هل يمكن أن تصل درجة «استفزاز مصر» فى موضوع المياه إلى وضع لا يمكن احتماله مما يدفعها إلى اللجوء إلى الحل العسكرى؟! هل تستطيع دولة المنبع وهى «إثيوبيا» أن تمنع جريان المياه عن دولة المصب وهى «مصر»؟. ماذا يحدث لو استمرت حكومة إثيوبيا فى التعنت والرفض والخروج عن التزاماتها الدولية والتلاعب بحصة مصر فى مياه النيل؟! لو حدث ذلك هل تصبح «الحرب» هى الوسيلة الأكثر فاعلية لحماية «الأمن المائى» والمصالح الضرورية للدولة المصرية؟؟ هل فشلت الدبلوماسية وانتهى الكلام و«الحرب» قادمة لا محالة؟ الله أعلم!!
يقول «ليستر براون» مدير معهد سياسات الأرض: «عندما يشح الماء سنشاهد الحروب الحقيقية»، كما حذر د. بطرس بطرس غالى الأمين العام السابق للأمم المتحدة أكثر من مرة من أن «الحرب القادمة فى الشرق الأوسط ستكون حربا على المياه»، وأكد الملك حسين - عاهل الأردن - نفس الكلام بأنه لا يتصور دخول بلاده حربا قادمة مع إسرائيل إلا إذا كانت حربا على المياه، أما البروفيسور «إلياس سلامة» بجامعة الأردن فقد لخص الموقف بقوله: «إذا كانت هناك حروب جديدة على المياه فستكون على أرض الشرق الأوسط، وأن الاحتمالات الكبيرة لنقص المياه الشديد قد تعنى تهديد مستقبل الكثير من شعوب المنطقة، وأن التعاون بين الدول هو الشىء الوحيد الذى يجنب المواجهة.
∎ الجيش.. وأمن النيل
يؤكد «جون بولوك» فى كتابه «حروب المياه» أن كل المصريين يعلمون أن الاعتبار الاستراتيجى المهيمن على مصر هو «أمن النيل»، وأن المصالح الحيوية لمصر تمتد لسبعة آلاف كيلومتر داخل القارة الأفريقية، غير أن للجيش المصرى دورا خاصا وأن «أمن النيل» هو الأمن الوحيد من الفئة «أ» الذى يقع تحت الحماية المباشرة للقوات المسلحة، فأى تهديد لأمن النيل يخول القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية إصدار أوامر مباشرة بتدخل الجيش دون انتظار موافقة مجلس الشعب المصرى.
النيل.. هو المصدر الوحيد للمياه فى مصر، وهو ما يفسر اهتمام الدولة بالأمن القومى المائى، مع عدم السماح لأى دولة أخرى من مجموعة دول حوض النيل أن تملى سياستها على مصر، وللقيادة العليا للجيش المصرى خطط طوارئ للتدخل المسلح فى أى دولة من الدول الواقعة على حوض النيل إذا ما تعرضت مياه النيل للتهديد المباشر، ورغم هذا فإن من المعروف أن المسئولين المصريين يؤكدون على أنهم يفضلون دائما الحلول الدبلوماسية، ويريدون اتفاقيات شاملة بين كل الدول المعنية، بغض النظر عن الخطط التى يضعها العسكريون، وأن التعاون هو الشىء الوحيد الذى يمكن أن يجنب المواجهة.
دعونى أتساءل لماذا هذه الغطرسة والتعنت والرفض الإثيوبى؟!
هل أمريكا وإسرائيل وراء هذه الغطرسة الإثيوبية؟ هل يمكن ونحن فى هذا العصر المضطرب أن تستخدم الدول المياه كسلاح لفرض نفوذها وسيطرتها وإدارتها على الدول الأخرى؟ هل تلجأ الدول المتضررة إلى استخدام القوة العسكرية كحل لهذه المشكلة؟ فى حالة تفاقم أزمة المياه هل يمكن أن تلجأ مصر إلى «العمليات العسكرية السريعة» باعتبارها الاختيار الأرجح، خاصة أن السدود ومحطات تحلية المياه والأنفاق وخطوط المواسير والمنشآت المائية يمكن تدميرها وتخريبها بضربات سريعة متلاحقة بواسطة الغارات الجوية؟؟
∎ الغطرسة الإثيوبية.. محفوفة بالمخاطر
للأسف الأوهام والغيبوبة الإثيوبية ستؤدى بها إلى التهلكة!! فكيف يصرح وزير الرى الإثيوبى «إليمايهو تينجو» بأن إثيوبيا لن تقبل بوجود مادة فى الدستور المصرى الجديد تنص على «حقوق مصر التاريخية» فى مياه النيل، ويصفها بأنها المادة الظالمة التى تم توقيعها فى زمن الحقبة الاستعمارية!!
