وزير التعليم العالي يلتقي نظيره الروسي لتعزيز التعاون المُشترك    وزارة التعاون الدولي تُصدر تقرير «الشراكات الدولية لدفع التعاون جنوب جنوب والتعاون الثلاثي»    أسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 14 يونيو 2024    ارتفاع أسعار الذهب في بداية تعاملات الجمعة 14 يونيو    وزير الإسكان: جار إجراء التجارب لتشغيل محطة الرميلة 4 شرق مطروح    اليونيسيف: آلاف الأطفال يموتون بسبب المجاعة وسوء التغذية فى قطاع غزة    بايدن يتجول بعيدا فى قمة ال "G7" ورئيسة وزراء إيطاليا تعيد توجيهه.. فيديو    ألكسندر جوران ل«أهل مصر»: الدفاع وسيلة فرنسا لحصد أمم أوروبا.. وريال مدريد سيكون له تأثير إيجابي على مبابي    جهود أمنية مكثفة لمكافحة جرائم السرقات وملاحقة وضبط مرتكبيها    ضبط 24 مليون جنيه حصيلة تجارة عملة خلال 24 ساعة    ننشر صور 3 أشقاء لقوا مصرعهم داخل غرفة الصرف الصحي بالأقصر    "السكة الحديد" تخصص عددا من القطارات لخدمة أهالي النوبة    التضامن: استمرار عمل الخط الساخن لعلاج مرضى الإدمان خلال عيد الأضحى    إعلام إسرائيلي: إطلاق نحو 40 صاروخا من جنوب لبنان باتجاه عدد مستوطنات الشمال    مهرجان المسرح التجريبي يكرم فريق بانوراما برشا الفائز بالعين الذهبية في كان    الفيلم الوثائقي «أيام الله الحج»: ماء زمزم استمر في الفيضان أكثر من 4 آلاف عام    الكشف على 902 مواطن فى قافلة طبية مجانية بدشنا فى قنا ضمن "حياة كريمة"    4 خطوات تساعدك على الوقاية من مرض الاكتئاب    جامعة قناة السويس تنظم تدريبًا لتأهيل طلابها لسوق العمل    موقف وسام أبو علي من مباراة الأهلي والزمالك    محافظ أسيوط يوجه الإصلاح الزراعي بتكثيف منافذ السلع المتنقلة في الميادين    البوكس أوفيس لأفلام عيد الأضحى، ولاد رزق 3 وأهل الكهف واللعب مع العيال    الإسكان: زراعة 12 ألف شجرة مثمرة ضمن مبادرة الرئيس «اتحضر للأخضر» (صور)    يوم التروية في الحج.. أهم الأعمال المستحبة والمناسك    نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الكبير بالمحلة    مقارئ وندوات علم.. أوقاف جنوب سيناء تنفيذ البرنامج الصيفي للطفل داخل 60 مسجدا    قصف إسرائيلي وسط بلدة الخيام جنوبي لبنان    إخماد حريق داخل منزل فى العياط دون إصابات    32 ألف كادر طبى لخدمة الحجاج.. ومخيمات عازلة للضوء والحرارة    يوم التروية.. أفضل الأعمال المستحبة والأدعية المستجابة    الحجاج يرتدون ملابس الإحرام اليوم.. والبعثة الرسمية: حجاجنا بخير    أزهري يوضح موعد ذبح الأضحية.. والصيغة الصحيحة لتكبيرات العيد    الأغذية العالمي: موسم الأمطار يعرقل تقديم الدعم بالسودان    الدوما الروسي: واشنطن تقوض الثقة في الدولار من خلال فرض عقوبات غير قانونية    «غرفة أزمات مركزية».. خطة وزارة الصحة لتأمين احتفالات عيد الأضحى وعودة الحجاج    إجراء مهم من «هيئة الدواء» للتعامل مع نواقص الأدوية خلال عيد الأضحى    كاميرا القاهرة الإخبارية تنقل صورة حية لطواف الحجاج حول الكعبة.. فيديو    الجيش الأمريكى يعلن تدمير قاربى دورية وزورق مسير تابعة للحوثيين    «لن نراعيه»| رئيس وكالة مكافحة المنشطات يُفجر مفاجأة جديدة بشأن أزمة رمضان صبحي    إسقاط 87 طائرة مسيرة أوكرانية خلال 24 ساعة    5 قرارات جمهورية مهمة، تعرف عليها    التوك توك اتعجن، مصرع ربة منزل وابنتها وإصابة اثنين في حادث مروع بالشرقية    صفارات الإنذار تدوي في كريات شمونة بسهل الحولة والجليل الأعلى شمالي إسرائيل    عزيز الشافعي يحتفل بتصدر أغنية الطعامة التريند    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 14 يونيو 2024 مقابل الجنيه المصري بالتزامن مع إجازة البنوك    مصطفى فتحي يكشف حقيقة بكائه في مباراة سموحة وبيراميدز    إنبي: زياد كمال بين أفضل لاعبي خط الوسط في مصر.. ولا أتوقع تواجده في الأولمبياد    تنسيق مدارس البترول 2024 بعد مرحلة الإعدادية (الشروط والأماكن)    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    سموحة يرد على أنباء التعاقد مع ثنائي الأهلي    طريقة عمل الفشة في خطوات سريعة قبل عيد الأضحى.. لذيذة وشهية    هشام قاسم و«المصري اليوم»    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 14 يونيو: انتبه لخطواتك    نجم الزمالك السابق: خلصنا مع أحمد ياسر ريان.. والتعاقد في هذا الموعد (فيديو)    الحركة الوطنية يفتتح ثلاث مقرات جديدة في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    مودرن فيوتشر يكشف حقيقة انتقال جوناثان نجويم للأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا أخرج عبدالحليم لسانه أمام أى مرآو تصادفه؟

