كرداسة - ما كانت تعنى لى هذه المنطقة إلا مجرد سوق لأفضل وأرقى الجلاليب الحريمى فى الوطن العربى بل والعالم بأسره.. والحقيقة أن هذه المعلومة لم أكن لأعرفها إلا لأن جزءا من عائلتى غير مصريين وهم من أخبرونى بهذا.. وكانوا دائمًا عند زيارتهم لنا يطلبون الذهاب لهناك لشراء أجمل الجلاليب من هناك لأنفسهم أو هدايا لذويهم هناك المرة الثانية التى سمعت بها اسم «كرداسة» كانت أحداث العنف الأخيرة والدماء التى أُرقيت هناك.. واستشهاد نائب المأمور فى قسم كرداسة ومحاولتهم التمثيل بجثته وتمثيلهم بجثث ثلاثة ضباط شهداء آخرين فى حادث اقتحام القسم وقذفه بالأسلحة الثقيلة.. ومن ثم علمت أنها أصبحت ملاذًا ومخبأً للإرهابيين.. ثم عملية الاقتحام الذى قامت به الداخلية والقبض على المئات كما وصف لى الأهالى كانت كرداسة مزارًا للسائحين العرب قبل الأجانب.. وكان أهلها من التجار سواء تجار القماش أو الجلاليب يعيشون حياة رغدة.. كما أنهم مشهورون ببيع الخضروات والفاكهة.. أخذنى فضولى للذهاب لكرداسة والتجول بها.. ولمعرفة الحال التى وصلت إليها هذه القرية التى تقع فى محافظة الجيزة والتى كانت تُعد منطقة سياحية.
كان مشوارى طويلاً من مدينة نصر إلى كرداسة.. وزادها طولاً ووقتًا ازدحام الطريق غير المعروف السبب! وصلت تقريبًا بعد ثلاث ساعات وثلث.. فوصلت الساعة الخامسة والربع.. كان هذا يوم الاثنين ومن المعروف أن يوم الاثنين هو يوم السوق الأسبوعى لكرداسة يكون به كل ما يمكن أن تتخيله للبيع أو الشراء.. توقعت لرؤية أمن مشدد فى المنطقة.. وأسئلة «رايحين فين؟!» جايين منين؟! إلا أنه بمجرد وصولى للافتة «مرحبا بكم فى كرداسة» كان الهدوء والصمت هو بطل المكان.. حتى بعد مرورى بمدخلها كل ما وجدته هو عدة تكاتك تقف على جانب الطريق.. يقف بجانبها بعض الأطفال الذى لا يتعدى عمرهم الحادية عشرة.. توقفت بجانبها أسأل عن قسم كرداسة.. ليس بحثًا عن الحدث فى شىء ولكن بحثًا عن ضابط أمن أو عسكرى حتى وصف لى الطفل المكان ببساطة.. وسألنى «أنتم صحافة وتصوير؟!» وكأنه معتاد على ذلك.. فقلت له «نعم» فضحك وتركنى.. ذهبت كما وصف لى الولد.. وقبل وصولى بأمتار للقسم رأيت مبنى مربع الشكل صغيرًا مكتوبًا عليه «بنك قرية كرداسة» ومرسوم على الحائط كله علامة «لرابعة» فنزلت لأصوره.. فإذا بصوت ينادى بخوف وعصبية «إنت يا.. إنت يا مدام.. بتعملى إيه عندك؟!» فالتفت خلفى لأجد رجلا بسيطًا بجلباب بلدى يجلس على الرصيف.. وبجانبه آخر يفترشان الرصيف ويشاهدان تلفازًا صغيرًا أمامهما.. كانا يشاهدان مسلسل ليالى الحلمية.. ويحتسيان الشاى الساخن ذهبت له «مساء الخير يا حاج.. أنا صحفية وعايزه أتعرف على القرية؟!» رد علىّ الرجل بعصبية «وبتصورى البنك ليه يعنى.. مش فاهم؟!» فوجدت نفسى أرد عليه بعصبية محاولة كتمانها بابتسامة مغصوبة على وجهى «أنا بصور اللى مرسوم على البنك.. هو حضرتك كنت فين بقى ساعتها ما منعتهمش ليه بدل ما تمنعنى أصور اللى حصل»؟!
ارتبك الرجل ورد على بعصبية أقل «والله ما كنت موجود.. كنت فى شيفت بالليل!!» ثم استطرد كلامه «أنا رغم أنى مسلم وموحد بالله لكن مضايق برضه أنهم يعملوا كده ويرسموا العلامة كده على البنك ويخربوا الحيطة»!
