انتابتنى حالة من الشوق والشجن والحنين..حالة من الترقب والانتظار واللهفة..لم أكن ذاهبة للاستماع إلى مطربة تغنى فقط..لم أقطع طريقى إلى الأوبرا لحضور حفل غنائى تقيمه مطربة كبيرة..وإنما كنت أسابق الوقت حتى أكون هناك فى الموعد المحدد.. حتى ألتقي والمشروع. إنها أنغام تلك الجزيرة التى تتوسط بحرا كبيرا متلاطم الأمواج إلا أنها ورغم ظروف قاسية تحيط بها كمطربة.. استطاعت أن تحافظ على نفسها.. تحافظ على الجزيرة.. بأشجارها المنمقة وزهورها النادرة والخضرة التى تحيط بها من كل مكان ثم المياه التى تغذيها وتمدها بالحياة. فالغناء ليس صوتا جميلا ينطق بأى كلمات.. وإنما هو فلسفة ينسجها صاحبها عبر أغان وسنوات وألبومات كثيرة.
أكثر من عشرين ألبوما قدمتها أنغام على مدى مشوارها الطويل.. وعلى الرغم من مرور السنوات، فإنك عندما تعرفها تدرك أن بداخلها طفلة مولعة بالغناء الجميل.. قالت لى: أحمد الله أننى امتهنت هوايتى.. أي أننى أعمل ما أحبه.. وهذا يضمن لى التوفيق على الأقل.. عندما تقترب من أنغام الإنسانة تكتشف صبية صغيرة لاتزال تجدل ضفائرها تكتشف الغناء لأول مرة.. وقفت على المسرح فى دار الأوبرا المصرية فى مهرجان الموسيقى العربية الثانى والعشرين تقول: «لاأزال أخافكم» فرغم السنوات والحفلات والأغانى إلا أنها تخشى الجمهور الذى تقف أمامه.. هكذا قالت.. وبالفعل لم يذهب هذا الخوف وتلك الرهبة إلا ربما بعد الأغنية الرابعة.. أعود إلى اشتياقى لسماع أنغام المشروع.. فإنها من القليلات اللاتى يحرصن على أن يضعن مع كل حفلة أو ألبوم طوبة جديدة فى مشروعها الغنائى.. تضيف نبتة جديدة إلى جزيرتها الخضراء.
مشروع أنغام بدأ مع «الركن البعيد الهادى» ثم مر بمراحل كثيرة.. دخلت فى مناطق شائكة وتحدت نفسها وراهنت على جمهورها فغنت أغنية من الفلكلور الفلاحى وهى وحدانية ألحان الموسيقار الكبير أمير عبدالمجيد.. غنت أغانى وكلمات كانت فيها هى المرأة الثانية فى حياة الرجل، إلا أن الجمهور قد قبلها منها لأنه يعلم ويدرك ويعرف تلك الفتاة الصغيرة التى تسكنها تحلم بالحب وتتوق للحظة رومانسية.
إذن فنحن أمام صبية صغيرة تسكن جزيرة خضراء واسعة تزينها كل يوم بزهرة أو نبتة جديدة، أخذت على عاتقها أن تظل هذه الجزيرة منمقة.. خضراء.. ساحرة.. هذا هو مشروع أنغام الذى ظل يكبر ويكبر إلى أن أصبح إحدي علامات الغناء الجميل فى بلادنا.. وقفت على المسرح الكبير وأمامها مئات من الحضور.. حفل كامل العدد بمجرد الإعلان عنه.. مقاعد إضافية.. وزهور جميلة قدمتها إليها الدكتورة إيناس عبدالدايم التى حرصت على أن تحيى أنغام تحية خاصة.. ثم تحضر الحفل كاملا ثم تتلقى التهانى على نجاحه.. بساطة شديدة أطلت أنغام بها على جمهورها بفستان أزرق زهرى تزينه بعض الكرانيش وحذاء فضى اللون.
أما صوتها القوى فبه حنين يحفزك على الكتابة وغناء له طبيعة الحرير الناعم المنساب فى رقة ودلال.. وأغان تصل إلى وجدان المستمع لا إلى أذنه.. فإنها مطربة تغنى بمزاج وحرفية شديدة إلا أنها لا تفقد الصوت دهشته الأولى وخوفه من الجمهور.. حرفية لا تفقده الإحساس..أنغام وقد لقبتها ومنذ زمن بملكة الإحساس، ولكن مرور السنوات قد يفقد الصوت هذا الإحساس البكر الطازج.. إلا أنها تحارب القبح بجميع أشكاله فلاتزال تمتلك الإحساس الذى يفتقده الكثيرون، فالقضية ليست صوتا، وإنما إحساس متجدد دائما.. قلما وجد فكلما ازداد الصوت حرفية كلما فقد شيئا وغالبا يكون الإحساس، وإنما أنغام المشروع استطاعت أن تحافظ على تلك الفتاة الصغيرة التى بداخلها تغذيها وتجددها كل يوم.. وخلال الحفل الذى استمر ساعتين علا صوت التصفيق.. وجاءت أصوات من بعيد تعلن حبها لأنغام لدرجة أن هناك صوتا جاء قائلا: «والله بحبك يا أنغام»، مما أفزع الكثيرين، لكنها كانت فى النهاية صيحة إعجاب، وتكرر هذا كثيرا، جاءت أصوات تطلب أغانى بعينها، حاولت أنغام أن ترضى جمهورها بابتسامتها الرقيقة.. وصوتها الحساس.. وحضورها الطاغى على المسرح.
