وكان الزمن شهر رمضان الذى جاء فى الشتاء، وكنت أعلم أن الخوف يستبد بعبد الحليم حافظ إلى ما لا نهاية عند مجىء الشهر الكريم، فهو يؤمن أن الشياطين يتم سجنها فى معدته حيث يأتيه النزيف دائما فى رمضان.وعلى غير موعد دخل عبدالحليم لمكتبى فى صباح الخير ليجدنى فى حوار تليفونى مع أمى بالإسكندرية، كنت أقول لها «لولا رمضان كنت طلبت منك فتة كوارع بالثوم والتقلية، ومعاها لحمة رأس». نهرتنى أمى فليس من المعقول أن يطبخ أحد فتة وكوارع فى رمضان.. ضحك على الحليم وقال لى: إنت حاتفطر معايا النهارده.. تركنى عبد الحليم على وعد باللقاء على الإفطار.. وما إن دخلت بيت عبد الحليم حتى ملأت أنفى رائحة تقلية فتة الكوارع، وبعد أن انطلق المدفع لتناول الإفطار، دعانا عبدالرحيم سفرجى عبد الحليم والمسئول عن كل تفاصيل مايدخل معدته، لنبدأ تناول الإفطار. وأشهد كان مشهد طبق شوربة الكوارع وبجانبه طبق الفته بالخل والثوم رائعا بقدر ما هو غريب على مائدة عبد الحليم حافظ.. ولم أندهش لدعوتى على تلك الأكلة الشهية. فبعد أن سمعنى فى الصباح أتمنى تناول تلك الوجبة حتى دعانى على الإفطار معه. وضع السفرجى عبد الرحيم كل شىء فى مكانه. ولاحظت أن عبدالحليم سيأكل نفس الأكل اليومى: خضارا مسلوقا مكونا من بطاطس وكوسة وقليل من الأرز، وقطعة من الجيلى.. وخجلت من نفسى، فكيف أقبل دعوة من هو ممنوع من أكل شىء مما أتناوله. ولاحظ عبد الحليم أنى أكلت ملعقة واحدة من شوربة الكوارع ولم أقرب سوى طبق الجبن الذى على المائدة. فبدأ يشدد العزومة علىّ. وبدأ يحكى لى عن مخاوفه من رمضان، حيث يشعر أن الله يصفى له ذنوبه بنوبات من النزيف تزوره فى مثل هذا الشهر. ونظر إلى طبق شوربة الكوارع وفتة الخل بالثوم. وبدأ يحكى ذكرياته مع هذا الصنف من الطعام. كان قد مضى على انتقاله لشقة المنيل المتواضعة للغاية أسبوع واحد. وهى أول مرة يسكن فيها عبدالحليم حافظ فى شقة تخصه؛ حجرتين وصالة؛ وسرير من سراير الحديد يوجد فى الغرفة؛ والغرفة الأخرى أعدها لعلية؛ بعد أن ترك السكن مع إسماعيل؛ إسماعيل صاحب القيود «رحت فين ؟ جيت منين؟ ارجع بدرى؟ تعليمات أوامر».
