لعنة الله على المدنية الزائفة التى «زحزحت» التراث المصرى الأصيل وأفنت وجوده أينما حلت، وجعلته «أنتيكة» تُقتنى وتُطعم بها ديكورات منازل الأثرياء من باب «المنظرة». التراث فى واقع الأمر ليس مجرد قطعة سجاد يدوى ولا طبق نحاس مزخرف ولا عباءة مطرزة، التراث هو رائحة هذا البلد ونكهته ومزاج أهله ومعتقداتهم وتاريخهم. وعندما ننسى تراثنا فى زحمة الحياة فنحن فى الحقيقة نتخلى بإرادتنا عن حاسة التذوق.. تذوق الجمال والتمتع به، فلا تتعجب عزيز القارئ عندما ننزعج أنا وأنت من انتشار العشوائية وانعدام الذوق العام وتردى الأخلاق. فى هذا التحقيق سآخذك فى تجربة ذات نكهة مصرية يقع مكانها فى قلب حى مصر القديمة إلى جوار مجمع الأديان، حيث يوجد مبنى كبير على الطراز الإسلامى القديم، كتب على واجهته بالنحاس اللامع «سوق الفسطاط». عندما تدخله ستجده مقسماً إلى ثلاثة ممرات كل واحد منها به مجموعة من المحال صغيرة متجاورة أشبه بالوكالة وجدرانه مغلفة بالأحجار الطبيعية ومطعمة بالنوافذ الخشبية وبعض المشغولات النحاسية. • كفر الشيخ داخل محال سوق الفسطاط توجد مجموعة كبيرة من المنتجات التراثية المعروضة للبيع من مختلف محافظات مصر، ففى الممر الأول من جهة المدخل الرئيسى يقف على صبرى عسل داخل أحد المحال يبيع الكليم اليدوى، ويقول على أنا من مدينة فوه محافظة كفر الشيخ، والكليم ده كليم فوه مصنوع بأيادى أبنائها بداية من غزل الصوف وصباغته إلى نسج قطعة الكليم، وأنا حاصل على بكالوريوس زراعة، لكنى أعشق مهنة صناعة الكليم اليدوى وورثتها أباً عن جد وتركت تخصص دراستى حتى أحافظ على استمرار صناعة الكليم، وعن الأسعار يقول: إنها فى متناول جميع الطبقات فتوجد قطعة ب50 جنيهاً حجمها مناسب 70 سنتيمتراً فى متر بالإضافة إلى الكليم الشعبى وهو مصنوع من القطيفة نبيعه أيضاً بنفس السعر، وعموماً صعوبة الشغل بتفرق فى ثمن القطعة يعنى لو كانت غرزة الكليم واسعة ولا يوجد بها تفاصيل فسعرها يكون قليلاً أما لو كانت صغيرة وبها تفاصيل فسعرها يصبح أغلى لأنها تستهلك صوفاً أكثر، بالإضافة إلى الوقت والمجهود، وعن زبائنه يقول على أنا زبونى أجنبى هو اللى بيقدر الكليم ويفهمه ورزقنا كله قائم على السياحة، أما المصريون فشريحة منهم فقط هى اللى تعشق الشغل اليدوى وهم المثفقون والهاى كلاس. • سوهاجوالأقصر وأما سيمون عونى فيقع محله فى نفس الممر وأكثر ما يميزه أنه يبيع غطاء السرير المصرى الخريفى أو الكوڤرتا، ويقول عونى أنا أبيع منتجات تابعة لجمعية الصعيد للتربية والتنمية وتحديداً من محافظتى سوهاجوالأقصر. فعندى مثلا كوڤرتات مصنوعة يدوياً على النول من قرية أخميم بسوهاج وهى قرية مشهورة بصناعة النسيج من الفراعنة حتى اللحظة. وأشكال الكوڤرتات كلها مستوحاة من موتيڤات من المتحف المصرى والمتحف القبطى ومصنوعة من القطن المصرى 100%، الكوڤرتا الواحدة واجهان سعرها يتراوح بين 260 و480 جنيها على حسب صعوبة الغرزة المستخدمة فيها، ويضيف سيمون إحنا هامش