غنت أنغام مجموعة من أغانيها القديمة وأخرى جديدة.. تخللتها أغان لعمالقة الغناء فى بلادنا.. غنت أغنية للفنانة نجاة «على اليادى» كلمات حسين السيد ألحان محمد عبدالوهاب، قالت أنغام إننى من عشاق ومريدى محمد عبدالوهاب.. تربيت على ألحانه وأغانيه، لذلك فقد اختارت أغنية لعبدالحليم من ألحان الموسيقار الكبير كذلك وهى «كنت فين وأنا فين» كلمات حسين السيد.. ثم غنت للسيدة وردة أغنية التى ذكرت فى كلمة بسيطة وقصيرة فضل وردة عليها فى بداية حياتها عندما جمعتها حفلة بها.. إلا أن المطربة الكبيرة أصرت على أن تضع صورة كبيرة لأنغام إلى جوار صورتها.. غنت أنغام أغنية وطنية واحدة وهى «بلادى» كلمات ناصر رشوان ألحان الموسيقار الذى أفتقده كثيرا أمير عبدالمجيد، فإنه من القلائل الذين يحتفظون بالألحان الجميلة والفن الراقى بداخلهم، والشىء نفسه بالنسبة للشاعر ناصر رشوان، فإنه قليل الإنتاج الغنائى، لكن مع كل أغنية وغالبا ما تكون مع أنغام يطلق قنبلة شعرية من العيار الثقيل.
قلبك ما عدش ملكك كلمات هند القاضى، لحن الملحن المتميز خالد عز ومهزومة كلمات أمير طعيمة لحن خالد عز كذلك.
وتوالت الأغانى مثل «ماجبش سيرتى» كلمات بهاء الدين محمد ألحان رياض الهمشرى رحمه الله الذي نذكره دائما ونتذكره بأعماله الممتعة الجميلة.
أما عن آخر أخبار ملكة الإحساس فإنها تستعد لإصدار ألبوم جديد من إنتاجها وتقول: لقد استقررت على معظم أغانى الألبوم الجديد، لكننى قمت بتسجيل أغنيتين فقط، وعن سبب تأخره قالت: هذا أمر طبيعى فى ظل الفترة العصيبة التى مررنا بها طوال السنوات الماضية، فكانت هناك حالة من الحزن تسيطر علينا، لم نكن مهيئين لاستقبال أى شىء سواء على مستوى الفن أو غيره، واعتقد أن أى عمل فنى كان سيطرح وقتها سيتأثر كثيرا بما يدور على الساحة السياسية.. إلى جانب أننا كمطربين نفكر فى مستقبل بلدنا أكثر من أى شىء آخر، لكننى اعتقد أن فى الفترة الحالية حان الوقت لنستعيد أعمالنا من جديد، ونؤكد للعالم أننا تجاوزنا المحنة التى مررنا بها.
وعن إنتاجها لنفسها لأول مرة قالت: بالطبع أزمة الإنتاج الموجودة أثرت على الإصدارات الغنائية بشكل كبير والجميع يؤجل أعماله حاليا خوفا من الهبوط أو الخسارة، لكننى اتخذت القرار، ووجدت أنه سيتيح لى مساحة كبيرة من التحرك بشكل حر فى الألبوم، إلى جانب تقديم مستوى جيد من «الكواليتى»، أتمنى أن يطرح الألبوم فى العام القادم وينال إعجاب الجمهور.
الحفل الأخير بدار الأوبرا يثبت أن أنغام لاتزال تغنى بروح الهاوى.. لذلك جاء غناؤها معبرا.. حساسا شجيا.. لاتزال تحتفظ بتلك الطفلة الصغيرة أو الصبية الشابة المندهشة دائما فتغنى وكأنها تغنى لأول مرة.. بنفس الخوف ونفس الرهبة.
وينتهى حفل أنغام «ويخلص الكلام.. إلا أنه يزيد من شوقنا أكثر لصوتها وحضورها.. تتركنا وتعود إلى جزيرتها الخضراء تستمد منها حماس تلك الصبية الصغيرة تركناها وتركتنا.. إلا أننا على موعد معها فى الألبوم الجديد فى بداية العام القادم لنحصل على جرعة من الفن الجميل يعيننا على تحمل الواقع.