هل نسيت حكومة إثيوبيا أن جميع دول حوض النيل تعرف جيدا أن الاتفاقيات حول مياه النيل ليست هى «المنشئة» لحق مصر فى مياه النيل، لأن هذه الحقوق هى حقوق طبيعية، سواء كانت هذه الاتفاقيات تمت بين دول كاملة السيادة أو مستعمرة بدون إنابتها عنها فى التوقيع والالتزام بها، وأن هذا الالتزام حقيقى وسارى المفعول مهما تغير الاختصاص على الإقليم، وليس إلزاما شخصيا مرهونا بنظام حكم أو أشخاص فى وقت معين.
ألا تعلم حكومة إثيوبيا أن «مصر» تستند فى موقفها إلى المعاهدات الدولية، فقد أقر معهد القانون الدولى عام 1961 قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول، تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة فى الموارد المائية وعدم المساس بها، وأن مياه الأنهار مورد طبيعى مشترك لا يخضع لسيادة دولة بمفردها، وأنه يجب تسوية النزاعات سلميا والتفاوض والتعاون بشأن المشروعات المقترح إقامتها على النهر وروافده؟!
ألا تعلم حكومة إثيوبيا أن بناء على ما أقرته المعاهدات الدولية تظل كل الاتفاقيات التى تم توقيعها خلال حقبة الاستعمار نافذة المفعول، حكمها حكم الحدود الموروثة عن الاستعمار لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا بموافقة كل الأطراف؟!
ألا تعلم حكومة إثيوبيا أنه فى حالة استمرار الرفض والتعنت سوف تتقدم مصر باحتجاج إلى «مجلس الأمن» فى حالة تنفيذ دول حوض النيل لأى مشروعات دون الرجوع إلى مصر، لعدم التأثير على الحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل وللحفاظ على حصتها السنوية فى مياه النهر؟!!
ألا تعلم «حكومة إثيوبيا» أنها لو تلاعبت بحصة مصر فى مياه النيل سيحدث نزاع شديد لا مفر منه لأنه يتعلق بالأمن القومى المصرى، والمياه هى من صميم الأمن القومى لأى دولة، ولو فعلت أى حكومة ذلك فإنها ستكون قد ارتكبت عدوانا على مصر ومن حق مصر أن تدافع عن نفسها؟! المؤسف أن «حكومة إثيوبيا» تواصل تعنتها برفض عبارة «الأمن المائى» لأنها تتضمن الاعتراف بحقوق مصر التاريخية فى استخدام مياه النيل، وتتجاهل ضرورة التزام دول المنبع بإجراءات البنك الدولى التى تقضى بضرورة موافقة دولة المصب على أى إجراء تتخذه أى منها، وهو ما لا توافق عليه دول المنبع حتى هذه اللحظة؟!
المحزن فعلا والمثير للدهشة والاستغراب أن «الإعلام الإثيوبى» يقول لشعبه إن المصريين «يسرقون» مياه النيل ونحن أحق بمياهنا!! تصوروا هذا؟! هل هناك خداع أكبر من ذلك؟! يتغطرسون ويتعنتون وكأن النيل أصبح نهرا إثيوبيا!! وليس نهرا دوليا تشترك فيه الكثير من الدول!! ما هذه السخافات؟! أين وزارة الخارجية المصرية؟! هل رد المسئولون المصريون على هذه الأكاذيب والاتهامات؟! هل أوضحوا للإثيوبيين أن مصر «لا تسرق» مياه النيل؟! فعلا وعلى المفاوض المصرى.. السلام!!
المؤكد أن هناك «قوى خارجية» تعمل على إقناع دول حوض النيل بإقامة سدود ومشروعات كهرومائية تضر بمصر التى أصبحت تحت حصار المؤامرات من هنا وهناك!! فمثلا هل يمكن لإثيوبيا الدولة البعيدة جغرافيا والمرتبطة بمصر عن طريق النيل أن تتورط فى دائرة الصراع «العربى - الإسرائيلى»؟!