لم أندهش حين التقطت عيناى المشهد الضاحك الذى أقدم عليه عبدالحليم، فقد كنا فى مدخل دار الأوبرا القديمة وكنت قد وجهت له الدعوة ومن يرى من أصدقائه إلى مسرحية من المسرحيات التى يعرضها المسرح القومى فى دار الأوبرا القديمة، حيث كان يتم اختيار أنجح مسرحية ذات جمهور كبير ليقدم العرض فى دار الأوبرا، ولا أتذكر أيا من المسرحيتين كانت هى التى دعوت لها عبدالحليم؛ هل هى «عائلة الدوغرى» لنعمان عاشور أم «مأساة الحلاج» لصلاح عبدالصبور.

وجاء عبدالحليم ومعه ناهد وشقيقتها المتزوجة من دبلوماسى أحاله عبدالناصر للتقاعد. لاحظت نوعا من الحوار يدور بين ناهد وعبدالحليم كمحاولة لاكتشاف كل منهما للآخر. وكنت أضحك بينى وبين نفسى، فعائلة الدوغرى لنعمان عاشور التى أتذكر الآن مواقفها تحكى عن رحلة الصعود الاجتماعى، ومأساة الحلاج لصلاح عبدالصبور التى تحكى عن قصة صناعة العدل حتى وإن صعد الحالم بالعدل على الصليب؛ لمجرد أن أضاء قلوب الفقراء بضرورة تحقيق المساواة الإنسانية، فناله الاتهام بالكفر.


