فى الأيام الأخيرة من العام يقوم البعض بالجرد السنوى للعلاقات، الصداقات، الأحداث، نحتفظ، نلغى.. نبتسم.. نبكى.. نفنط الصور الفوتوغرافية.. وجوه يسعدنا رؤياها أو لا تسعدنا، نضحك على أنفسنا عندما نمزقها حتى لا تبقى أمامنا مثل الندامة، وهى مطبوعة فى عقولنا، فى هذا المخ البشرى العجيب الذى يحتفظ بآلاف الصور فى أرشيف منظم، بإرادتنا أو بدونها نضغط على زر فى الذاكرة فتخرج لنا الذكريات، نحبها أو لا نحبها ولأننا فى عصر الكمبيوتر الذى يقوم نيابة عن العقل البشرى بحفظ ما نمليه عليه والإنترنت في معرفة المعلومات وتبادل الكلام، توجد خاصية كنا نستخدمها فى تفنيطنا لحياتنا وتلغى كل ما يضايقنا، هكذا نعتقد.. فى الجهاز العصرى هذه الخاصية بهزة بسيطة من يدنا على ما يسمى «الماوس» لكلمة «ديليت» فتلغى كل ما لا تريده.. ومن لا تريده على الجهاز، يطير فى الفضاء لكن ما كنا نلغيه سابقا لا يطير فى الفضاء، يبقى فى الذاكرة.
ومع نهاية العام قرأت كتابا للكاتب والروائى «محمد جبريل» عن تجربته الشخصية مع الآلة العصرية واستخدامه لها وعنوانه يلفت النظر.
∎ ديليت
يحكى الكاتب حكايته مع القراءة والكتابة ورواياته التى استمدها من واقع الحياة أو أحداث التاريخ، ما شاء الله على غزارة إنتاجه من الروايات والقصص، وقراءاته المتعددة، فقد كان يشعر أحيانا أنه صبى فى ورشة أسطواتها من كبار الكتاب العالميين الأجانب والعرب، كان حبه للقراءة هو المدخل لحبه للكتابة مثل كل الكتاب المبدعين، كان الكاتب «محمد جبريل» يكتب مثل بقية خلق الله بالقلم على الورق ثم استخدم الآلة الكاتبة لرداءة خطه، وضايقة صوتها ومجهود الأصابع إلى أن وصل إلى معرفة الكمبيوتر الذى وجده البديل لها بالرغم من مشاكله التى يحكيها لنا مع الآلة الجديدة وكيف تعلم استخدامها ليكتب إبداعاته.. لكن زوجته بالرغم من أنها كاتبة مبدعة إلا أنها استخدمت أكثر الإنترنت فى جهازها الخاص، يتحدث الكاتب عن زوجته التى أدمنت الإنترنت وحوارات «فيس بوك» فى تبادل المعلومات والآراء بين طرفين أو عدة أفراد.
«إنها لا تقرأ كتاباتى، معظم يومها أصدقاء الشبكة العنكبوتية، يجمعنا بيت واحد لكنها تعيش فضاءها الخاص، لا ترى أحدا ولا يراها أحد»، لقد افتقد اهتمامها به والأشياء البسيطة الحياتية التى كانت تسعده.
يقول الكاتب «فكرت» ثم عدلت فى اختراق صفحات فيس بوك فى جهازها، كنت مشفقا عليها، لابد أنها تخوض صراعا لا أفهمه مع رسائل مزعجة، قلت فى لهجة تقريرية «فيس بوك» موقع تجارى أرباحه من تبادل المعلومات الشخصية بين مستخدميه، وأن أفتح صفحة «فيس بوك» معناه إنى أفقد خصوصيتى تماما، طلاق عاطفى هو الوصف الذى اختاره للعلاقة بينهما، وردت عليه غاضبة «قل تباعد.. كلمة طلاق صعبة».
تطول جلساتهما أمام الكمبيوتر، هى فى حجرة النوم وهو فى حجرة المكتبة، المعلومات هى الهدف من الإنترنت أما «فيس بوك» فللإندماج والدردشة، ويدور النقاش بينهما، وأشار لها يوما عن معلومة قرأها أن الإنترنت ربما يمثل خطورة على العلاقات الزوجية، فقد كان هذا ما يشعر به من طريقة نقاشهما.
∎ النقر على ديليت
يقول الكاتب إن الهدف من «فيس بوك» تبادل الأخبار والمعلومات والآراء وصور الأحداث والصور الشخصية، لكنه وجد أن ما ترويه زوجته يدفعه إلى النقر على «ديليت» تطالعنى الدعوة إلى دخول فيس بوك ترافقها صور أصدقاء.. معارف.. زملاء تستغرق اللحظة قدر ما أقرأ الكلمات الداعية ثم أنقر على «ديليت» مغريات كثيرة أتأملها جيدا لدعوتى إلى الدردشة.. أكتفى بالإنترنت دون وسائط أخرى للمعلومات.
