كتبت - إقبال بركة كنت فى السنة الأولى من الجامعة أتمشى مع صديقاتى على بلاج سيدى بشر، والهواء يداعب شعورنا، والشمس تلفح وجوهنا، والآمال الكبيرة تملأ قلوبنا. ولمحت الصبوحة بغلافها الكاريكاتيرى المرح. كانت تنتظر فى دعة فوق كومة من المجلات والجرائد منتشية، مثلنا، بجو الصيف الجميل. التقطتها بسرعة.. فاستسلمت لى بوداعة، وفتحت لى قلبها كأنها كانت تنتظرنى، تركت الصديقات يكملن تبخترهن على البلاج، وتفرغت تماما للصبوحة ورحت ألتهم صفحاتها مثل صائم على مائدة الإفطار. كنت أبتسم ثم أضحك ثم أعود فأبتسم حتى ظن من جلسوا حولى أنى قد أصابنى مس من الجنون. وفعلا كان جنون الفرح لأنى عثرت فى تلك الصحيفة الشابة الرشيقة على كل ما كنت أبحث عنه. كأنى دخلت مغارة على بابا ورحت أصيح: دهب، ياقوت، مرجان. مقالات الدكتور مصطفى محمود بعمقها وجرأتها، عمود محمود السعدنى الساخر الذى يجعلك تضحك من قلبك، كاريكاتور العبقريين صلاح جاهين والليثى، رسومات الفنان جمال كامل المصرية الأصيلة، ولوحات يوسف فرنسيس الرومانسية، مغامرات صبرى موسى فى الصحراء وعبدالله الطوخى فى نهر النيل، وأسفار علاء الديب، وأقاصيص لويس جريس، حوارات وموضوعات زينب صادق ونجاح عمر وفاطمة العطار..أصبحت مدمنة لمجلة صباح الخير، أنتظر العدد الجديد بلهفة، وأقرأ كل موضوعاته كلمة كلمة كأنها درس مقرر. ومازالت ذاكرتى تحتفظ بالكثير من المعلومات والحقائق التى اطلعت عليها فى «الصبوحة» حتى اليوم. وما أن تخرجت فى الجامعة حتى أسرعت إلى صديقتى سعاد رضا التى كانت تعمل فى إدارة الحسابات بالمؤسسة. وصارحتها برغبتى فى الكتابة فى المجلة. وبعد أيام قليلة زرتها ومعى قصة قصيرة تمنيت أن تنشر فى المجلة، وما أن قرأتها سعاد حتى هبت واقفة وقالت لى: تعالى معى. صعدنا جريا إلى الدور العلوى، ودخلنا غرفة الأستاذ لويس جريس الذى كان مدير التحرير فى ذلك الوقت وبيد مرتعشة قدمت له قصتى. قرأ الأستاذ لويس القصة ثم خرج مسرعا، وتركنى مع سعاد رضا. عاد بعد فترة، وقال لى: اتركى لى القصة . وفى العدد التالى وجدت قصتى منشورة فى صفحة «نادية عابد» على أنها رسالة من قارئة، وبدون نشر اسمى. كان عنوان القصة «سأخلع حذائى وأجرى»، وبقدر سعادتى بنشرها، إلا أننى حزنت لعدم نشر اسمى كمؤلفة. كانت تلك أولى خطواتى على طريق الأدب، فكتبت قصة أخرى نشرت فى باب «أدب الغاضبين» الذى كان يشرف عليه الكاتب الراحل صالح مرسى الذى لقيت منه تشجيعا كبيرا ولكل أدباء الستينيات. كنت أحلم بأن أصبح أديبة شهيرة، وأصر على أن أقتحم عش الدبابير المسمى بالصحافة، ثم التقيت بمحمود السعدنى الذى توسم فى استعدادا لممارسة الصحافة، وبنظرته الثاقبة اكتشف العيب الرئيسى فى شخصيتى: تحدى الصعاب وحب الخوض فى المحظور، وتحدانى أن ألتقى بالفنان الكبير زكى رستم الذى كان يرفض لقاء أى صحفى، وقبلت التحدى، فكان لقائى مع ذلك الفنان الكبير أول وقوع فى فخ الصحافة. كنت أعشق الأسلوب الأدبى الرفيع الذى يكتب به كتابى المفضلين، وثقافتهم العميقة وعشقهم المتفانى للثقافة، وقد كرسوا أقلامهم لتوعية وتثقيف قراء المجلة وتحريضهم على طلب العلم والسعى إلى الحرية والبحث عن الحقيقة. وكانت تربطهم ببعضهم علاقات ودية جميلة. تمنيت أن أكون فردا فى تلك العائلة الرائعة ووفقنى الله.. فقد لقيت منهم جميعا تشجيعا واحتفاء بكل ما كتبت، حتى إن رئيس التحرير بعد ذلك الأستاذ حسن فؤاد أفرد لى صفحة أسبوعية بعنوان «يوميات امرأة عاملة» وذلك قبل تعيينى محررة فى المجلة بعدة سنوات! وكانت المرة الأولى فى حياتى للظهور فى التليفزيون عندما استضافنى «المحاور» مفيد فوزى فى برنامجه «زائر المساء» لأتحدث مع الأديب الكبير يوسف السباعى. والمرة الأولى التى نشرت فيها رواية مسلسلة «تمساح البحيرة» على صفحات مجلة «صباح الخير» كان شباب العالم العربى كله يتلقفون مجلة صباح الخير بلهفة وكنا نتلقى رسائل إعجاب من الأشقاء العرب مازلت أحتفظ بها إلى اليوم. وسأظل دوما أحمل لهذه الصحيفة المبدعة عرفانا لا نهاية له، فلولاها ما كنت اليوم أحترف الكتابة وأواصل طريقى الذى بدأته من صفحاتها. •