ومررنا بمرآة فخمة أثناء انتظارنا لبدء العرض، قبل الدخول إلى البنوار الذى خصصه لنا شكرى راغب مدير الأوبرا فى هذا الوقت، لمحت عبدالحليم حافظ وهو ينظر إلى المرآة؛ ولم أفاجأ برؤيته وهو يخرج لسانه لنفسه، فقط ضحكت، ففى عصر اليوم السابق، كانت المرآة هى محور الحديث التليفونى بينه وبين فؤاد باشا سراج الدين، وكان اسم فؤاد باشا مزعجا لى منذ أن شاهدته فى طفولتى عندما كان عمرى أحد عشر عاما، فى صيف عام1951 ، حيث كنت أصحب أبى كى ندفع مبلغ مائة وخمسين جنيها موضوعة فى ثلاثة أظرف، الظرف الأول به خمسون جنيها إكرامية لطبيب النحاس الخاص، وكان يشغل وكيل وزارة الصحة، وخمسون جنيها أخرى فى ظرف ثانٍ كهدية للسيدة زينب هانم الوكيلحرم النحاس باشا رئيس وزراء مصر وتعهد بتوصيلها طبيب النحاس الخاص، والخمسون جنيها الثالثة فى ظرف يتسلمه سكرتير فؤاد سراج الدين كتبرع لحزب الوفد، وطبعا كان الجنيه الواحد أيامها يساوى جنيها ذهبيا بالتمام والكمال، ومازلت أذكر لحظة دخولى مع أبى قصر رئاسة الوزراء ببولكى بالإسكندرية، وكان ذلك فى نفس نزول فؤاد سراج الدين من سيارته الكاديلاك ذات الرقم المشهور 119 وأمامه عربة جيب منخفضة لحراسته، وكان يرتدى جاكيت شارك سكن يميل لونه للبمبى وهو أول قماش مصنوع من البترول ويشبه جلد سمكة القرش فى نعومته، وتناول أحدهم الطربوش من يده وعلق فؤاد باشا سيجاره فى فمه ومد يديه الاثنتين على آخرهما ليتزاحم لتقبيلهما أعداد من الواقفين. وسمعت أبى يهمس «أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض»، وكنت أعلم أن أبى استدان هذا المبلغ بصعوبة، وأعلم أيضا أن عزبة فؤاد باشا الموجودة بالشرقية هى ما تسببت فى رفع أسعار القطن لذلك العام، وقد انتشرت حكاية عقود الإيجار التى يوقع عليها الفلاحون أو يبصمون دون تحديد قيمة الإيجار، فتحديد إيجار كل فدان يحدده المالك له فور بيع محصول القطن، وقد رأيت الفلاحين فى قرية أبى يشعلون النار فى أقطانهم بعد أن رفع فؤاد سراج الدين أسعار قنطار القطن بالبورصة وباع هو وأعضاء طبقته أقطانهم، ثم انخفض سعر القطن، فجن جنون الريف دون أن يعلن أحد ذلك فى الصحف والمجلات.

وطبعا كان فؤاد باشا سراج الدين هو من قامت ثورة 23 يوليو لتقليم أنياب الطبقة السياسية التى انتمى لها، وهو من اعتقلته الثورة أكثر من مرة، وكان آخرها يوم انفصال سوريا عن مصر، وكان معه فى المعتقل طالب سورى من أقارب من قاموا بالانفصال، وظل الطالب يسب فى عبدالناصر وثورته، وفؤاد باشا يهدئ من ثورته خائفا من أن يكون مدسوسا عليه كجاسوس، وكان ضابط المعتقل هو زميلعمرى أحمد نجيب وهو من روى لى تلك الحكاية. ولا أنكر أن قلبى لم يغفر لفؤاد سراج الدين قراره بنقل أبى من الإسكندرية إلى قنا لمجرد أنه أسقط مرشح حزب الوفد فى الدائرة التى نعيش فيها، ولم أغفر أيضا حكاية المائة والخمسين جنيها التى دفعها أبى كى يتم إلغاء النقل. ولذلك كانت رؤية فؤاد باشا سراج الدين أو سماع اسمه فرصة لتذكيرى بأيام قهر قديمة.

كان فؤاد سراج الدين فى سنوات ما بعد تأميم معظم ممتلكاته ومصادرتها قد احترف التجارة بالتحف المملوكة له أو لغيره.