خرج الرجل الآخر عن صمته أخيرًا ليرد على صديقه مستهزئًا.. وهو اللى هم بيعملوه ده من الإسلام فى إيه؟! يعنى إيه مسلم وموحد ومضايق منهم؟! إيه علاقة ده بده؟!
فارتبك الرجل أكثر وقال.. «لأ ما أقصدش.. أقصد يعنى أن ما يصحش يخربوا الحاجات بتاعة الناس؟! فرد عليه الرجل مرة أخرى «ويعنى هو الحرق والقتل والدبح هو اللى يصح وحلال؟! قاطعتهم قبل الدخول فى مشادة موقفى فى غنى عنه «طيب يا حاج ما تحكيلى إيه اللى بيحصل فى القرية دلوقتى.. رد علىّ حارس البنك فى اقتضاب «أنا مش من هنا.. وما أعرفش حاجة عن اللى حصل فى القسم فقلت له «لا أريد معرفة ما حدث ولكن احكيلى عن أحوال الناس هنا فقال لى «أنا مش من هنا» فسألته «منذ متى وأنت تعمل هنا يا حاج؟!» رد قائلا «من 1989» - «ياه.. دا أنت أخذت الجنسية الكرداسوية خلاص بقى» ضاحكًا.. آه والله.
- طيب فى حاجة اتغيرت فى الناس ومعاملتهم من الوقت ده؟!
- الناس هم الناس.. كله فى حاله.. وخصوصًا الناس التى بتيجى البنك.. ناس غلابة.. تيجى تقبض معاش.. أو حوالة وتمشى..
فوجد عم سلام يخرج عن صمته مرة أخرى وكأن صبره قد نفد من صديقه.. «يا ست الكل.. الناس ما عدتش هى الناس.. الناس بقت تعبانه.. وخايفة.. ودول ناس لا بيحبوا مصر ولا عايزين لها الخير».
- تقصد اللى حرقوا القسم؟! هو - أقصد بتوع رابعة ونهضة ومش عارف إيه.. أقصد الله لا يسامحه مخترع «أم الثورة» ده ربنا ينتقم منه قادر كريم عشان الثورة دى فرقتنا.. خلتنا نخاف من بعض.. خلتنا نقتل بعض.. يا ست كرداسة مقتولة من يوم ما ثورة 25 يناير قامت!!!
تركتهم بعد أن وافق «عم سالم» على إعطائى اسمه وتصويره بينما الرجل الآخر رفض وبشدة ذكر اسمه رغم عدم اعتراضه على تصويرى له بجانب «عم سالم» حارس السنترال الذى يقع بجانب «البنك».
لم يكن هذا الرجل الوحيد فى قرية كرداسة الذى رفض ذكر اسمه بل أغلبهم رفض حتى التصوير أيضًا.. فمثلا صاحب مقهى كان يجلس وحيدًا نزلت من السيارة لأتحدث معه قليلاً.. استقبلنى بشكل جيد وسألته عن الأحوال وعن سبب خلو المقهى من الناس فإذا به يقول لى إن كل شىء على خير حال وأنه لا يشكو من شىء على الإطلاق.. فتعجبت وقلت له ألم تؤثر فيك وعلى عمل القهوة الأحداث الأخيرة وتواجد المتشددين فى المنطقة فرد علىَّ فورًا «إطلاقًا.. بل ما نعانى منه نعانى منه من فترة طويلة.. تحديدًا منذ أن قامت الثورة فى 25 يناير.. رغم أنها لم تؤثر فى أمن المنطقة.. فنحن آمنون على عكس ما نسمع عن باقى المحافظات والقرى.
طلبت منه صورة فرفض كما رفض ذكر اسمه تمامًا.. فقمت وذهبت لبائع خضار بمجرد اقترابى منه كان مكان محله داخل سوق الاثنين الذى يعتبر أكثر منطقة تدب بها الروح فى المنطقة لمجرد أن السوق مفتوح إلا أن كل من يقف أمامه زبون يكون متخصصًا فى أدوات المدارس فقط لا غير.. أما باقى السوق فهم جالسون أمام محلاتهم ينتظرون الفرج!!