إسماعيل لم يتخيل أن عبدالحليم قد كبر وأنه قادر على حماية نفسه، مازال يرى فى عبدالحليم الولد الشقى الذى يجب أن يرعاه، ولكن الرعاية وصلت إلى نقطة اللاعودة، فقد خرج الكتكوت الفصيح من بيضة العناية بأغنية «على قد الشوق».. وفى مساء هذا اليوم سيقف لأول مرة أمام الكاميرا لتجربة التصوير السينمائى تمهيدا لتصوير فيلم «لحن الوفاء». كانت هناك عزومة على فتة بالخل والثوم والكوارع فى عوامة تملكها صديقة لأسرة د. زكى سويدان أحد العقول الكبيرة فى الأمراض الباطنية. وفور أن سار عبدالحليم على الكوبرى الخشبى الفاصل بين شاطئ النيل فى العجوزة وبين العوامة حتى اهتز الكوبرى الخشبى؛ بفعل اهتزاز العوامة بتيارات مياه النيل تحتها، وارتبكت معدة عبدالحليم. وبعد أن حيا الناس أسرع إلى دورة المياه ليخرج ما فى معدته. وكانت المفاجأة القاسية، لاحظ عبد الحليم أن هناك خيوطا من دم بدأت تخرج من فمه. واتجه خياله إلى أنه مصاب بالسل. وارتعد من شدة الخوف. تذكر أيام الملجأ وكيف أصيب واحد من أطفال الملجأ بالسل، وأصبح لزاما على الجميع أن يقفوا طابورا، وصار عليهم أن يقطعوا شوارع الزقازيق ليصلوا إلى المستشفى الأميرى ليتم الكشف عليهم جميعا. وقال واحد من طلبة الملجأ: لو أعطوا كل واحد منا جنيها واحدا لأعطيناه لأهلنا وأكلنا وشربنا ولن نصاب بأى مرض. وضحك أولاد الملجأ؛ بينما رأوا زميلهم المصاب يتم حجزه بالمستشفى.. وغرق عبدالحليم فى دوامة من الهواجس عندما وجد نفسه مضطرب المعدة؛ ولاحظ خيوط الدم، غرق فى توهم أن السل قد هاجمه.. ولكن هل يمكن أن يغنى مريض السل؟ هل يمكن أن يقول عبدالحليم هذا الخبر لأحد؟.. ماذا عن القبلة مع أى ممثلة حسب ما يتطلب أى دور سينمائى؟.. هل يقبل أن ينقل الإصابة إلى شادية بطلة فيلم «لحن الوفاء»؟
ماذا عن السهر والليالى التى يحب أن يقضيها مع شلة الفنانين فى روزاليوسف؟ هل سيقول إنه مصاب بالسل لإحسان عبد القدوس أو فتحى غانم أو جمال كامل أو بهجت عثمان أو حسن فؤاد؟.. لمن يقول هذا الخبر؟وقرر الكتمان؛ والاحتياط فى آن واحد؛ لكنه لم يستطع كتمان الاضطراب البادى عليه. ولم يعرف كيف نطق سرا لخادم العوامة أن يضع له طعامه بمفرده، وأنه سوف يأخذ الكوب الذى سوف يشرب فيه.
ورأى عبد الحليم خادم العوامة يقترب من سيدة العوامة ليخبرها أن المطرب المدعو على الغداء يريد أن يأخذ معه الشوكة والسكين والملعقة والكوب الذى يشرب فيه. وتعجبت سيدة العوامة. وأخبرت قريبها الدكتور زكى سويدان بحكاية هذا المطرب الذى يملأ الإذاعة بأغنية «على قد الشوق اللى فى عيونى يا جميل سلم» وسمع عبدالحليم همسها: «أخاف أن يأخذ هذه الأشياء ليصنع لى سحرا؟» وبين الغرق فى الخجل والرغبة فى الجرى من العوامة كان يعانى من الحصار واصفرار الوجه. وأنقذه من كل تلك الدوامة د. زكى سويدان الذى صحبه إلى غرفة جانبية وسأله: إيه حكاية الكوباية والشوكة والسكينة والمعلقة اللى أنت عايز تأخدهم معاك؟ وانفجر عبدالحليم فى البكاء؛ سرقته مخاوفه من الاتهام الظالم الذى وجهه له الخادم؛ فهو لم يطلب سوى أن يأخذ كوب الماء ليكسره، خوفا من أن ينقل المرض المتوهم لأحد، ولم يكن يعلم أن الخدم يسرقون السادة بأى أسلوب؛ حتى ولو باتهام الآخرين زورا. كان غارقا فى الخوف على نفسه من السل، وكان يعلم من هو د. زكى سويدان فى الطب؛ لذلك حكى للطبيب الكبير عن مخاوفه من الإصابة بالسل. وسأله د. زكى سويدان عن الكثير من عاداته ومتى راقب خيوط الدم تلك وهل هى تخرج مع السعال أم تخرج من ترجيع الطعام؛ فأخبره عبدالحليم أنها خرجت الآن ولأول مرة مع ترجيع الطعام. وقال د. زكى سويدان: هل كان عندك بلهارسيا؟ أجاب عبد الحليم: «نعم».
