في الإجازة الصيفية، اشتغلت عند الأسطي عزيز «الأيمجي» بعد تنقلات عديدة من الأسطي إمام بحارة نعيم إلي الأسطي سيد غراب علي تخوم حارة معري إلي الأسطي هدية علي شارع «البندر». كثرة التنقل دعت أمي إلي الزعم أن لا مؤخرة لدي، حيث لا أثبت في مكان كما أنني لا أستطيع الجلوس علي كرسي دون أن أجلس معوجاً، كان دكان الأسطي عزيز إلي جوار مقهي «القلا» في الصف المواجه للأسطي هدية. كان شاباً في أواخر العشرينيات طويلاًً ممتلئ الجسم دون ترهل، شعره الأسود الطويل مسدل إلي آخر القفا كتسريحة الخنافس، كان نجم شارع «البندر» العائد من لبنان، بلد ملكات الجمال بالمايوهات البكيني، جورجينا رزق، والتفاح اللبناني. كانت تأتي لأمي هدايا من أمهات العائدين من لبنان، تفاحة أوتفاحتين. كانت تقسم التفاحة بالسكين إلي ست شرائح طولية توزع عليّ وإخوتي. كان ذلك حدثاً نادراً، غير أن للتفاح اللبناني طعماً لا ينسي بخلاف تفاحنا الأخضر الذي يدور به البائع وقد صنع منه «خد الجميل» بأن ألصق بالتفاحة قطعة حلوي حمراء، وثبتها علي عصا رفيعة من جريد النخل. قبل أن أنهي امتحانات الصف الأول الثانوي كنت أعلم أنني سأذهب إلي الأسطي عزيز. لم أفاجأ في اليوم الأول حين عرفت أن للعمل مواعيد ثابتة تنتهي في السادسة مساء، وساعة راحة للغداء، خلافاً للمواعيد الغامضة لكل من عملت معهم. كان الأسطي عزيز يفتح الراديو دائما علي إذاعة إسرائيل حيث تذيع أعاني لبنانية لسميرة توفيق وفيروز كنت لا استطيع تمييز كلمات الأغاني وسط دق المدقات غير أن الأسطي كان يدندن مع الاغاني بانسجام. بعد تردد سألته: جيت ليه من لبنان ياسطي ؟ قال: الحرب بدأت ولا يعلم أحد متي ستنتهي قال: إن أي واحد ماشي في الشارع ممكن «يأوصوه» دون سبب. قلت: يأوصوه يعني إيه؟ ابتسم وقال: يعني يقتلوه. قال: إنه سافر بعد حرب النكسة. قال: شفت اللبنانيين بيضربوا نار علي السما، غضبانين إن عبد الناصر مات. مرت الإجازة الصيفية علي خير مستمتعاً بالعمل مع الأسطي عزيز وبالمواعيد الثابتة، وطريقة ضحكه حين يحدثني باللهجة اللبنانية، خاصة حين يذكر الشتائم بلهجة ممطوطة، لا تبدو أنها شتائم أوعراك بقدر ماتبدو هزاراً. عنده بدأت أفك بعض طلاسم لهجة الغناء اللبناني.. يامرسال المراسيل ع الضيعة القريبة، حبيبي بدو القمر والقمر بعيد، وصرت أتابع في أهرام يوم الجمعة أخبار الحرب الأهلية وصور الأحياء المدمرة تبرز منها أشلاء آدمية مطمورة تحت الأنقاض وأسمع في الأخبار أسماء الأحياء، الأشرفية، الفكاهاني، مخيم تل الزعتر، وكان أسطي عزيز في لحظة انبساط قد أخبرني تمهيداً للكشف عن سره أن كل ما رأيته من «أويما» حتي الآن هو مجرد شغل «بزاري» لاقيمة له، توقف هنيهة عن الدق بينما «الدفرة» في يد والمدقة في يد، قال: فقط الأخوين حسن وحسين لم يصل أحد لبراعتيهما، يمكنهما رسم ورقة شجر طائرة في الهواء ويقومان بتنفيذها علي الخشب، تري الورقة طائرة لاترتكز إلي شيء رغم ثبات الخشب قلت: إن هذا مستحيل. قال: إنه رأي المستحيل بعينه. لم أصدق أبداً، إذا كنا نحفر في الخشب فكيف يطير الخشب؟ علي أنني لم أعد أبداً للعمل عند الأسطي عزيز، فقد انتقل مركز الثقل في مهنة الموبيليا إلي القري المجاورة مع التوسع الكبير بتحويل الأراضي الزراعية إلي مبان وشوارع واتجاه الفلاحين إلي العمل في الموبيليا، أصبحت ورش الأطراف تعطي يوميات أعلي، كما أنني انتقلت إلي الجامعة، وكلما ذهبت إلي بيتنا في شارع «البندر» أري الاسطي عزيز منكباً علي البنك، ممسكاً الدفرة والمدقة، صامتاً لا ينظر لأحد. بعد وفاة أمي تنازلت عن حقي في البيت لأخي. لم أعد أذهب إلا نادراً إلي شارع «البندر»، غير أنني في إحدي المرات، وأنا عائد من القاهرة، ركنت سيارتي علي الكورنيش أمام مبني الاستعلامات. لمحت واحداً يشبه الأسطي عزيز، بدا نحيلاً وذاهلاً عما حوله ولم يبق من شعره الأسود الغزير غير خصلات بيضاء مسدلة كيفما اتفق علي القفا مددت يدي لأسلم عليه، أدار ظهره ومضي.