تحدثنا فى العدد الماضى عن استمرارية بناء مدافن فى دهشور فوق المنطقه الأثرية، وكانت المفاجأة أن عدد سكان منشية دهشور لا يوازى كل هذه المدافن التى تعدت مساحة 21 فدانا!! وهو ما جعلنا نتساءل: هل سيتكرر شبح القرنة مع مدافن دهشور؟ وهل ستكون هذه المدافن بابا لتفريغ دهشور من آثارها؟ توجهنا بهذا السؤال لمجموعة من الأثريين والكتاب لمعرفة رأيهم فى هذه القضية الخطيرة، فجاءت تصريحاتهم بنبرة يكسوها اليأس من تكرار محاولاتهم لإنقاذها دون جدوى حتى أن أحدهم قال: أعتقد أن الآثار ستسمعنا قبل المسئولين!! القرنة هى منطقة بغرب طيبة بها جبل يسمى «قرنة مرعى»، وجبل آخر يسمى الشيخ «عبد القرنة» وغيرهما، وبهذه الجبال توجد مئات المقابر الفرعونية المحفورة بداخلها والتى خصصت للأشراف والنبلاء ورجال الدولة من العصر الفرعونى، وفى منتصف الخمسينيات بنى أهل القرنة بيوتا لهم فى هذه الجبال وسط المقابر الفرعونية، وبصعوبة بالغة ومنذ سنوات قليلة استطاع سمير فرج محافظ الأقصر السابق إزالة هذه البيوت ونقل الأهالى لقرية القرنة الجديدة بمنطقة الطارف التى بناها لهم داخل البر الغربى لكن خارج المنطقة الأثرية بحوالى 3 كم.
ويبدو أن الظروف الحالية التى تمر بها البلاد فرضت حالة من الكآبة على كل من يهتم بالشأن العام فى البلاد فقد لمست درجة عالية من الغضب والتشاؤم، وأنا أتحدث مع أثريين وكتاب حول مايحدث لآثارنا، ومن أكثر الذين أبدوا غضبهم أ.د. فايزة هيكل أستاذ الآثار المصرية بجامعة القاهرة والجامعة الأمريكية ونقيب الأثريين التى بدأت حديثها بجملة «مش عارفة أقول إيه من كتر ما يئست، الواحد فاض بيه خلاص» رغم دورها الإيجابى الذى تمثل فى لقائها بوزير الثقافة، وأضافت: تواصلت معه عن طريق سكرتارية مكتبه واجتمعنا به فى مؤتمر كنا أقمناه فى منتصف الشهر الماضى لحل أزمة مدافن دهشور وتدمير آثارها، وفيه قمنا باستطلاع رأيه فى هذه التجاوزات من قبل أهالى دهشور وتحدث الوزير مشكوراً عن الحلول التى توصل لها بشكل ودى مع الأهالى وعن تفعيل قرار الإزالة وعن خطواته القادمة لإنهاء الأزمة ولم يتحدث عن أن التعديات أو التجاوزات مازالت مستمرة!!
وعبرت د.فايزة عن حزنها الشديد جدا لما يفعله أهل مصر بآثارها وعن الخسارة الفادحة التى ستحدث إذا لم نحافظ عليها قائلة: إن مدافن دهشور من المحتمل أن تكون قرنة جديدة «وأن مصر بلد غير متقدمة ومافيهاش غير شوية آثار لو دمروا لن يبقى لها شىء» ، وللأسف أن الحكومة لا تعى فائدة الآثار لمصر جيدا سواء اقتصاديا أو اجتماعيا أو حضاريا، حتى أن احترام الشعوب الأخرى لنا بسبب الآثار وغيرها لا نملك شيئا وقلنا هذا الكلام للحكومة مرارا ولكن دون فائدة. فكل مجهوداتنا لم تتوصل لشىء، وهذا كل ما نملك فلن نستطيع مثلا الذهاب لأهل دهشور ونحن مدنيون ولسنا مسلحين، والحل الوحيد عند الشرطة فهى من لديها آليات الحماية والتنفيذ، وطالما أن هناك غياباً أمنياً عاماً فلماذا ستكون الآثار هى المحمية والدولة كلها أساسا فى ضياع.