وهكذا التقط زكى سويدان أول خيوط مرض عبد الحليم. وطمأنه أنه ليس مريضا بالسل، ولكن عنده قدرا من المتاعب فى المعدة. وأراد زكى سويدان أن يخفف عنه فقال له مبتسما: بس يعنى أنت حاتطلب من كل بيت تدخله شوكة ومعلقة وسكينة وطبق؟ ده الناس حايقولوا إنه عايز يكون طقم بيته على حساب الزيارات. وقال عبدالحليم إنه لم يطلب من الخادم سوى أن يأخذ كوب الماء. فقال له د. زكى سويدان: أنت عارف إن البيوت الكبيرة أكواب الماء فيها من الكريستال. وكمان الشوك والمعالق من الفضة، يظهر إنك قررت تبقى غنى عن طريق الشوك والملاعق والسكاكين. وأخذها عبدالحليم كنكتة. فهو الحريص دائما على ألا يأكل فى أى بيت إلا بعد أن يعزموا عليه بشدة، فهو يخاف دائما أن يكون ثقيلا على الناس، أو أن يكون وجوده فى المكان غير مرغوب فيه. ويشعر أنه يقاوم تلك المشاعر بالاعتذار عن كل شىء، يعتذر لأمه «بهانة» التى لم يرها، بسبب أنها ماتت بعد ولادته مباشرة. ويعتذر لكل من عاش معهم لأنه سبب المتاعب كلها، وهو لا ينسى أنه كسر كوبا ذات مرة فى بيت خاله بالزقازيق، وعاتبته زوجة خاله فبكى بعنف؛ لأنه لا يملك أن يعوضها عن ثمن الكوب؛ فهو وشقيقته علية بدون بيت. وكان كثير الشجار مع خيال أمه فى الخيال، وكان يتخيل أنها ضحكت عليهم وأنها لم تمت، لكنها اختفت من فرط قسوة الحياة على الفقراء. وفى كل مرة - أثناء الطفولة - كان يقول مثل هذا الكلام لشقيقته علية فتستقبل علية كلماته بالدموع ثم قراءة القرآن ترحما على الأم، وقال نفس الكلام مرة لإسماعيل شقيقه الكبير؛ فكاد أن يضربه؛ فإسماعيل ليس عنده وقت لمثل هذا الكلام؛ فهو يريد أن ينقذ نفسه وينقذ الأسرة كلها من حالة الفقر الشديدة. وكان عبدالحليم يعانى من إحساس أنه شخص غير مرغوب فيه، رغم أنهم قالوا له إن عليه «هالة القبول» التى يمنحها الله لليتامى.
اطمأن لحظتها عبدالحليم قليلا بعد كلام د. زكى سويدان الذى أكد له أنه غير مريض بالسل، ولم يغن عند السيدة التى دعتهم فى عوامتها؛ نتيجة الإرهاق النفسى؛ ولم يأكل طبعا من الفتة التى بالخل والثوم.دق التليفون ونحن نجلس على مائدة الإطار الرمضانى، وكان صوت عبدالوهاب على الطرف الآخر. ومن أمتع مشاهد الحياة أن ترى العلاقة بين محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ؛ تلك العلاقة التى تتميز بحرص كل منهما من الآخر وحرصه على الآخر فى نفس الوقت. والذى رسم هذا الحرص هو أن محمد عبدالوهاب عاش لفترة من الزمن وهو على عرش الغناء والتلحين، ولم يفلت أحد من قبضته إلا من حلق بعيدا عنه. وكان عبدالحليم هو أول من يقترب من دائرة محمد عبدالوهاب، ويفلت فى نفس الوقت من سيطرة عبدالوهاب، كان قادرا على أن يعامله معاملة الند للند؛ مع الاحتفاظ له بكل الاحترام، يحرص كل منهما على الآخر؛ ويحرص كل منهما من الآخر.