هذا البائع عندما اقتربت منه حاملة الكاميرا فى يدى.. هرول إلىَّ مستحلفنى ألا أصوره أو أصور المكان.. فهدأت من روعه وقلتله خلاص يا حاج.. «أنت اسمك إيه طيب» فقال «أحمد عبد النبى» فقلتله «خلاص يا حاج أحمد مش هصور.. بس أنت خايف ليه يعنى.. فقال لى «يا ست دول لما بيشوفوا أى صور لأى حد بياخدوه!!» فسألته.. «هم مين الداخلية؟!» فرد علىَّ بعد تردد «معرفش» كالعادة سألته عن الأحوال وعن تجارته فقال والحزن على وجهه.. «زى ما انت شايفة.. فاكهة صابحة وبكرة تدبل زى كل حاجة دبلانة فى بلدنا».
استكفيت بما قاله الحاج أحمد عبد النبى وحاولت البحث عن سيدة واحدة أتحدث معها فلم أجد إلا مجموعة من المنتقبات يمشين فى جماعة... فلم أقترب منهن أصلا!! لكن دون ذلك لم أجد سيدة واحدة تسير فى الشارع.. كما أننى لم أجد سيارة ملاكى تمشى فى الشارع.. لكننى وجدت جراجًا كبيرًا قبل السوق بشارع مركونة به سيارات فخمة وماركات مختلفة إلا أننى لم أجد حارسًا على الجراح، والجدير بالذكر أن خلال رحلتى فى كرداسة لم تقع عينى على ضابط شرطة أو جيش ولا حتى عسكرى لا داخلها ولا على مداخلها.
ذهبت بعد ذلك إلى سوق الجلاليب الكرداساوية المشهورة وهو شارع سياحى بمدخل آخر من خارج كرداسة ومدخلها من داخلها مغلق بسيارات شرطة محروقة.. ذهبت لهناك فوجدت محلاً فى مول كرداسة هو الوحيد المفتوح ولم تكن الساعة تعدت السابعة بعد.. ووجدت شابين مهندمين يختلف شكلهم عمن قابلتهم سابقًا.. فسألتهم هل يعملون فى المول.. فضحكا وقالا لى أنهم أصحاب المول.. ففرحت لأنى قابلتهم وسألتهم فورًا عن المول وأحوال التجارة.. فرد على الأول أنه لا يوجد بيع ولا شراء.. كما ترين.. فسألته وإيجار المحلات؟! فضحك «مفيش إيجار» فرد الآخر مسرعًا «سيدفعون حين يتسنى لهم ذلك» فسألتهم عما يحدث هنا فقالا أنه لا يوجد أى شىء ولا توجد أى مخاطر يتعرضون لها لا من جهة الداخلية ولا من جهة المتشددين بل إنهم أصروا على أنهم لا يرون أى مسيرات ولا مشاكل فى المنطقة.
فقلت لهم ربما هذا لأنكم لا تسكنون هنا.. فضحكا وأشار كل منهما لشقة فى عمارة المول ليقولا لى أنهما يسكنان هنا فى نفس المكان.. ثم جاء رجل فأشار الاثنان لى أن أتحدث معه لأنه مستأجر داخل المول ويسكن فى داخل القرية.. واسمه «خالد» وطبعًا رفضهم التصوير لكنهما سمحا لى بتصوير المول عم خالد حاول أن يكون أكثر صراحة رغم رفضه أن يُصوَّر.. وقال لى.. ما نعانى منه بسبب مشاكل الدولة عمومًا وليس ما يحدث من أحداث كرداسة.. فجميعنا يعلم أن ما يحدث هى تصفية حسابات بين الداخلية والمتطرفين.. ثم أبدى تعجبه من أن الداخلية قبل عملية الاقتحام ظلت تهدد مرات ومرات.. ثم هاجمت بعدها بأيام عديدة.. لذا هو يرى أن الداخلية بذلك أعطت فرصة للمنتمين الحقيقيين أن يهربوا.. وقبضوا على مجموعة أخرى أغلبهم ليس لهم علاقة بما حدث بالفعل.. والجانى الحقيقى مازال هاربًا.. سألته عن عدم تواجد الشرطة فقال لى إن الشرطة تؤمن نفسها والمواطنين لذا لا تتواجد بعد غياب الشمس.. خوفًا من خروج أشخاص متربصة من الغيطان ويحدث تبادل إطلاق نار ويؤذى بريئًا لا ذنب له.
وأضاف أنه يتمنى أن تصلح الأحوال فى البلد كلها وتُدار بشكل مختلف لأنه هو كصاحب محل لا يستطيع الآن ومنذ الثورة (25 يناير) أن يؤمن إلا قوت يومه حتى إنه لم يدفع مصاريف مدرسة أولاده فى المدرسة الخاصة منذ العام الماضى!