وكان التليفون الذى جاء بعد ظهر الأمس قادما من فؤاد باشا سراج الدين يحمل عرضا خرافيا لشراء المرآة التى سبق واشتراها منه عبد الحليم حافظ، والتى توجد فى غرفة نوم عبدالحليم حافظ. وأخبر فؤاد باشا عبدالحليم بأن سيدة زارته فى منزله ونقلت الخبر لواحدة من أسرة محمد على فقررت أن تشترى المرآة كما اشترت مرأة تشبها بالضبط بل هى أختها التوأم، قال عبدالحليم: قل لمن يرغب فى شرائها يا سعادة الباشا أن عبدالحليم يعرض ضعف المبلغ الذى تريد أن تشترى به المرآة لو أحضرت شقيقة لهذه المرآة. وأغلق عبدالحليم السماعة ببعض من الضيق. قال لى «عجيب أن يزورك أحد فينظر إلى ما فى منزلك من أشياء ثم يعرض عليك عبر وسيط أن يشتريها منك. قد زارتنى إحدى العائلات التى تعانى من مشاكل مع أحد الوزراء طالبة وساطة عنده؛ لكن لم يفت سيدة هذه الأسرة أن «تنقر بعينيها مرآة غرفة نومى» وتحدثت عن المرآة لكل من هب ودب، فقررت واحدة من أسرة محمد على أن ترسل فؤاد سراج الدين وسيطا يعرض على شراءها. هل يستخسر هؤلاء أن توجد لدى عبدالحليم حافظ تحفة جمالية فى شكل مرآة؟

وقلت جادا: وهل هناك مرآة تختلف عن مرآة أخرى؟

قال ضاحكا: ألا تعرف أن المرايا التاريخية تعتبر تحفا فنية؟

أقول: التحفة الفنية تكون لوحة لرسام عالمى أو تمثال منحوت بشكل نادر. أما المرايا فكلها تبين لنا ملامحنا.


قال: أيام الفقر كنت أصدق ذلك؛ ففى الملجأ؛ كان هناك واحد فقط معه مرآة صغيرة، وكنا نتنافس على أن نرى أنفسنا فيها. وكان كل منا يحاول أن يبدو جميلا ورجلا فى آن واحد. فالرجولة فى الملجأ تعنى أنك قادر على الدفاع عن نفسك. وقادر على أن تضرب أى إنسان يتعرض لك. تساءلت «وهل كنت قادرا على ضرب أحد؟ ابتسم: كنت أكثر ذكاء من أترك أحدا يضربنى. فأنا الذى يمكن أن يسمعه الجميع؛ إذا ما اختلفوا فيما بينهم. لأنى كنت أتلمس أمنيات الآخرين وأحاول أن أحققها لهم. مثلا عند توزيع الملابس على فرقة الموسيقى فى الملجأ، وهو زى خاص كزى الكشافة نعيش به كل اليوم من الصباح إلى العصر؛ ثم نذهب لمنازلنا مثلى فى بعض الأيام أو يذهب المقيمون بشكل دائم فى الملجأ ليذاكروا؛ فالملجأ بالزقازيق مدرسة إبتدائية أيضا. وكان ضابط الملجأ له قريب قوى وضخم ويغلب أكثرنا قوة، وقد لا تتخيل أنى ضربت هذا الولد ذات مرة بعد أن طفح بى الكيل منه. وكنت أعانى من أن جسمى صغير. وكان كل واحد منا يحرص على ألا تكون ملابسه «محزقة» فالملابس الواسعة هى رمز الرجولة ورمز الابتعاد عن الخنوثة. وكان جو الملجأ كفيلا بأن تسرع يد أى منا لضرب الآخر ضربا مؤلما، كأن كل واحد يريد أن ينهى حياة من أمامه، ثم نبكى أخيرا معا. لكن حدث ذات مرة أن نلت علقة من أحد زملائى فى الملجأ ولم أرد على أى ضربة منه، والسبب أنه كان صاحب حق. فهو ابن لسيدة كانت تسكن أمام الملجأ. وكنا فى هذا العمر نخترع حكاية عن قصة مغامرة مكتملة مع امرأة ما؛ كأننا نريد أن نثبت بالحكايات الكاذبة رجولتنا. وكل واحد من نزلاء الملجأ يعلم أنه كاذب، ولكن لابد من الكذب لإثبات الرجولة. وكنت قد اخترت أنا هذه السيدة التى لها ابن فى الملجأ يدرس الموسيقى وأنا لا أعرف، كانت فوق الثلاثين؛ وهى جميلة بمعايير الجمال فى ذلك الزمان؛ فكل ما فيها «تخين». والغريب أن السيدة التى نقرت بعيونها مرآة غرفة النوم تشبه تلك السيدة.