وكان عبدالحليم قلقا من تصوير فيلم «لحن الوفاء». فحين عرض عليه إبراهيم عمارة المخرج المشهور فى ذلك الوقت أن يمثل فيلما؛ حاول أن يعتذر، فهو يعلم أن يومه العادى غير محكوم بأى قاعدة؛ والسينما قد تحكمه لأيام ولشهور. وكل ما يعرفه عن السينما أنه مشاهد يقف فى طابور من يقطعون التذاكر ليحجز لنفسه مقعدا، ولم يتخيل نفسه أبدا واحدا ممن يتحركون على الشاشة البيضاء؛ حتى حين دخل ذات صباح إلى معهد الموسيقى ووجد الكل يقولون له: الأستاذ عبدالوهاب طلبك فى التليفون بعد أول حفلة له؛ وحتى حين طلب منه عبد الوهاب أن يوقع عقدا معه لتمثيل فيلمين، كان يعلم أن محمد عبدالوهاب مجرد لاعب كبير فى دنيا الفنون؛ وأنه لن يسمح له بالوقوف أمام كاميرا السينما.
فقد احترف عبد الوهاب اعتقال أى مطرب جديد، ويهوى تحويل أى مطرب شاب إلى دمية يرفعها حين يشاء ويهبط بها أيضا حين يشاء. التحذير من محمد عبدالوهاب جاءه أول ما جاءه من إحسان عبدالقدوس؛ هذا القلب الذى ينفتح للأجيال الشابة ويدافع عن حريتها، قال لعبدالحليم بعد أن سمع لحن «على قد الشوق»: لابد أن يكون لك طريق مختلف عن عبدالوهاب، إنه يحول المطربين إلى أطفال فى مملكته. وليس هناك من هو قادر على تمييز ما يقوله عبدالوهاب؛ فقد ينزلق المطرب الشاب تحت وهج إعجاب عبدالوهاب به، ولا يعرف كيف يفك نفسه من الخيوط التى يضعها هذا الذكاء المتوقد الحريص على أن يظل فى القمة. تمسك يا عبدالحليم بجيلك؛ بمحمد الموجى؛ وكمال الطويل، وأنت. وإلا فلن يتطور الغناء. وكان إحسان عبدالقدوس قد كشف عن مرض خطير هو دهس الأجيال التى تقف على القمة للأجيال التى تنمو بدعوى عدم التسرع وعدم اللهوجة؛ وأن الطريق طويل وشاق. وكان عبدالحليم يصبر كثيرا حين يقول له أحد مثل هذا الكلام المحفوظ، ولكنه كجيل جديد كان يواجه السؤال الذى ينساه من يتربعون على القمة، السؤال هو: فى ماذا يفكر الجمهور؟ وماذا يطلب؟ وكان طلب إبراهيم عمارة المخرج غريبا، لقد نجحت أغنية «على قد شوق اللى فى عيونى يا جميل سلم» ويريد أن ينتج فيلما ويخرجه؛ وتكون هذه الأغنية هى إحدى أغانى الفيلم. لم يكن كمال الطويل وهو يغازل فتاة جميلة على شاطئ سيدى بشر يظن أن الكلمة التى قالها عفو الخاطر يمكن أن تصبح مقدمة أغنية؛ ولكن عبدالحليم قال «هذا مطلع أغنية جميلة». وطلب من مؤلف الأغانى محمد على أحمد أن يكتبها؛ ولحنها كمال الطويل بسرعة. هل يصدق أحد أن أغنية يمكن أن تقود إلى فيلم؟ قد لا يصدق أحد ذلك كما لا يصدق أن زرارا يمكن أن يكون سببا فى تفصيل بدلة، ولكن الخطورة أيضا أن المواجهة ستحدث بين عبدالوهاب وبين عبدالحليم بسبب هذا الفيلم «لحن الوفاء» الذى تعاقد عليه عبدالحليم مع إبراهيم عمارة، وأصر يومها مجدى العمروسى رفيق رحلة العمر ألا يوجد شرط جزائى إن رفض عبد الحليم التمثيل. أصر مجدى العمروسى على ذلك حتى يضمن لعبدالحليم قراره فى أن يمثل أو لا يمثل. ووافق إبراهيم عمارة على ألا يوجد شرط جزائى فى حالة رفض عبد الحليم للتمثيل.
