عندما يتكلم د. محمد السبكى عن ترشيد الطاقة وتحسين كفاءة استخدامها فى مصر، فهو أكثر خبراء الطاقة المؤهلين للحديث فى هذا الموضوع المهم لتمتعه بالخبرة العلمية والعملية التى لا تتوافر لغيره .. فبالإضافة إلى أن الدكتور محمد السبكى يعمل أستاذا فى قسم هندسة القوى والآلات الكهربية فى كلية الهندسة جامعة القاهرة يشغل الرجل أيضا منصب مدير مركز بحوث الطاقة فى الجامعة، كما أنه عمل لعدة سنوات رئيسا لوحدة كفاءة الطاقة وحماية البيئة بجهاز تحديث الصناعة، وعبر الحوار التالى يشارك مدير مركز بحوث الطاقة فى حملة «صباح الخير» عن تحسين كفاءة استخدام الطاقة للخروج من أزمة الطاقة التى نعانى منها حاليا. ∎سألته فى البداية: لماذا تتعامل الصناعة المصرية بإسراف مع الطاقة؟!
فأجاب : للأسف بعض مصانعنا أو عدد لا بأس بهمنها مازال يستخدم تكنولوجيا قديمة غير موفرة للطاقة، فتعامل الصناعة عندنا بنوع من الإسراف أو عدم الترشيد فى الطاقة يعود إلى أن استراتيجية تسعير الطاقة الكهربائية التى وضعتها الحكومة فى أواخر الثمانينيات كانت تتبنى ما يعرف بتعريفة الأسعار المتناقصة خاصة بالنسبة للأنشطة الصناعية بمعنى أنه كلما زاد استهلاك الطاقة كلما انخفض سعر الكهرباء، وهذا جعل أصحاب المصانع لا يعتبرون الطاقة مكونا ذا أهمية فى تكلفة المنتج الصناعى النهائية.. صحيح أن الهدف من هذه الاستراتيجية كان إحداث التنمية الصناعية بمعدل أسرع، وهذا حصل بالفعل، إلا أنه كان له تأثير سلبى من ناحية استخدام المصانع للطاقة الكهربائية وبالتبعية على كمية الوقود البترولى أو الغاز التى نستخدمها فى محطات الكهرباء.
∎وهل حاول أحد تغيير هذه النظرة للطاقة؟
- مما لا يعرفه الكثيرون أن الدعوة عندنا لكفاءة استخدام الطاقة وترشيدها بدأت فى أوائل التسعينيات، حيث كان هناك مشروع ممول من منح أجنبية لتنفيذ مشاريع نموذجية لترشيد استخدام الطاقة فى الأنشطة الصناعية بالذات، وقد تم تنفيذ المشروع فيما يقرب من 29 مصنعا وحقق نسبة نجاح كبيرة جدا فكانت فترة استرداد الاستثمارات أقل من 5 سنوات وحجم الوفورات فى الطاقة تعدى 10٪ من الطاقة المستخدمة سنويا، ولكن لأن أسعار الطاقة كما قلنا كانت منخفضة جدا فلم يهتم أحد بمثل هذه المشروعات لذلك لم تتكرر مرة أخرى، فالإشارة القادمة من الدولة لأسعار الطاقة الكهربية ومصادر الطاقة الأخرى أنها ستظل منخفضة، وبالتالى لا ضرورة أو أهمية لمشروعات ترشيد الطاقة.
∎وهل هذا سبب زيادة الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة فى مصر والتى يعتبرها البعض من أسباب أزمة الطاقة ؟
- زيادة الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة لا يحكمها فقط عامل الطاقة، فهناك حجم فرص العمل التى توفرها هذه الصناعة، والفرص الاقتصادية فى التصدير وزيادة نسبة النمو، لأننا لو نظرنا فقط لكثافة استهلاكها للطاقة لن نتعامل مع هذه الصناعات نهائيا وكلها صناعة مهمة واستراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها توفر فرص عمالة أعلى من غيرها من الأنشطة الصناعية، كما أنها تعطى قيمة مضافة أكبر للمنتجات الوطنية، وما أريد أن أقوله إن ما يحكم جذب نوع معين من الصناعات ليس الطاقة فقط وإنما خليط من المعايير المختلفة التى يجب أن ينظر إليها معا فى تقييمنا لهذه الصناعات.
∎أرخص موارد الطاقة
∎وكيف نوفق بين أهمية هذه الصناعات وضروة ترشيد الطاقة ؟
- يمكن أن نوفق بين الأمرين من خلال استغلال فرص ترشيد استهلاك الطاقة فيها وهى كثيرة جدا، فمثلا نجد أن عددا كبيرا من المصانع تستخدم غلايات المياه لإنتاج البخار، فيجب أن نتأكد أن هذه الغلايات تعمل بالكفاءة الصحيحة وهذا يوفر ما يقرب من 10٪ من الوقود المستخدم، كذلك يجب عدم إعادة لف المحركات الكهربية فى هذه المصانع وإنما نستبدلها بمحركات أخرى عالية الكفاءة، مع العمل على أن تتفادى هذه المصانع ساعة الذروة الكهربية بتشغيل ورديات العمل فى أوقات مختلفة، كما يجب أن نشجع تلك المصانع تدريجيا على رفع كفاءة استهلاكها للطاقة بمراعاة استقدام أحدث التنكولوجيا الموفرة للطاقة فى الآلات والمعدات والأجهزة عند القيام بعمليات الإحلال والتجديد فى المصانع.