أضحك قائلا: تشكو من ضعف الذاكرة وتلقى المسئولية على الكبد، ولكنك تتذكر أشياء وتفاصيل غريبة. ضحك عبدالحليم: الذاكرة التى أشكو من ضعفها؛ هى رغبتى فى تذكر شىء ما؛ ثم لا أجده فى رأسى، ولكنى أتذكر أشياء أخرى غير مهمة.

أقول: وهل المرآة التى فى غرفة نومك الآن تفرق عن المرآة التى امتلكها أحد زملاء الملجأ؟

ضحك عبدالحليم: طبعا تفرق. تماما كما تختلف هذه المرآة عن مرآة تواليت القطار الذى كنت أركبه كل يوم للوصول إلى طنطا أثناء عملى كمدرس فى مدرسة البنات هناك . وتفرق عن المرآة التى كانت فى الحجرة التى كنا نسكنها فى بركة الفيل أثناء دراستى لمعهد الموسيقى ، وكان أخى إسماعيل يضع بين الحائط وبين المرآة المعلقة فى الغرفة ورقة جريدة مفرودة؛ خوفا عليها من رطوبة الحائط. وتختلف عن المرآة التى كانت موجودة فى حمام العوامة التى حدث لى فيها نزيف الأمعاء لأول مرة، والذى ظننت أنه السل، وطمأننى د.زكى سويدان أستاذ الأمراض الباطنية أن السبب هو زوائد فى المرىء نتيجة للبلهارسيا، وهى تختلف أيضا عن المرآة التى علقتها فى حمام أول شقة استأجرتها فى المنيل وداهمنى نزيف كبير أمامها بعد انتهاء تصوير أول يوم فى أول فيلم لى «لحن الوفاء» وكانت تظهر وجهى أصفر جدا. وتفرق عن المرآة التى كانت معلقة فى بيتى فى العجوزة.

أقول: كلها «مرايات» من وجهة نظرى. قال: هذه مرآة مصنوعة من مائة وخمسين عاما، وكانت موجودة فى منزل أسرة من أسر محمد على. وهى مستوردة من بلجيكا رأسا؛ وبروازها مصنوع بواسطة الإيطاليين الذين تميزوا فى صناعة الأخشاب وعملية التذهيب.
أقول لعبدالحليم: ولكنك تحدثت عن المرأة التى تمنت هذه المرآة وأرادت أن تشتريها بنوع من عدم التقدير.