وكان مساء اليوم الذى ذهب فيه عبد الحليم إلى العوامة هو يوم اختبار الكاميرا. وانسحب عبدالحليم ورائحة الفتة والثوم تملأ أنفه؛ لكنه لم يأكل خوفا على معدته. وعاد إلى بيته فى المنيل، وطلب من علية ألا توقظه أبدا إلا فى الثامنة مساء. ودخل لينام. ولم يكن هناك تليفون بالشقة الجديدة، لكن جميع أصدقاء عبدالحليم كانوا يعرفون رقم تليفون الجيران، ورقم تليفون البقال. وكان عبدالحليم يرجو البقال أن يكتب فقط رقم تليفون من يطلبه؛ وهو سيرد المكالمة حين تتاح له الفرصة، وكذلك الحال مع الجيران. وكان من مصلحة البقال أن يقف عنده عبدالحليم حافظ المطرب المشهور ليجرى المكالمات التليفونية، وكان الجيران يحبون أن يوجد عبدالحليم بينهم؛ ليرد على أى مكالمة تأتيه.
دخل عبدالحليم لينام؛ لكن صبى البقال ومعه الجارة دقا الباب؛ وصوت كل منهما يقول أن الأستاذ محمد عبدالوهاب طلب أن يكلمه عبدالحليم. وكان اسم عبدالوهاب هو اسم كائن مسحور عند الناس العاديين. وعلية تعرف جيدا أن عبدالحليم فى طفولته بالزقازيق تسلق يوما فوق شجرة ليسمع عبدالوهاب الذى كان يغنى فى سرادق أقيم فيه حفل زفاف وكان عبدالوهاب هو من يحيى الحفل. ووقع عبدالحليم ووضعوا ساقه فى الجبس لمدة ستين يوما، كل هذا تعرفه علية شبانة؛ فهل توقظ عبدالحليم من نومه؟ ترددت للحظة؛ ثم هداها قلبها إلى أن نوم عبدالحليم مهم بالنسبة له؛ فهو دائما خفيف النوم، ودائما يحتاج إلى الراحة، وليكن من يطلبه من يكون؛ فلن توقظه إلا بعد أن يشبع من النوم. ولم تكن علية تعلم خبر خروج خيوط الدم من فم عبدالحليم، ولكنها كانت تعلم أنه مرهق.
وحين قام من النوم ألقت إليه خبر التليفون الذى جاءه من محمد عبدالوهاب، فتلقى الخبر بهدوء. وارتدى ملابسه على مهل. وقرر ألا يتوقف عند البقال؛ رغم أنه سمع من خلفه «يا أستاذ عبدالحليم .. الأستاذ عبد الوهاب عايزك». سار عبدالحليم وكأنه لا يسمع شيئا؛ فقد أحس أن محمد عبدالوهاب قد علم بخبر الفيلم الجديد؛ وأنه سيحاول تعطيل التصوير، وسيبرز العقد المسبق بينه وبين عبدالحليم؛ هذا العقد الذى لم ينفذ. وكان عبدالحليم يعلم أنه لن ينفذ إلا إذا ضمن محمد عبدالوهاب أنه سيكسب منه أضعاف أضعاف ما يتخيل. تذكر عبدالحليم الكلمة التى لا يمل الشاعر صلاح عبدالصبور من تكرارها، من مسرحية «سيد البنائين» لهنريك أبسن، صلاح لا يمل من قول ما يجب أن يقوله كل جيل قديم «سيأتى لى يوما من يطرق بابى ليقول لى افسح لى الطريق أنا الجيل الجديد. لماذا يحاول محمد عبدالوهاب أن يسيطر على طريق الجيل الجديد؟»