وعن دورها فى الفترة القادمة قالت: كل ما أستطيع فعله الآن هو محاولة الوصول إلى الوزير مرة ثانية لتذكيره بوعوده بحل هذه الأزمة، وسوف أتحدث إلى مديرة مكتبه كالمرة الأولى وإن لم يعاود هو الاتصال بى فلن أستطيع الوصول له.
ومن جانبه قال أ.د عبد الغفار شديد أستاذ تاريخ الفن المصرى القديم ومؤسس قسم تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة جامعة حلوان: ما نعيشه الآن بشكل عام تخلف حضارى وفوضى بامتياز، ومدافن دهشور ليست قرنة جديدة فحسب بل إنها أصعب كثيرا، لأن بيوت القرنة لم يكن بها ملكية خاصة أما مدافن دهشور فبها وضع يد و«حرمة موتى»، وبناء المدافن بداية لا نهاية لها، لذلك سيظل البناء فى استمرار إذا لم تتدخل الدولة حالاً بإزالة هذه التعديات وتخصيص أرض بديلة لهم لدفن موتاهم فيها بشكل قانونى بدلا من بنائهم فوق هذه الأرض البكر التى لم يتم الكشف عن آثارها بعد.. وأكمل متعجباً أن رد وزارة الآثار غير واضح بالمرة ولا يناسب حجم هذه الكارثة، فهذه الحضارة ليست ملكا لمجتمع بعينه أو فترة بعينها، بل هى ملك لكل البشرية وملك لكل الأجيال السابقة واللاحقة.. فهذا تاريخ.. وهذه الآثار هى دليلنا الوحيد والمرايا التى تعكس لنا حضارة السبعة آلاف سنة وإذا فقدناها فقدنا معها تاريخنا، وإذا فقدنا أى حلقة منه فلن نستطيع كتابته.
أستاذ الآثار أ.د.عبد الحليم نور الدين رئيس اتحاد الأثريين المصريين قال: التجاوزات الآن على الآثار كثيرة وتبريرات المسئولين مستفزة، وبالطبع مدافن دهشور هى نفس قضية القرنة ولا يوجد حل لها إلا الحسم الشديد فى الإزالة، ووزير الآثار د.محمد إبراهيم تلميذى وابن لى، ولا أعرف هل هو قادر على تقييم الأمور ووقف هذه التعديات؟! ولكن دورنا كأثريين هو التوعية، وفى بداية أزمة دهشور أصدرت بيانا على الصفحة الإلكترونية لاتحاد الأثريين المصريين وقدمت بها اقتراحات لحل الأزمة وأهمها المتابعة وهو ما تفتقده وزارة الآثار فلا يوجد لدينا مسئول ينزل إلى موقع أو وزير يجتمع بعشرة من أهم الأثريين لبحث مثل هذه الأزمات أو لتطوير العمل بدلا من اللجنة الدائمة التى تبحث مثل هذه الأمور بوزارة الآثار والتى لا تضم إلا مجموعة من الموظفين.
وأكد «نور الدين» أن هذا الإهمال ليس فى دهشور فقط بل إن كثيراً من الجبانات الأثرية مهملة جدا، لذلك نطالب الدولة أن تتعاون معنا وألا تتجاهل 11 مليون مصرى يكسب رزقه من السياحة.
أما أستاذ الآثار بجامعة القاهرة أ.د.على رضوان فرغم أنه شخصية مرموقة فى الآثار لدرجة أنه ملقب «بشيخ الأثريين» إلا أننى لم أخرج منه بشىء وكأن ما يحدث لا يستحق منه تصريحاً بسيطاً، فكنت أنتظر منه ثورة شخصية يعبر فيها عن أسفه لما يحدث لآثارنا ولو فى بضع كلمات.