يحكى الكاتب محمد جبريل عن مشاعره وهو يكتب ويسرد ملاحظاته على الشخصيات التى يعايشها ليكتب عنها، «أنا لا أكتب الواقعية الروحية لمجرد الانطلاق فى الخيال لكنى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية فى اللحظة المعايشة أو فى أحداث تاريخية»، يحدثنا عن مدينة الإسكندرية التى يعشقها.. والأعمال التى كتبها عنها، وعشقه للقديم فيها، وهؤلاء الذين تتوزع أحوالهم المعيشية بين الحياة فى البحر والحياة على اليابسة.
∎ الإنترنت لا يكتم السر
يقول الكاتب: «توهمت أن الكم الهائل من المعلومات سيتيح لى الاتصال والتواصل، الحصول على المعلومة الصحيحة وحل المشكلات التى تعترضنى، العكس هو ما حدث، الإنترنت فضاء افتراضى لا موضع محدد إلى لا مواضع محددة، أضغط على الزر ينهمر شلال المعلومات والأفكار والآراء.. أعانى التشويش والارتباك.. خلاصة الأمر أن الصعوبة وربما ما يفوقها فى السيطرة على المعلومة بعد أن تصدر عن الكمبيوتر.. ما أملكه هو تحديد ما أذكره من بيانات شخصية تتحول فى اللحظة التالية إلى بيانات عامة.. قد يكتم السر من اطمئن إلى صدقه أو أقسم بعدم البوح لكن الإنترنت لا يقسم ولا شأن له بحرصى على السرية».
«اخترت الكمبيوتر لكتاباتى الخاصة، أما الإنترنت فهو لكتابات الجميع.. ساحة ممتلئة بالأفكار والمعلومات والوثائق والبيانات والإدانات وخطط العمل والتجريح والسباب والشتائم والإباحية، والمعاكسات والاحتيال والابتزاز والتهديد والتجسس واحتمال الفعل ورد الفعل».
يقول الكاتب: إذا كان اختراع الإنترنت حتى يصبح العالم أكثر انفتاحا وترابطا فإن البعض بدل المعنى بتحويل فيس بوك إلى أدوات للتهديد والضغط والابتزاز، يحدثنا عن وقائع ابتزاز تعرض لها، والفيروسات الإلكترونية التى تدمر الأجهزة وتعامله معها وخوفه من الجهاز كله وليست فقط الفيروسات.
∎ ديليت ما يضايق ويعود الوئام
نفهم من الصفحات الأخيرة فى كتاب الكاتب «محمد جبريل» أن زوجته بدأت تقلل من استخدامها مواقع الدردشة، بعد تجربة سخيفة وأخرى خصصوها لزوجها الكاتب من خلالها ونفهم أنه إلى حد ما أصبح يكتب مباشرة إبداعاته على الكمبيوتر وأنه فهم ألاعيبه فى اختفاء ما يكتبه.. فهم الكثير فى مسألة الإنترنت، وأن الأحاديث المتبادلة عادت بين الزوجين.. لكنهما لم يلغيا تماما هذا الجهاز من حياتهما، «غابت كلمة العزلة والغربة والاغتراب والملل.. حواراتنا فيما تقرأه وتدعونى لقراءته وما يجب قوله للرد عليه، صفحات تقتصر على العبارات المحملة بالابتزاز والتهديد والتخويف.. أشعر وربما تشعر هى أيضا بأننا نواجه احتمالات مشتركة تغيب ملامحها فى أسماء ومهن أشك أنها صحيحة، لكن تأثيراتها تنعكس فى شدة القوس التى نعيشها».
بعد أن قرأت كتاب ديليت للكاتب محمد جبريل، عدت إلى الكمبيوتر الطبيعى فى رأسى فى أفكارى، فالمخ البشرى يذهلنا عندما نقرأ عنه من كتابات العلماء والأطباء المتخصصين ونقول سبحان الله خالقه لا يوجد به ديليت آلى، الإلغاء من إرادتنا والتذكر من إرادتنا وكل الأحداث كامنة فيه بدون إرادتنا.. أتذكر لحظات سعادتى.. أريدها أن تعود.. أريد أن أفرح مثل زمان.. فرحة من القلب، أريد أن أضحك مثل زمان.. ضحكة من القلب.. حتى الحزن أريده مثل زمان.. حزن بالشجن وليس بالألم والفقد.
أستحضر لحظات تفاؤلى فى بداية عام جديد، أحدث الصديقات.. الأصدقاء المقربين.. أسمع صوتهم ويسمعون صوتى خلال التليفونات أرضية.. محمولة.. بفكرة أن حديث التليفون نصف الشوف.. نصف اللقاء، أقول كلمات للتفاؤل بالعام الجديد يردون بكلمات متشابهة، نضحك من تفاؤلنا ونخشاه، ومع ذلك نتمنى أن يتحقق هذا العام الجديد إن شاء الله.