لا يدرى عبدالحليم ما الذى جعله يتجه إلى معهد الموسيقى قبل أن يذهب إلى الاستوديو لإجراء اختبار التصوير؛ لايدرى ما الذى جاء فى خياله مشهد عبدالوهاب وهو يخرج من جيبه قدرا من الجنيهات ليعطيه إياها، فرفضها عبدالحليم، كان عبدالحليم حين أراد زيارة عبدالوهاب أن يتأكد من وجود اثنين من البشر، أحدهما اسمه محمد عبدالوهاب، والثانى اسمه عبدالحليم، وقد رفض عبدالحليم أن يذيبه المعلم صديق صاحب كازينو لونابارك بالإسكندرية فى شخصية أخرى اسمها عبدالوهاب، وحين خرج عبد الحليم مهزوما من معركة المعلم صديق؛ بعد أن رفض أن يغنى أغانى عبدالوهاب للجمهور الفاقد القدرة على الاستماع؛ حين ذاك قرر أن يزور عبدالوهاب. لا يدرى أيضا لماذا ذهب بنفسه إلى عقر دار عبدالوهاب يومها؛ هل أراد أن يقول له: أنا الذى رفضت أن أقلدك؛ وأطلب منك أن تسمع صوتى وأنا أغنى أغنياتى الخاصة؟ ولماذا أراد محمد عبدالوهاب أن يحصر المواجهة بين جيلين فى تبرع مادى؛ ظن أن عبدالحليم فى حاجة إليه. ثم لماذا طلبه عبدالوهاب فور نجاحه فى امتحان القبول بالإذاعة؛ وذهب عبدالحليم إليه فى مكتبه بشارع توفيق، ومعه محمد الموجى؛ فقال له عبد الوهاب: إيه رأيك تمثل فى السينما؟ وطالبه أن يتمشى أمامه ليرى هل يصلح للتمثيل أم لا؟ جيل يعصر جيلا؛ لكن الجيل الجديد كما يقول صلاح عبدالصبور سيتقدم وسيدق الباب. ضحك لنفسه وهو يقول: «السل الذى خفت منه فى الصباح هو أن تستسلم لما يطلبه منك الجيل القديم؛ ستضمر وتنزوى فى التقليد؛ ثم يعزلك الجمهور بعيدا عن أحاسيسه».
ووجد أمامه فى معهد الموسيقى العربية الراقصة «ميمى فؤاد» التى أرادت أن ترقص أمامه لتحوله هى الأخرى إلى مجرد مقلد لمن سبقوه. فباسم الحب يمكن أن يذوب منه ما يسعى إليه. وباسم التضحية العاطفية قد يتنازل عن حلمه الشخصى فى أن يكون عبدالحليم حافظ. وهى التى تركته لأقرب تجربة مع محمد الموجى الملحن والصديق، تزوجها الموجى الذى لا يستطيع مقاومة أى تجربة مع المرأة ويصر على أن يحدث الزواج ليكون كل شىء فى الحلال. واستمر الزواج لمدة أسبوعين؛ ثم كان الطلاق. ولكن من قال أن الحب فى قلب هذه الراقصة لم يكن حقيقيا؟ لقد أعلن لها أنه ذاهب لإجراء أول تجربة له أمام الكاميرا؛ فقالت: «ياحليم وأنت واقف قدام الكاميرا قول بسم الله الرحمن الرحيم.. أعوذ بالله من أى غرور أو أى شر وأنا عارفة إنك ذكى خالص، وزى ما بتسيطر على الجمهور فى أى حفلة حا تسيطر على الكاميرا. ما تخافش من الكاميرا، لأنك تقدر تسيطر على التصوير وتفضل تعيده لحد ما ترضى».هل ما قالته هذه الراقصة هو الحب أم اعتذار عما فعلته مع محمد الموجى أم حرص على مستقبله؟ هو لا يعلم، لكنه سيشقول أمام الكاميرا ما قالته له الراقصة، فالنجاح قد يأتى.