بينما لا يرى دكتور الآثار بجامعة القاهرة د.أحمد سعيد حلا لهذا التعدى السافر إلا باللجوء إلى منظمة اليونسكو للتدخل الشرعى لحماية آثارنا بعد مساهمته فى عده مؤتمرات وإقامته لحملات على المواقع الإلكترونية لكن دون جدوى موضحا أن ما يحدث جرم عالمى وأنه يوجد قانون دولى يجرم هذا التعدى حتى فى حالة الحروب الدولية أو الأهلية، فلا يجب الاقتراب من الآثار!! وأن الأمر فى دهشور أصعب كثيرا من القرنة فالبيوت سهل إزالتها، أما المدافن فلها حرمة موتى، لكن هذا لا يمنع ضرورة إزالتها أو على أضعف الإيمان وقف البناء.
وعن خطواته القادمة قال:سوف نقيم مؤتمرا نخرج فيه ببيان به نداء عاجل بثلاث لغات إلى منظمة اليونسكو، والأليسكو وهى المنظمة العربية الإسلامية، والأسيسكو وهى منظمة العلوم العربية لوقف هذا التعدى، فاليونسكو لها دور بارز وتجارب إيجابية سابقة فى حماية آثارنا وهذا دورها فبيننا معاهدات دولية تحتم عليها حماية آثارنا، ولن نستعين فى هذا المؤتمر بأى جبهات أو أحزاب فنحن لا نريد «تسييسه»، فقط نحن مجموعة أثريين نريد الحل والحفاظ على ثرواتنا.
وبجانب رأى الأثريين ولأن قضية الآثار هى قضية رأى عام بدأ الأستاذ صلاح عيسى الكاتب والصحفى كلامه بنفس الحيرة التى تملكت الآخرين قائلا: مش عارف أقول حاجة!!.. من الواضح أن الأوضاع المقلقة الموجودة فى مصر الآن تعطى لبعض السلطات وبعض المسئولين الفرصة للتهرب من القيام بواجباتهم، وبالتالى تتيح الفرصة للمتجاوزين، فقد سبق أن صرح وزير الآثار بحل هذه الأزمة وأن هذا التجاوز سيتم إزالته لكن هذا التوسع والاستمرار فى البناء لا يمكن تفسيره لأننا أمام دولة غائبة أو متواطئة، وطبعا من المفهوم أن إزالة هذه الإشغالات كانت تتطلب تدخلاً قوياً من الشرطة لحماية الأرض والحيلولة دون البناء فيها من جديد، وكان يتطلب أيضاً من الإدارة أن تبحث عن مكان بديل لأهالى المنطقة لإبطال حجتهم فى حاجتهم لبناء مدافن جديدة إذا كانت هناك حاجة حقيقية لهم فى ذلك!!
ولكن هذا الإهمال يوحى باحتمالات أن يكون هناك تواطئ وراء هذه العملية التى تريد أن تستولى على أراضى الدولة الأثرية لتبنى فوقها مدافن لتتخذ منها مواقع للحفر عن الآثار وهذه جريمة منتشرة الآن فى كثير من المناطق، فمن الواضح أننا الآن أمام عمليات منظمة لسرقة الآثار وربما يكون هذا متعمداً لطمس هذه الأراضى الأثرية وعدم الكشف عن آثارها باعتبارها مجرد «أصنام»!!
ولا يوجد شك فى أن مدافن دهشور هذه قرنة جديدة بل هى أصعب منها لأنها محمية من أهلها بحجة «حرمة الموتى» وسيصعب هذا أى محاولات بعد ذلك لاتخاذ القرار الصحيح، لذلك لا مفر أمامنا إلا بتدخل القوات المسلحة لحماية الآثار ضمن ما تحمى من المؤسسات العامة لأن الآثار هى الثروة الحقيقة لمصر، فهى ليست تراثاً حضارياً فقط وإنما استثمار سياحى له مكانته وتأثيره، وفى النهاية دور الإعلام هو التصعيد لتنكشف هذه الغمة.