قال: قلت لك كانت تشبه المرأة التى اخترتها لأحكى عنها الحكايات فى الملجأ كتأكيد للرجولة. وكنت نحيل الجسم جدا. وكانت هى السبب فى أول علقة أخذتها فى حياتى. فقد قلت للأولاد لحظة الخناق على البنطلونات المخصصة لفرقة الموسيقى أن «نعيمة» تحبنى كما أنا، ولا تهتم بالبنطلون الذى ألبسه سواء كان واسعا أو غير واسع. وكان اسم هذه السيدة نعيمة. وأطلقوا علىَّ كلمة «حبيب نعيمة» وفوجئت بابن هذه السيدة وهو يضربنى دون أى تحذير، وحاولت أن أضربه، لكن عصبيته كانت تفوق الخيال. وكان فى مثل نحافتى. وقال لى «أنت بتقول إن أمى بتحبك يا «ابن ال...» وقلت له «وفيها إيه إنها تحبنى زى ما بتحبك». وازداد شراسة. ولم ينقذنى منه سوى الولد الذى خسرت له فى الكومى؛ وجعلته يكسب البنطلون الذى كان يرغبه. تساءلت: وهل كنت تتقن لعب الكوتشينة إلى هذه الدرجة العالية التى تجعل فيها من أمامك يكسب أو يخسر؟ قال ضاحكا: البنطلونالواسع هو أيضا السبب فى اتقانى للكوتشينة؛ فخناقة البنطلون فى فرقة الموسيقى هى خناقة سنوية. ولعلى وحدى الذى لم يكن يهتم بمسألة البنطلون الواسع ؛ فكل البنطلونات واسعة علىّ. ولكن كان هناك من يريد أن يضربنى بأى شكل؛ وقال لى عن البنطلون الذى أخذته وهو آخر بنطلون تركه الجميع «تلاعبنى عليه عشرة كومى؟». وأسرع ليأتى من دولابه بالكوتشينة. وعلمنى اللعب فى عشر دقائق؛ وغلبته أكثر من مرة. وأخذ البنطلون رغم ذلك. ومنذ ذلك الوقت وأنا أكره أن يطمع أحد فى شىء أملكه.

أقول: هم يطمعون فى أشياء تروح وتجىء. ولكن المكانة الفنية لا يجرؤ أحد على أن يطمع فيها. ضحك قائلا: يعنى أنت كنت عايزها تبعث مرسال يقول تسمح لى اشترى صوتك أغنى بيه شوية. أقول: ليس هذا قصدى. ولكنى بصراحة لا أفهم كيف ينظر الناس إلى ما يملكه الآخرون من أشياء دون أن يعرفوا رحلة التعب التى جعلت هذا الشىء فى متناول من يملكونه، فمن المؤكد أن هذه المرآة التى توجد فى غرفة نومك قد تكون على صداقة معها أو قد تكون على خلاف معها . فنحن نعقد صداقات مع الأشياء ونختلف أيضا مع الأشياء.

يقول عبدالحليم: أنا معك فى هذا. وهذه المرآة أحبها لأنها تظهر صورتى على حقيقتها؛ ولون وجهى لا يكون فيها أصفر أو أزرق؛ بل هو على حقيقته. أقول: لم أكن أعرف أن المرآة مهمة فى حياتك وكأنها ترمومتر لصحتك، تقيس بنظرتك لها حالة معدتك.

سألته ضاحكا: ألم تخرج لسانك لنفسك فى المرآة مرة؟

فغرق فى الضحك وقال: فعلتها كما يفعلها أى إنسان. ومازلت أذكر فرحتى حين كنت طالبا فى معهد الموسيقى، وخرجت مع مجموعة من طلبة المعهد لنحيى ليلة؛ دعانا لها أحد الزملاء، ولم أكن أعلم أن هناك أجرا على الغناء. وغنيت يومها ما أعجب أهل الليلة؛ وناولنى زميلى فى آخر الليل جنيها كاملا. ووقفت أمام أشهر حاتى فى السيدة زينب قبل أن أدخل إلى حجرتنا التى أقيم فيها مع إسماعيل ومحمد؛ واشتريت ثلاثة أرطال كباب . وكانت حجرتنا فى حوش تسكنه ست عائلات أخرى وفتحت الباب لأجد علية قد حضرت من الزقازيق من بيت خالى لتقضى أياما معنا، وكانت هى الوحيدة المتيقظة أما محمد وإسماعيل؛ فقد كانا غارقين فى النوم وأيقظتهما لنأكل الكباب معا. فأنا أحب اللمة والعائلة. وأذكر أن نظرت يومها فى المرآة الصغيرة التى فى الحجرة وأخرجت لسانى لنفسى؛ لماذا لا أعرف. هل هو الفرح؛ هل هى الشقاوة كما تقول علية ؟ لا أعرف. ثم أخذت العظام المتبقية وأعطيتها للكلب الذى ينتظرنى على أول الشارع ويصحبنى إلى أن أدخل الحجرة. وحين وجدت القطط تزاحمه؛ ملأت كوبا من الماء ورششته عليها؛ ووقفت أمام الكلب وهو يأكل بينما أسمع علية تقول لى: ما ترشش ميه على القطط. ربنا يكفيك شرها؟