هل نسيت إثيوبيا الممارسات الإسرائيلية للسطو على المياه، وكيف لعبت المياه دورا رئيسيا فى الحرب بين إسرائيل والعرب فى عام 1967، وفى الحرب الأهلية الدموية فى الأردن عام 1970، وفى غزو لبنان عام 1978، وجريمة الأتراك عندما هددوا بقطع المياه عن نهر الفرات عام 1990 عندما ملأوا «سد أتاتورك» مما أثار الخوف والقلق لكل من سوريا والعراق؟!! والعجيبب أن إثيوبيا تتجاهل أن مصر تعرف تماما ولديها كل المعلومات عن عبث أمريكا بمياه النيل الأزرق منذ زمن بعيد من خلال «المكتب الأمريكى للاستصلاح» الذى أوصى بضرورة إنشاء (26 سدا وخزانا) لتوفير المياه والكهرباء فى إثيوبيا والضغط وخنق مصر!! وهذا يفسر من وراء الغطرسة والتعنت الإثيوبى!!
∎ عقل إثيوبيا... ضحية للتضليل
المخيف والمرعب أن حكومة إثيوبيا أصابها فيروس الغرور والغطرسة وستركب دماغها بسبب الأوهام المزيفة التى تعيشها، والمحزن أنها لا تدرك العواقب، ويبدو أن «صانع القرار» فى إثيوبيا غافل بعمد وسبق إصرار عن القوى الخارجية التى تعبث فى «عقل إثيوبيا» وجعلتها للأسف ضحية للتضليل الذى ستدفع ثمنه وسيكون غاليا للغاية، فها هم المسئولون الإثيوبيون يضغطون ويخنقون مصر بإثارة أفكار مسمومة تم إملاؤها عليهم، حيث ترفض إثيوبيا أن تنفرد مصر بالحصول على حصتها من مياه النيل والتى تقدر ب«55.5 مليار متر مكعب»، وتشيع أن هذا الوضع وهذا الحق لم يعد مقبولا، وأنها تدعو إلى التوزيع العادل لمياه النيل وهو ما يعنى الخصم الحاد من حصة مصر وحقها التاريخى فى مياه النيل، بل وصلت البجاحة الإثيوبية إلى درجة اتهام مصر باحتكار استغلال مياه النيل لصالحها، حتى إن الإعلام الإثيوبى يردد: «المصريون يسرقون مياه النيل».. يبدو أن حكومة إثيوبيا لا تدرك أنه «طفح الكيل» وأن للصبر حدود بالنسبة للمصريين!!
تواصل حكومة إثيوبيا لصالح قوى خارجية اتهام مصر بكل ما تستطيع فهى ترفض القبول بأن حصة مصر من المياه يجب أن تكون الأكبر رغم تأكدها وعلمها أن النيل هو المصدر الوحيد للمياه فى مصر، وليس لها مورد مائى آخر غير النيل وتعتمد على مياه النهر بنسبة 98٪، وهذا عكس إثيوبيا التى تعد من أغنى دول أفريقيا بالأمطار، وتنسى حكومة إثيوبيا - فى غمرة تعنتها واستعراضها للقوة - أن نصيب المواطن المصرى قد انخفض من (1893 مترا مكعبا عام 1960) إلى (740 مترا عام 2007) ومن المتوقع أن ينخفض إلى (582 مترا فقط عام 2025) خاصة مع تزايد احتياجات مصر من الموارد المائية نظرا للزيادة الكبيرة فى عدد السكان، وضرورة توسيع الأراضى الزراعية لسد احتياجات السكان من الغذاء، وزيادة استهلاك المياه لأغراض الشرب والصناعة والتنمية وغيرها، وهو ما يحتم التعاون بين جميع دول حوض النيل لتنمية موارد مياه نهر النيل لصالح كل دولة وشعوبها، أما النكتة السخيفة التى يرددها صانع القرار الإثيوبى ويخطط ويتآمر من أجلها هى «بيع مياه النيل لمصر»!! يعنى يريدون «بيع المية فى حارة السقايين»!! هل رأيتم غطرسة وتعنتا ونكتة سخيفة أكثر من ذلك!! يبدو أن حكومة إثيوبيا لا تعلم أن التنمية لا يمكن أن تؤجل إلى أجل غير مسمى!! وأن الشعب المصرى لن يقف مكتوف الأيدى حيث يزداد عدد السكان وأن عمليات التحديث والتصنيع والزراعة تحتاج إلى المزيد من المياه لتحقيق خطط التنمية.
