هل رأيت يوما تفاحة ناضجة جميلة داخل زجاجة رفيعة العنق؟ في الدول الأوروبية التي ينتجون التفاح فيها بكثرة يقومون بعمل هذه الحيلة اللطيفة حتي يروجوا تفاحهم.. وتتلخص الحيلة في أنهم يقومون بوضع برعم التفاحة الصغيرة جدا الموجود علي شجرته داخل الزجاجة بسهولة لأنه صغير.. ثم يكبر التفاح مستمتعا كغيره من التفاحات التي خارج الزجاجة بالشمس والغذاء والماء.. وبعد نضوجه يقطع الغصن كغيره من التفاح أيضا.. ولكن الفرق هو أن الذي يشتري التفاحة الحرة يأكلها بسهولة.. أما من يقتني تفاحة الزجاجة فقد يتركها بداخلها حتي تتعفن ويلقي بكليهما أو يكسر الزجاجة حتي يأكل التفاحة.. وعندئذ قد يجد طعمها سيئا لأنها لم تتعرض للهواء.. ومهما بدا شكلها جميلا فداخلها مرارة.. بالأمس طالت المقارنة بين الانتحاري الذي فجر نفسه وضحاياه الذين فجرهم حتي لم تتسع مساحة هذا المقال لإجابة الأسئلة التي دائما ما نطرحها حول الانتحاريين.. ولكن كان من الضروري أن نؤكد علي الشبه الكبير بين الانتحاريين وضحاياهم قبل أن نفحص لماذا يظهر فيهم هذا الاختلاف المنافي للطبيعة الإنسانية كاختلاف تفاحة الزجاجة عن زميلاتها من التفاحات الأخريات.. والسبب واضح فقد تم عزل هؤلاء الناس عن مجتمعهم فكريا وتقييد حريتهم النفسية قبل الجسدية.. وكما يظهر التفاح كله علي الشجرة ويتمتع بغذائها، يتشارك هؤلاء معنا الوطن ويأكلون خيره ويشربون ماءه.. ولكنهم محبوسون داخل أفكار بالية عقيمة تمررهم من الداخل وتقتل حلاوتهم علي عكس من حولهم.. وكما أنه من السهل أن تضع البرعم الصغير داخل الفوهة الضيقة للزجاجة، من السهل أيضا أن تسجن عقول الصغار قبل أن تتشكل وتأخذ حجمها ولا يمكن حبسها.. هم يبدأون بالصغار الذين لم ينجح التعليم والإعلام والثقافة العامة في استمالة أفكارهم.. الذين يميلون إلي العزلة ولا ينخرطون مع الآخرين ولا يشعرون بأنهم محبوسون بينما رفقاؤهم أحرار.. الذين لم يكتشف أحد موهبتهم ولم تراع أسرهم مشاعرهم.. الذين لم ينتبه لهم المجتمع فسرقوا منه.. لماذا ينتحرون؟ لأنهم أموات حتي وهم في شكل الأحياء.. هم تفاح ميت داخل الزجاجة.. وكل ما يحدث هو انفجار الزجاجة فتنكسر وتتشظي وتجرح هذا وذاك وتدخل شظاياها في التفاحة الميتة وتنجم عنها المأساة.. ينتحرون لأنهم لا أمل لهم في الحياة لذا فمن السهل إقناعهم بالموت إذ ربما يرون حياة أفضل بعده.. ينتحرون لأنهم فقدوا كل المشاعر الإنسانية حتي تجاه أسرهم التي ستحزن عليهم وهم لا يهتمون.. ينتحرون لأنهم قد فقدوا إنسانيتهم تجاه أنفسهم فكيف بهم يهتمون لإنسان آخر أو عشرة أو مائة إنسان سيموتون معهم.. يميل كثيرون لإرجاع السبب للقناعة الدينية الخاطئة بأن هذا يعد استشهادا.. ربما يقنع الانتحاريون أنفسهم بهذا ولكن الأرضية الحقيقية التي تبني عليها تلك القناعة الدموية هي اليأس من الحياة والانعزال التام حتي عن أقرب المقربين.. هذه هي البداية التي يتم علي أساسها اختيار الانتحاريين.. هلا حرسنا شجرة التفاح ومنعنا التجار من التقدم نحوها بزجاجاتهم الخانقة؟!