نفس الحكاية؛ حكاية إخراج اللسان للنفس فى المرآة؛ حدثت وأنا أنزل من بيت عبدالوهاب فى جليم، فقد ذهبت إليه بعد أن طردنى المعلم صديق من الغناء فى مسرح اللونابارك بالإسكندرية، وطلبت من عبدالوهاب أن يسمع صوتى؛ فأخرج من جيبه ورقة نقدية ليعطيها لى. وكنت مفلسا، لكنى أحسست أن هذه النقود عقرب يلدغ كرامتى. فرفضت. وتركته على الباب ونزلت جريا؛ وحين وجدت عربة سندويتشات تقف على الكورنيش أخرجت النقود القليلة التى فى جيبى اشتريت ساندويتش؛ وكان بالعربة مرآة؛ فأخرجت لسانى لنفسى.

وكلما مررت بسيارتى أمام فيللا عبدالوهاب فى الإسكندرية؛ فأنا أعدل مرآة العربة التى أقودها وأخرج لسانى للزمن القديم الذى نزلت فيه من هذه الفيلا وأنا أجرى.
وأتذكر أيضا محمد الموجى الذى زار عبدالوهاب ليعرض عليه بعضا من ألحانه؛ فقال له عبدالوهاب: عندى لحن فيه عقدة وعايز أفكها «وسمع الموجى اللحن من عبدالوهاب؛ وحفظه وعاد ليسهر ليلة كاملة ويؤلف الجملة الموسيقية التى تنقص لحن عبدالوهاب؛ وكنت أسهر معه يومها. وحذرته أن يتحول إلى ترزى لألحان محمد عبدالوهاب. وحين ذهب الموجى لمحمد عبدالوهاب ومعه أكثر من جملة لربط اللحن؛ أعطى عبدالوهاب للموجى خمسين جنيها.

وطلبت من محمد الموجى أن يرد النقود؛ لكنه رفض؛ وبدأ يتهرب من أى مهمة من تلك المهام التى تعود عبدالوهاب فى بعض من مراحل حياته أن يستعين فيها بمواهب غيره من الموسيقيين؛ سواء الموجى أو رءوف ذهنى.


بعد الخروج من المسرحية دعانا عبدالحليم للسهر فى روف الهيلتون حيث ترقص ناهد صبرى، وكان يعلم أنى مغرم صبابة برقص ناهد صبرى، قال عبدالحليم لشقيقة ناهد «سنصحبها معا ويمكنك أن تنضمى إلينا». وقرأت فى العيون أن ناهد بنت الأسرة الثرية هى المرشحة لأن تكون خطيبة عبدالحليم حافظ. قالت أختها المتزوجة من سفير وضعه جمال عبدالناصر على رف الانتظار: سأترك ناهد معكما لنزور أسرة صديقة لمدة ساعة ونعود لنأخذها من الهيلتون، قالت لى ناهد ونحن نجلس فى روف الهيلتون: هل تحب المسرح المصرى إلى هذا الحد؟ إنها المرة الأولى التى أرى فيها مسرحية مصرية.