∎وكيف تساهم الدولة فى زيادة فرص ترشيد الطاقة فى تلك الصناعات؟
- الدولة هنا يمكن أن تعمل أنظمة فيها نوع من التحفيز لهذه الصناعات لأن توفير كيلو وات ساعة واحد من الكهرباء يعنى توفير 200 جرام من الوقود المستخدم فى توليدها، فالدولة يمكنها أن تقدم دعما ماديا لعمليات الإحلال والتجديد فى المصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة باستبدال مكونات الإنتاج القديمة بأخرى ذات كفاءة عالية الجودة، وذلكبدلا من دعم الطاقة الكبير الذى تقدمه لها والذى يقدر بمليارات الجنيهات سنويا، وهذا أفضل لها لأن مساهمتها فى تحسين كفاءة استخدام الطاقة فى الصناعة ستكون بصفة مؤقتة حتى يتم تحديث الصناعات التكنولوجية التى تستخدمها تلك الصناعات، أيضا يمكن أن تقوم الدولة بنوع من الرقابة على المصانع حتى تتأكد من ترشيدها للطاقة وهو ما يعرف بمراجعات الطاقة والتى يجب أن تتم بصورة دورية حتى يكون هناك تنبيه مستمر للمسئولين عن هذه المصانع فى حالة عدم التزامهم بالاستخدام الأمثل للطاقة، كذلك يجب مراقبة جميع مراحل الإنتاج.
∎وهل الاستثمار فى مجال ترشيد الطاقة فى الصناعة مكلف للدرجة التى لا تتحملها الدولة؟
- هناك حقيقة نرددها دائما وهى أن ترشيد الطاقة هو أفضل وأرخص مورد للطاقة، فتكلفة ترشيد الاستخدام تقل كثيرا جدا عن استثمارات بناء محطات جديدة للكهرباء، أو توفير منتجات البترول والغاز الطبيعى فالجميع يجب أن يدرك هذه الحقيقة لكى نحقق بالفعل الترشيد المطلوب للطاقة فى مصر.
∎وهل يمكن أن يكون رفع دعم الطاقة المقدم للصناعة هو الوسيلة الوحيدة لإجبارها على تحسين كفاءة الطاقة التى تستخدمها؟
- طريقة التسعير الصحيحة هى المدخل المناسب لترشيد الطاقة عموما بغض النظر عن تكلفة الطاقة، لأننا لما حددنا سعر الطاقة بطريقة متناقصة شجعنا على زيادة الاستخدام بل الإسراف فى استهلاك الطاقة، فطريقة التسعير مهمة جدا وأفضل طريقة لتسعير الطاقة فى مصر هى المستخدمة فى القطاعين المنزلى والتجارى، فتعريفة الطاقة الكهربية فى هذين القطاعين مناسبة جدا للترشيد.
وبالنسبة للصناعة نحن فى حاجة إلى التسعير الصحيح للطاقة التى تستخدمها سواء كانت طاقة كهربية أو غازا أو منتجات البترول «مازوت وسولار» وأفضل الحلول لها هو التسعيرة المتزايدة أو نظام الشرائح والذى يجب أن يطبق بحرص شديد حتى لاتتحمل مصانعنا زيادة فى التكلفة النهائية لمنتجاتها مما يحد من قدرتها على المنافسة فى الأسواق المحلية والخارجية، ويمكن أن نبدأ حاليا بزيادة أسعار الطاقة الكهربية فى ساعات الذروة وهو ما يعرف ب «التسعير طبقا للتوقيت» على أن نخفض الأسعار فى الأوقات الأخرى لأن هدفنا تقليل استهلاك الكهرباء فى ساعات الذروة لتخفيف الأحمال عن محطات توليد الكهرباء، لأنه فى هذه الساعات تعمل المحطات بطاقاتها التشغيلية القصوى، وبالتالى تزيد تكلفة إنتاج الكهرباء إذن فمن يريد استخدام الكهرباء فى هذه الأوقات عليه أن يدفع سعرا أكبر للحصول عليها.
∎مراجعات الطاقة
∎وماذا عن تجربة وحدة كفاءة الطاقة وحماية البيئة التى كنت ترأسها بجهاز تحديث الصناعة؟
- أهم ما فعلته الوحدة هو تشجيع المصانع على عمل «مراجعات الطاقة»، وكان مركز تحديث الصناعة يساهم ب 80٪ من تكلفتها والهدف منها كان مساعدة المصانع على معرفة الاستخدام الزائد للطاقة وفرص الترشيد، وكان هناك نوعان من المراجعات أحدهما سريعة وكانت تتم على يومين أو ثلاثة، والثانية مراجعات دقيقة لتحديد الإجراءات التى يجب على المصنع اتخاذها لإصلاح معدل استهلاك الطاقة.
واستمر البرنامج حوالى 4 سنوات، حيث بدأت الوحدة عملها فى عام 2008 واستمر حتى 2012، وعملنا مع حوالى 80 منشأة صناعية بأحجام مختلفة (صغيرة ومتوسطة) لتشجيع المصانع على بدء تطبيقات ترشيد الطاقة حتى بدون مساعدة من الدولة خاصة مع زيادة أسعار الطاقة والشعور بأزمة فيها، وقد كنا نأمل أن تساعد الحكومة ولو جزئيا فى دعم هذا البرنامج، لكن هذا لم يحدث رغم أنها فى عام 2009 خصصت نحو 500 مليون جنيه من الموازنة العامة لترشيد الطاقة فى المصانع، لكن آلية التنفيذ لم تكن واضحة فتم صرف هذا المبلغ الكبير فى بنود أخرى غير الغرض الذى خصص من أجله ولم تكرر الحكومة رصد مثل هذا المبلغ مرة أخرى لتحسين كفاءة استخدام الطاقة فى الصناعة.