الربح بتاعنا لا يتجاوز 20% وبالتالى الأسعار التى نقدمها هى رائعة جدا بالمقارنة بأسعار السوق وضعف جودة المنتجات التى يقدمها للجمهور فنحن نقدم جودة أعلى بكثير ومنتجا يعيش العمر كله، بالإضافة إلى أن كل خامتنا هى مصرية باستثناء الأصباغ هى فرنسية لأنها ذات جودة عالية ويساعدنا فى الحصول عليها جمعية «أصدقاء الصعيد فى فرنسا»، وهم بصراحة كانوا شايلنا أيام الثورة، ولهم فضل كبير فى استمرارنا حتى الآن، ويكمل بالإضافة للكوڤرتات اكتشفنا أن فتيات أخميم لديهن موهبة تطريز لوحات على القماش فقط باستخدام الإبرة الخيط ونحن بدورنا انتبهنا للبعد الجمالى فى هذه الموهبة وشجعنا الفتيات عليها ونحاول تسويق لوحاتهن، وهى تلقى إعجاب وتقدير الأجانب كثيراً أما المصريون فيعتبرونها بلا قيمة. وعن منتجات محافظة الأقصر يقول سيمون: إحنا عندنا مركز تدريب فى قرية حجازة بالأقصر التى تتميز بزراعة شجر السرسوع وهو من أفضل أنواع الأشجار فى النحت وصناعة الأوانى الخشبية القيمة وهو مميز بتدرجات اللون البنى الطبيعى الذى يضفى على القطعة جمالاً، ونحن لدينا جمعية فى القرية تتبنى تعليم هذه الحرفة للشباب والعمل بالخشب عموماً ليس غريبا على ثقافتهم لأن قرية حجازة اشتهرت بصناعة محراث الأرض الخشبى وسواقى المياه. • شمال سيناء وأثناء تجولك فى سوق الفسطاط سترى المنتجات السيناوية بألوانها الفسفورية البراقة التى تزين القماش الأسود وتجعل من لونه المقبض لوحة فنية مزركشة ومبهجة، ويقول محمد نعيم: أنا من أبناء شمال سيناء أقوم بتسويق منتجات سيدات وفتيات المحافظة، فكل ما ترينه من شيلان وعباءات هى مصنوعة يدوياً فى منازل بدو سيناء. وعندما سألته هل يستخدمن ماكينات الحياكة والتطريز لتسهل عليهن المهمة رد على مستنكراً هى المكنة تعرف تطلع الشغل دا، دا شغل تراث سيناء 100%. وعندما سألته هل يصنعون موديلات خصيصاً لأهل القاهرة بها الروح السيناوية رد قائلا: نعم بالتأكيد، فالتراث السيناوى يمكن تطبيقه على كل الثقافات، ولذلك فهو موضة فى العالم كله منذ ما يقرب من العامين، يعنى مثلاً نحن ننتج عباءة مفتوحة من الأمام مطرزة بالسيناوى مخصوص لسيدات القاهرة ليرتدينها فوق الملابس الكاچوال فى رمضان سعرها يتراوح بين 325 و700 جنيه حسب كمية التطريز، والشيلان أسعارها تتراوح بين 125 و425 جنيهاً والجلباب يبدأ من 200 والبلوزات تبدأ من 125 جنيهاً، أما الجلباب السيناوى القديم المطرز بالكامل ويغلب عليه اللون الأحمر مع لون القماش الأسود فيبدأ سعره من 1000 جنيه، وهو شبه منقرض الآن ويا بخته اللى يلاقيه فهو لا يصنع حالياً فى سيناء لأن تطريزه صعب ويستغرق الثوب الواحد نحو سنة كاملة، أما البنت السيناوية فنادراً ما ترتدى الزى البدوى لأن الموضة اكتسحت وغطت على التراث. • الفيوم قرية تونسبالفيوم ذاع صيتها مؤخراً وظهرت منتجاتها أخيراً فى أسواق القاهرةوالمحافظات. تونس تشتهر بصناعة الأوانى الفخارية، ولكن ليس بالطريقة المعتادة، فكل قطعة متفردة