لحظة أن وصل إلى الاستوديو؛ بدأ اختبار التصوير على الفور. كان عبدالحليم يرغب فى أن يكون الأمر اختبارا لنفسه أولا وأن يتأكد أنه ليس مريضا بتقليد أحد؛ تماما كما تأكد من الدكتور زكى سويدان أنه ليس مصابا بالسل. أثناء التصوير تصرف عبد الحليم بتلقائية. الدنيا كلها ليست إلا ملجأ؛ فيه القاسى وفيه من يضع العصا فى الفانلة الداخلية لأى طفل فقير ليمزقها كما حدث معه من الشاويش الذى كان يشرف عليهم فى الملجأ. ولأنه لم يكن يهتم بأى قسوة، ولأنه كان عنيدا؛ لذلك لم يرهب الكاميرا. وتم تحميض الفيلم بسرعة. وأراد المخرج والمصور أن يشاهدا معه تجربته، لكنه قال بحسم هادئ جدا: «لا، سأشاهد فيلم الاختبار بمفردى؛ فإن أعجبنى سأدعوكم إلى أن تشاهدوه معى. وإن لم يعجبنى؛ لن أمثل فى السينما طوال حياتى» وشعر المخرج إبراهيم عمارة بالقلق. إن الزرار الذى يرغب فى أن يفصل له بدلة قد يهرب. إن أغنية «على قد الشوق» هى الزرار الذى يقوم إبراهيم عمارة بتفصيل بدلة اسمها «لحن الوفاء» كى يجذب الجمهور الكبير. ووافق إبراهيم عمارة على مضض، ولكنه قال للمونتير والمصور «سيبوه يعمل اللى هو عايزه.. دى أول تجربة له وهو حرّ» ودخل عبدالحليم صالة العرض الملحقة بالاستوديو بمفرده ودارت أمامه صورته على الشاشة. وكان فى رأسه سؤال واحد: هل يمكن أن يشعر من يشاهده أنه يشاهد نفسه؟ جاءت إلى رأسه صورة خالته زينب «عليك هالة القبول». كان يعلم أنه كان يدخل السينما؛ ومثل أغلب مشاهدى الأفلام قد يتوهم أنه مثل جارى كوبر يركب الحصان ويجرى به؛ ومثل تايرون باور الذى يبارز بالسيف؛ وأن يهزم كل عشاق سوزان هيوارد، وأن تقع فى غرامه ريتا هيوارث، هل يمكن أن يتخيل من يراه فى السينما أنه هو الحبيب المصدوم، والذى يحفر فى صخر الأيام؟ وأجاب نفسه: نعم قد يتخيل أى شاب أنه أنا الذى يتحرك وسط الظروف الصعبة، نحن جميعا ندخل السينما من أجل أن يخرج الأمل لنا من قلب السواد الذى نعيشه.
ودعا عبد الحليم المخرج والمصور ليشاهدا معه فيلم التجربة الأولى. وقال كل واحد منهما: مبروك، وعلى بركة الله. وتذكر عبدالحليم اليوم الذى أمسك فيه بمزمار العزف فى مولد سيدى شبانة بالحلوات؛ وانطلق المزمار بالموسيقى لترقص الخيل على تلك الأنغام، كان هناك حصان من الزهو يرقص فى قلب عبدالحليم.. ولحظتها قال لمجدى العمروسى الذى كان حاضرا معه كأنه عين الضمير: سنقابل الأستاذ محمد عبدالوهاب غدا؛ لأنه فيما يبدو قد نسى أن ميعاد عقده معى لفيلمين قد انتهى منذ ستة شهور.. وابتسم مجدى، لأنه يعلم أن عبدالحليم سبق له أن غير كل شروط عبد الوهاب فى ذلك العقد، ويعلم أن عبدالوهاب لن يترك للضياع ذلك المبلغ الذى دفعه تحت حساب تصوير الفيلمين لعبدالحليم . وسيحاول أن يجعل عبدالحليم يقف أمام الكاميرا بنفس الأجر القديم. ويثق أن ذكاء عبدالحليم سيسمح له أن يحول عقود عبدالوهاب إلى درجات فى سلم بناء مجده كمطرب كبير.وفوجئ من حضروا التصوير التجريبى أن عبدالحليم يقول لهم إنه ذاهب إلى شارع محمد على أو سيدنا الحسين ليأكل هناك فتة بالخل والثوم والكوارع.