لم يتحدث «عبدالرحمن الأبنودى» كثيرا عن فترة الشهور الستة التى قضاها خلف القضبان، وكان دائما يقول إن هناك شعراء وأدباء كثيرين قضوا سنوات طويلة فى السجن وإنه بجوارهم لا يشعر أنه كان بالسجن لأنه لم يقض به سوى ستة أشهر. لكنه كان يعود ويتحدث مداعبًا من حوله عن تلك الفترة وهو يقول: «اللى ما دخلشى السجن معايا ما شافشى جمال السجن». وقال أيضا: السجن تجربة من أجمل وأروع وأغنى ما يكون، وأنصح الجميع بها وأقصد بالطبع السجن السياسى الوطنى لا أن تكون مرتكبا جريمة أخلاقية.. وعندما تولى الإخوان الحكم فى السنة الكابوس التى عاشتها مصر كان من أشد معارضيهم وتذكر وقتها أن الإخوان حاولوا استمالته إليهم عندما كان فى السجن حتى إنهم كانوا يعطونه سجائر رغم علمهم أنه تم اعتقاله بتهمة الشيوعية وأنه كان من المستحيل أن ينجحوا فى استمالته إليهم. عبدالرحمن الأبنودى كان قليل الكلام عن تلك الليالى التى عاشها خلف القضبان لكن الغريب أنه تم اعتقاله فى أيام حكم «عبدالناصر» وأنه بعد وفاة «ناصر» أصبح من أشد مؤيديه. وعن هذا التحول تذكر الأبنودى أنه بعد عامين من قيام ثورة يوليو 1952 غرقت قنا فى بحر من السيول، لدرجة أن أطفال المدينة كانوا يذهبون إلى مدارسهم فى قوارب صنعوها من جذوع النخيل، ووقتها توجه مجلس قيادة الثورة إلى قنا برئاسة عبدالناصر وكانت المرة الأولى التى يراه فيها وسأل أحد أصدقائه: الراجل اللى هناك ده شبه عبدالناصر ده باينه هو, وذهب إليه وسلم عليه وظلت نظرة عبدالناصر له محفورة فى ذهنه ومخيلته حتى إنه قال إنها كانت أحد أسباب كتابته لقصيدة عبدالناصر. أما التحول الذى حدث وجعل الأبنودى من أشد المتعلقين بتجربة عبدالناصر والمنتمين لها فكان وراءه إحساس الأبنودى أن ناصر لم يأخذ حقه. وكما قال: «وجدت نفسى سجيناً فى زنزانة عبدالناصر بسبب جهرى برأيى فى الدولة البوليسية.. وبرغم سجنى.. فإن عبدالناصر هو الإشراقة الثورية الحقيقية فى حياتنا والجوهرة اللامعة فى تاريخ مصر المعاصر»، ولعل معارضة الأبنودى للنظام أيام حكم عبدالناصر ودخوله السجن بسبب ذلك، أكبر دليل على أنه لم يكن من شعراء السلطة يوما، حتى إن تأييده الحقيقى للرئيس عبدالناصر حدث بعد وفاته وليس فى أيام حكمه حتى إنه كتب عن ناصر شعراً قال فيه: «مش ناصرى ولا كنت فى يوم بالذات وف زمنه وف حينه لكن العفن وفساد القوم نسانى حتى زنازينه ( فى سجون عبدالناصر ) إزاى ينسينا الحاضر طعم الأصالة اللى فى صوته يعيش جمال عبدالناصر يعيش جمال حتى فى موته (ماهو مات وعاش عبدالناصر) وكتب الأبنودى قصائد لعبد الناصر بعضها كان عتابا وبعضها الآخر كان يحمل مديحا وبعضها الثالث كان رسائل باسم مصر لناصر.. وفى ذكرى وفاة عبدالناصر الثانية والأربعين قدم الأبنودى قصيدة «موال لجمال» التى تحدث فيها عن كل الأوضاع التى تمر بها البلاد وأكد فيها حبه الشديد إلى الراحل عبدالناصر.. وقال فيها: وألْف رحمة على اللى لِسَّه أقُلْنا وقالب. اللى مَضَى وذمِّته.. مَثَل جميل.. يتقال. ما هى نادْرة فى مصر حاكم.. يطلع ابن حلال حاكم.. يِدادى الجميع.. ويبوسْ رقيق الحال. وده عِشْقِتُه: فلاحين.. طلَبة.. جنود.. عُمّال. وخاض معارك جِسام.. مين طلّع الاحتلال..؟ مين اللى صحَّى الشعوب.. تكسَّر الأغلال؟ ويْبُخُّوا أكاذيب فى سيرتُه يسمِّموا الأجيال. من بعد ما شفنا غيرُه.. فهمنا عهد جمال. • «الأبنودى والسادات» لم تكن علاقة الأبنودى بالسادات طيبة، ففى المرة التى طلبه فيها السادات ذهب إليه فى استراحة المعمورة وعندما مد الأبنودى يده ليسلم على السادات كانت بينهما مائدة كبيرة نوعا ما وهو ما جعل الأبنودى ينحنى حتى يصل ليد السادات وهنا ظهر فجأة أحد المصورين ليلتقط تلك الصورة التى كأنها كانت متعمدة لتصوير الأبنودى وهو ينحنى أمام السادات حتى إن الأبنودى نفسه وصفها بعد ذلك بأنها كانت إحدى ألاعيب السادات.. بعد هذا اللقاء انضم الأبنودى لحزب التجمع وقال عن ذلك: انضممت إلى حزب التجمع لأعلن فقط أنى لست رجل السادات.. ومن ثم عوقبت وحقق معى فى نيابة أمن الدولة العليا التى أرسلتنى للمدعى العام الاشتراكى للمحاكمة بقانون العيب! الذى لم يحاكم به فى مصر إلا اثنان فقط محمد حسنين هيكل القيمة العليا فى حياتنا والعبد لله، ومع ذلك يطلقون عليّ عميل السادات! فهذه اللعبة لن يستطيعوا ان يتخلوا عنها لأنهم يعيشون بها ويحيون عليها ليشككوا فيً دائماً برغم أنهم يعلمون أنى لم أكن يوماً مدعيا للبطولة ولم أكتب عن سجنى أو معاناتى مع الأنظمة، وكنت أذهب للتحقيق معى وأعود إلى الاذاعة فى برامجى ولم أتحدث قط عن شىء خاص بى فى الوقت الذى كان الآخرون يتباهون بذلك إذا حدث معهم».. موقف الأبنودى أغضب السادات وتردد وقتها أن السادات حاول استمالة الأبنودى بترشيحه لوزارة التثقيف الشعبى، وبعد أن كثر الكلام عن لقاءات لم تحدث أصلا بين السادات والأبنودى ما كان من الخال إلا أن اتصل بمدير مكتب السادات فوزى عبدالحافظ وقال له: أنا راجل شريف والشارع هو اللى عملنى مش الحكومة وأنا ما انفعشى للشغلانة دى».. وهكذا لم يكن الأبنودى يوما طالب سلطة رغم أنها هى التى كانت تسعى إليه لكنه كان يبحث عن الناس الغلابة البسطاء ويعبر عنهم بكل جرأة مستخدما سلاح شعره حتى لو أدى به هذا السلاح إلى أن يقضى ليالى خلف القضبان. •