أجبت: أحب تكثيف حركة الحياة اليومية المبتذلة فى مواقف حساسة، والمسرح المصرى يفعل ذلك هذه الأيام. وهانحن نجلس مع عبدالحليم حافظ الذى أحب صوته، لأنه لا يبتذل المشاعر، فهل تعرفين لماذا تحبين أنت صوته؟

وكأنى بهذا السؤال فتحت أبواب أشواقها التى تزين بها نفسها للمرحلة الجديدة، وثرثرت معها عن أن كل فتاة عند عمر معين تصبح كالشجرة المخلوعة من بيت أبيها، حتى ولو كان من الأثرياء، الزواج للبنت يرغبه الأب ليرى الحفيد، وليطمئن إلى أن الشكل الاجتماعى لممارسة الحب قائم. وإذا كانت أوروبا تقول «القرون المضيئة من حق الزوج لا من حق الأب» فالقول يعنى أن الرجل الذى لا يسعد زوجته هو الذى يستحق أن تتجه زوجته بالحب لغيره، وهذا يعنى أنها ستزرع له قروناً بتجربة عاطفية، وأن هذه القرون ستضىء بأضواء مستمدة من الشائعات، أما الأب فهو لا يستحق ذلك إلا فى حالة أن يجبر ابنته على الزواج.

يضحك عبدالحليم من المثل الأجنبى عن «القرون المضيئة التى من حق الزوج ليست من حق الأب»، سألنى: كيف تجرؤ أن تتكلم مع فتاة تراها لأول مرة بمثل هذا الكلام؟ أجبت بهدوء: لا شىء، المسألة إخلاص يظهر فى أسلوب الكلام، وبعد ذلك من حقك أن تقول ما يحلو لك، هو إخلاص لن يوازى إخلاصك وأنت تغنى. هنا قالت ناهد: لقد سألتنى سؤالاً صعباً هو ما الذى يجعلنا نحب صوت عبدالحليم؟

أقول: ليس السؤال صعباً، لأن صوت عبدالحليم يكثف لنا حقيقة الإحساس باحتياج الرجل لامرأة تفهمه، وحقيقة إحساس المرأة لرجل يفهمها، فهل أنت قادرة على أن تفهمى أحاسيس عبدالحليم بكل تقلباتها؟

ولم تجب، لكنها نظرت بعيون من تتساءل «هل أنا طامع فى علاقة ما معها؟ أم ماذا؟
وحقيقة إحساس المرأة لرجل يفهمها، فهل أنت قادرة على أن تفهمى أحاسيس عبدالحليم بكل تقلباتها؟

ولم تجب، لكنها نظرت بعيون من تتساءل «هل أنا طامع فى علاقة ما معها؟ أم ماذا؟..



من دخل دار روزاليوسف عام 1985 كما حدث معى لابد أن يتذكر أن صاحبة باب «تحياتى إلى زوجك العزيز» هى الأثيرة مديحة عزت التى كانت بمثابة الشقيقة لإحسان عبدالقدوس والابنة للسيدة فاطمة اليوسف، وهى من كان المجتمع المصرى بقمة من فيه من ساسة وشعراء وقادة يسمعون لها، وتعرف أدق تفاصيل حياتهم.

وهاهى تكرمنى هذا الأسبوع باتصال تليفونى مندهشة من قدر المعلومات الدقيقة التى أرويها عن عبدالحليم والتى لا يعرفها العديد من الذين كتبوا عنه، وأخبرتنى أن النزيف الأول الذى راقبه عبدالحليم وحدث فى يوم دعوته على الغداء فى عوامة على شاطئ النيل، وأن هذه العوامة كانت ملكا لخالة السيدة مديحة عزت، وأن حفل الغداء كان على شرف الاحتفال بعيد ميلاد أستاذنا إحسان عبدالقدوس. وأن عبدالحليم كان صديقا أثيرا عند العائلة التى شهدت ميلاده فى أول ليالى شهرته بالغناء فى يوليو 1935.. وحديث مديحة عزت لى هو نوع من الوسام الذى أفخر به، فهى التى خبرت المجتمع بكتابه وقادته، وهى النوارة التى نتنسم من سطورها عطر أيامنا الحلوة.. لا توجد كلمات تفى الأستاذة الكبيرة حقها فى الشكر، وأدعو السماء أن يظل ضوءها ينير أيامنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.