها، وكذلك إذا لم يكن فيها تشبه بالكفار أو أهل الفجور، ويشترط أن تكون مستورة إذا كانت فيها زينة، وأن لا يكون لبسها مضراً لصحة المرأة، وإنما منع لبس ما كانت تصدر الأصوات!