∎ إثيوبيا.. تستبعد لجوء مصر «للحرب»
يقول «ليستر براون» مدير معهد سياسات الأرض بواشنطن: «إن حروب المستقبل سوف تنشب نتيجة لمحاولة الدول المحافظة على أمنها الغذائى، وهل يمكن إنتاج الغذاء بدون ماء؟
الإجابة بالطبع (لا) فالماء عصب الحياة والتقدم والرقى وكل هذا مرتبط بأمن ومصير الشعوب، والذى يؤكد ذلك أنه قد جعلت صدمة الجفاف فى الثمانينيات العديد من المصريين يخشون وقوع أزمة مائية، وكان رد فعل الرأى العام المصرى أنه ليس لديه اعتراض إذا ما أقدمت مصر على الحرب» إذا كان هناك تهديد لجريان النيل إلى مصر.
لكن يبدو أن العابثين فى عقل إثيوبيا يتلاعبون بصانع القرار الإثيوبى الذى يتوهم طبقا لتقديرات الموقف من جانبه هو فقط!! أن قوة مصر الاقتصادية وقدرتها على الحشد العسكرى الضخم بعيدا عن حدودها بآلاف الأميال أصبح ضعيفا ومحدوداً للغاية!! ولهذا يستبعد الإثيوبيون لجوء مصر إلى الحرب!! كما تردد حكومة إثيوبيا أن تهديد مصر دائما بالتدخل العسكرى لا يكون إلا «نوبة غضب» سرعان ما تهدأ، والدليل على ذلك أن إثيوبيا أنشأت بعض السدود على النيل ولم تنفذ مصر تهديدها بالحرب!! هذا يؤكد أن إثيوبيا لا تخفى رغبتها فى كسر إرادة مصر!! وتحطيم طموح مصر فى ضمان حقها التاريخى فى مياه النيل وحماية مصالحها وأمنها المائى!! إثيوبيا يا ناس يا هوه «تستفز مصر».. فهل تصمت مصر؟!!
∎ ماذا بعد؟
حكومة إثيوبيا وصانع القرار بها يمارس الغطرسة والتعنت والاستفزاز لمصر!! ومن يمارس التضليل على العقل الإثيوبى أوهمه كذبا أن الجيش المصرى سيحشد العدة والعتاد وآلاف العسكر بعيدا عن حدوده بآلاف الأميال ليحارب إثيوبيا!! ونسى هؤلاء الجهلاء أن الحروب الحديثة ليست بهذا الشكل التقليدى، فهناك حروب المخابرات، وإثارة القلاقل والاضطرابات، والعمليات العسكرية السريعة، لأنه عندما تتعرض حياة (100 مليون إنسان مصرى) للخطر والموت عندئذ لابد لمصر أن تواجه هذا «التعنت الإثيوبى» ويقتضى هذا الموقف التعامل بهدوء وحزم، أما «الهدوء» فيقتضى عدم التهديد بأى نوع من أنواع القوة العسكرية فهذا مرفوض من جانب مصر، وأما «الحزم» فيقتضى عدم التفريط فى حصة مصر المائية وحقوقها التاريخية.
∎ السؤال الآن
ما الإجراء الذى ستتخذه مصر لإيقاف المشروعات الإثيوبية والأفريقية التى تقلل من جريان ماء النيل إلى مصر!؟ ماذا عن احتمال «الصراع المسلح» حول المياه؟! وهل صحيح أن مصر لديها سياسة متأنية للاستعداد للتدخل العسكرى فى وسط أفريقيا تبعا لمقتضيات الموقف إذا استدعى الأمر ذلك؟
هل يؤمن رجال القوات المسلحة المصرية «بالدبلوماسية» أو الضغط الدولى فى مثل هذه الأزمات التى تهدد الأمن القومى؟ أم أن التلويح باستخدام القوة هو الأفضل لمساندة طلبات حكوماتهم؟ هل مازالت مصر تعتبر نفسها القوة الكبرى فى وادى النيل وأن ما تملكه من تفوق عسكرى يمكن أن تسيطر به على عدم الإضرار أو الانتقاص من حصتها وحقها التاريخى فى مياه النيل؟؟