كنا أربع صديقات ذهبنا معاً منذ سنوات في رحلة خارج مصر. في الحقيقة أننا أصبحنا صديقات بعد هذه الرحلة وليس قبلها، بل إننا دهشنا كثيراً كيف يمكن أن تتقابل مجموعة نساء مثلنا في مرحلة من العمر فيحدث بينهن هذا النوع من «الكيمياء» كما يطلق علي الأصدقاء والأحباء الذين تفاهموا سريعاً. كانت واحدة منا تونسية وأخري فلسطينية واثنتان مصريتين، لكن جميعنا كنا من سكان القاهرة مدينة الألف جنسية.. بل إننا تساءلنا في لحظات كثيرة أثناء الرحلة كيف ولماذا لم نتقابل معاً من قبل داخل حدود القاهرة «لم تكن قد اتسعت بالشكل الذي تبدو عليه الآن» وكان الدافع لهذه التساؤلات هو حالة الانسجام الفكري والثقافي بيننا، وحيث تكونت صداقتنا ومحبتنا خطوة خطوة أثناء أيام وتفاصيل هذه الرحلة، وكأننا كنا نكتشف أنفسنا في نفس لحظات اكتشافنا للعالم الأوروبي، وأعتقد أن التفرقة هنا مهمة بين العالم، بمعني المجتمع في أوروبا عنه في أمريكا برغم أننا نضع الجميع في سلة واحدة نسميها الغرب. نعم، حدث هذا الاكتشاف لذواتنا بالاحتكاك بما يمثله هؤلاء الذين ذهبنا نلتقي بهم في ألمانيا، رجال ونساء، بنات وشبان، وأطفال، مصريين وعرب أصبحوا ألماناً، أو ألماناً أصليين. كانت الدعوة موجهة من جمعية أهلية ثقافية في بلدة اسمها «بيرويت» تسعي إلي تقوية الروابط بين فئات المجتمع الألماني المختلفة، وكان منسق العمل فيها رجلاً مصري الأصل، ألماني الحركة والإيقاع والجهد، شديد الولع بإحداث هذا النوع من التقارب بين مجتمعه الأول ومجتمعه الجديد، ولمدة قاربت علي الأسبوعين واجهنا معاً الكثير من اللقاءات والندوات والدعوات، وأيضاً رأينا من الأماكن والبيوت التي أحبت استضافتنا ما لم تره أي واحدة منا بمفردها أو ما لا يمكن رؤيته من خلال تلك الأسفار المحددة بحضور مؤتمر أو حدث ما. وبالنسبة لي فقد كان الأمر شديد الاختلاف بين تلك الرحلات هنا وهناك لحضور مهرجانات السينما وحيث يتحول المرء إلي كائن غريب الأطوار، مهمته الرمح بين دور العرض لرؤية الأفلام الأكثر أهمية، والعروض التي لن تتكرر، والأعمال التي لن تعرض في مصر، فقد كان زمناً مختلفاً عن ذلك الزمن الانفتاحي الآن وحيث تري من خلال كل الشاشات في منزلك. ومن خلال أجهزتك الخاصة كل ما تريده وأكثر، فإذا تعذر عليك فيلم ما ربما تجده عند «صديق» أو عند بائع الشرائط في أركان الشارع.. مع ذلك فلم يفقد هذا الانفتاح مهرجانات السينما الجيدة قيمتها، وإنما زادها قيمة في رأيي ولكن مقارنتها برحلات لها طابع ثقافي أو اشتباك بين حضارات ومجتمعات صعبة.. هذا ما خرجت به بعد ذلك بفترة، بعد عودتنا إلي مصر، وبعد أن فعلت الأيام ما تفعله مع كل الناس الذين يتقاربون في أوقات كهذه، وتربط بينهم أمور كثيرة، ثم يعودون. وبعد فترة يتحول التقارب والمحبة إلي ذكري، هل هي طبيعية الحياة ودخول كل فرد منا في عالمه المليء بالتفاصيل والمصالح والهواجس التي يغرق فيها فيسهو عمن كان يعتقد أنه لن يسهو عنه أبداً.. أم أن الأمر يحتاج منا إلي تغيير منهجنا في الحياة، والإصرار علي روابطنا الحلوة مع الآخرين، خاصة إذا أثبتت الظروف الصعبة صلاحية العلاقة معهم، وأصعب ظروف في رأيي هي السفر خارج الوطن، والتعامل مع آخرين وتلك المساحات الواسعة للإفلات من قيود الجماعة، لقد أكسبتنا هذه الرحلة صداقة بدت قوية ثم جارت عليها الأيام، فذهبت صديقتنا الفلسطينية إلي عمان عاصمة الأردن لتعيش فيها وتكمل مرحلة أخري من العمر قبل كثير من الفلسطينيين واختفينا كل واحدة وراء الحياة، والعمل والأسرة، سنوات طويلة حتي تجدد اللقاء بلا موعد، ومن خلال مناسبة عامة هامة هي حضور أحد الأفلام المصرية المشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كان الزحام كبيراً، والندوة بعد الفيلم حافلة.. بجمهور كبير راح يحاور أسرة الفيلم، وحين انتهيت من هذا وجدت صديقتي التونسية علي الباب ومعها الزوج المصري والابنة التي أصبحت إنتاجاً مشتركاً بديعاً. تركتها طفلة بعد الرحلة والتقيتها شابة جميلة علي باب السينما، وكان معي النظير لها، ابني الذي كان أيضاً طفلاً وأصبح شاباً رائعاً، في لحظة واحدة أدركنا أننا لابد أن نتقابل، دعتنا لحضور احتفال تقيمه في رأس السنة، وافقنا، ونسينا الأمر، لكنها لم تنس، وأصرت، وذهبنا لنجد الصديقة الثالثة، أستاذة الجامعة المرموقة، ولنجد آخرين وأخريات، كان البيت في إحدي المدن الجديدة علي طريق شرق القاهرة، والمجموعة الحاضرة مختلفة الخلفيات والثقافات فبين المصريين والتوانسة كان يوجد الطرب. وبين هؤلاء والأجانب كانت هناك لغة تفاهم واستمتاع بموسيقي مختلفة، لكن برغم هذا الجمع، وقدرته علي الاستمتاع بلحظات من البهجة والصفاء كانت نخبة صغيرة منه سعيدة لأسباب لا يعرفها الجميع، وهي هذا اللقاء بعد فراق طويل. وهذه المشاعر التي ما زالت موجودة منذ سنوات لم تتغير برغم أن كل شيء تغير.. ومع ذلك، أو برغم ذلك، فإن هذا اللقاء الجديد ليس كافياً وحده لإحياء القديم، ربما يكون مقدمة أو تعبيراً عن رغبة حقيقية بداخل الجميع، لكن «القصدية» أمر مهم، والتخطيط للروابط الإنسانية موضوع غير تافه أو مرفوض، فالزمن يقتل كل شيء جميل إذا ما تركناه في الهواء الطلق بدون رعاية أو حماية، ومشاعرنا مثلها مثل صداقاتنا.. تحتاج إلي العناية بها وكأنها نبتة من النبات الذي نحبه وندافع عنه طول الوقت. إن هذه المشاعر والصداقات التي نصنعها طوال حياتنا هي التي تقوي جهاز المناعة لدينا لمواجهة الأيام الصعبة، وتوجد الصلة بين الماضي والحاضر فتبدد ما نشعر به أحياناً من غربة ووحدة في وطننا.. ومدينتنا.