بألوانها وتصميمها وليس لها مثيل، يقول حسن على شكرى: أنا أبيع فخار قرية تونس، وتاريخ الفخار مع هذه القرية يعود إلى سنوات طويلة عندما أتت للقرية مدام إڤيلين قادمة من سويسرا وعلّمت شباب القرية صناعة الفخار، ويضيف حسن أن هذه الأوانى مصنوعة بمواد عالية الجودة، يمكن استخدامها فى المطبخ وتحديداً الأجانب يشترونها لهذا الغرض، وعن الأسعار يقول كل قطعة مكتوب عليها سعرها يعنى بنعامل الأجنبى زى المصرى بالضبط. • النوبة وتقف فى أحد المحال سيدة سمراء جميلة وحولها كل الألوان المبهجرة بدرجاتها منسوجة مع خيوط القطن والصوف فى منتجات الكروشيه.. تقول داليا نبيه: أنا من النوبة وجدتى سودانية وأنا متأثرة للغالية بفن وألوان الجنوب البراقة, ونحن نلون الحياة فى النوبة من حولنا فى ثيابنا ومنازلنا بالأصفر والتيركواز والفوشيا والبنفسجى والأحمر والألوان الفسفورية لذلك حرصت أن أنقل هذه الروح فى أعمالي، فأنا أملك ورشة صغيرة للكروشيه وأنتج القطع التقليدية مثل الكوفيات والشيلان، وغير التقليدية كالستائر الكروشيه وأكياس المخدات والإكسسوار، والأسعار تحددها صعوبة الغرزة نفسها فمثلا بعض قطع الإكسسوار تتراوح بين 10 و25 جنيها وأكياس المخدات تبدأ من 120 جنيها لأننا نتعامل معها على اعتبار أنها قطعة من ديكور المنزل والشيلان تبدأ من 320 جنيها ومفرش السرير الكامل يبدأ من 1500 وكلها صناعة يدوية بدون أى ماكينات وممزوجة بروح النوبة. • القاهرة ما أجمل أن تشترى منتجا ولو بسيط وأنت تعلم أن الجنيهات التى أنفقتها ستغير مسار إنسان من التشرد إلى الحياة الكريمة. سمر أحمد فتاة عشرينية تبيع منتجات جمعية اسطبل عنتر وهى جمعية خيرية تهدف إلى احتواء أطفال المنطقة وإلحاقهم بمدرسة تابعة لنفس الجمعية مجهزة خصيصاً للتعامل مع أطفال الشوارع والمتسربين من التعليم، تقول سمر كل المنتجات التى أبيعها مصنوعة بأيدى أطفال عزبة خير الله وأطفال مشردين وسيدات أرامل ومطلقات، حاولنا إلحاقهم بالجمعية ووفرنا لهم كل الخامات اللازمة والمعلمين المتخصصين وعلمناهم حرفا مختلفة كالحياكة والكروشيه وصناعة الشموع والخيامية وصناعة الجلود والسجاد والخزف وإعادة تدوير الورق، أما بخصوص المدرسة فنحن نحاول جذب الأطفال بحصة الورشة كى يستمروا فى الدراسة لأن بعضهم يجد صعوبة فى التحصيل الدراسى ووجود وقت مخصص للأعمال اليدوية يجعله يتعلق بالمدرسة خصوصاً بعد أن يرى إنتاجه ويحصل على المقابل المادى له، وعن المنتجات تقول أنا هنا أبيع الشموع المصنوعة يدوياً بالمواد الخام الطبيعية وأسعارها من 10 إلى 60 جنيها حسب حجم الشمعة، بالإضافة إلى الخيامية والعباءات والحقائب الحريمى المصنوعة من القماش. أنهيت جولتى فى سوق الفسطاط وأنا فخورة جدا بكل هذا الإنتاج القيم، وقد اشتريت كليما من فوه ومنتجات خشبية من الحجازة، وأدركت أن أى حكومة تصف هذا الشعب بأنه كسول وعالة عليها هى فى الحقيقة تصف نفسها وطريقة إدارة المنح والهبات التى وهبها الله لهذا الشعب. •