تقود بشري مهمة النضال ضد التحرش علي الفضائيات، بهدف الدعاية لفيلمها الجديد «678»، إلا أن الحماس الذي تتحدث به يعطي للموضوع أكبر من حجمه، فالمجتمع لم ينفلت أخلاقيا بالصورة التي تحرص بشري علي افتعالها، وليس لدينا من وقائع التحرش غير حالتين، الأولي عندما تزاحم الجمهور حول الراقصة دينا في ظرف استثنائي أمام إحدي السينمات، والحالة الثانية وقعت في شارع جامعة الدول العربية، وما عدا ذلك هناك ميثاق أخلاقي يحكم الشارع المصري. وقد اندهشت كثيرًا من تنبيه بشري إلي أنها أصرت علي تقديم هذا الفيلم، لأنها تريد أن يكون هناك قانون يحمي المرأة، وأن السينما أداة فاعلة في المجتمع مثلما حدث مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة بفيلمها «أريد حلاً» والذي أدي إلي تغيير قانون الأحوال الشخصية، وكلام بشري يكشف بوضوح، أنها ليست علي دراية بأن هناك قانونًا رسميا معمولاً به لمكافحة التحرش الجنسي، وتصل العقوبة بمقتضاه إلي السجن لمدة عامين. ما الجدوي إذن من إثارة قضية جوفاء بلا طائل؟ وما هو الهدف من فيلم يجعلك تظن أن كل المجتمع يعاني من أزمة أخلاق؟ مع أن الشواهد تؤكد أن هذه الظاهرة شهدت نوعًا من النفخ الإعلامي في سياق الفيلم وابتعدت كثيرا عن جماليات الطرح السينمائي بل شابها الكثير من المغالطات، بدءًا من مشهد تعرض نيللي كريم لواقعة تحرش خلال مشاهدة كرة قدم وعبر الاحتفال بفوز مصر في الدورة الأفريقية وهو أمر لم يحدث مطلقًا علي أرض الواقع ولم تسجل الدوائر الرسمية ولا المدنية حالة تحرش واحدة خلال الاحتفالات بفوز مصر في الدورة الأفريقية. من الواضح أن الفيلم قد تم حشوه بعدد من الأحداث الاضافية ليكون فيلمًا روائيا طويلاً إلا أن ذلك جاء علي حساب منطقية الأحداث، واتساقها، وهذه هي اللعبة التي مارسها خالد دياب في كتابته للفيلم، فبعد أن عرض السيناريو علي بشري طلبت منه أن يحول فيلمه القصير عن التحرش إلي فيلم طويل مؤكدة علي عدة اعتبارات أولها الاهتمام بالخيوط التي تثير الرأي العام والثاني هو رسم دورها بشكل يلائم طبيعة أدائها التمثيلي، ومع امتلاكه لموهبة الكتابة الواعية والاحساس الذكي استطاع أن يصل بالفيلم إلي عدة أزمات درامية إلا أن توليه مهمة الاخراج لأول مرة أفسده الفيلم، وجعله يعاني من مشاكل كثيرة علي مستوي العمل السينمائي، فهو لا يمتلك خيال المخرج ولا رؤيته البصرية ليصنع فيلمًا يضاف إلي رصيد الشاشة البيضاء، وقد سعي لتعويض هذا النقص عن طريق الاهتمام بالجدل الإعلامي المباشر، فخلت المشاهد من العمق وبدت سطحية. فأنت لا تعرف خلال مشاهدة أحداث الفيلم أسباب قص نيللي كريم لشعرها، والسبب الذي أودي بحياة زوجة ماجد الكدواني خلال السياق، لأن المخرج غير قادر علي توظيف عناصر اللغة السينمائية بشكل صحيح، ويعاني من التشوش الفني، فمع بداية الفيلم يتضح أنه يقصد السلطة وتحرشها بالمواطن، ليقدم لنا صورة متهالكة للمجتمع، فهو يقدم لنا ثلاثة رجال مقابل ثلاث نساء بدءًا من أحمد الفيشاوي الإنسان السلبي المتخاذل وزوجته نيللي كريم وباسم السمرة الشخص المطحون في أعباء الحياة وضغوطها وزوجته بشري، وانتهاء بعمرو سعيد الذي لا يمتلك القدرة علي مواجهة أسرة خطيبته ناهد السباعي، وبدلاً من التفكير في أحوال المجتمع، ارتمي الفيلم في الجري وراء التحرش بشكل مباشر، مما قطع علي المشاهد الخيوط الأولي التي بدأ بها الفيلم. وأعتقد أن انتاج فيلم بهذا الصخب الإعلامي جاء لإرضاء ظمأ بشري للنجومية فهي تتعمد الدعاية لنفسها من خلال الدعاية للفيلم، صحيح أنها مثلت في الفيلم كما لم تمثل من قبل، إلا أن أعمالها السابقة علي الشاشة البيضاء لم تشهد ما يؤكد ثراء موهبتها من الناحية الفنية، فعبر اطلالة سريعة علي هذه الأعمال السينمائية، نجد أنها لم تصل إلي سقف النجاح، فمع أحمد السقا في فيلم «عن العشق والهوي» فشلت في أن تثبت نفسها خلال الأداء الرومانسي، كما أنها فعلت الشيء نفسه في فيلم «ويجا» حيث بدا أداؤها عاديا، ولم يكن مقنعًا، ولم تتقدم خطوة واحدة عندما جربت حظها في الأعمال الكوميدية من خلال فيلم «وش إجرام» مع محمد هنيدي ومع حمادة هلال في فيلم «العيال هربت».. فشلت في أن تستعرض كل امكاناتها، ثم بدأت في تولي مسئولية المنتج المنفذ لنشاهدها في فيلم رديء مع عمرو واكد تبرأ منه البطل بعد عرضه مباشرة. صحفية كويتية قامت في الندوة الخاصة بالفيلم في مهرجان دبي قائلة: هل وصل التحرش في الشارع المصري إلي الدرجة التي تتطلب أن يتم انتاج فيلم حولها؟ وكان سؤالاً مخجلاً، وضع أسرة الفيلم في ورطة لأن المشاهد خارج مصر لم يقتنع بالمبالغات التي ترددت علي لسان خالد دياب أو بشري، بينما أمسك خالد الكدواني بالعصا من المنتصف وأكد أن التحرش ليس بالدرجة التي تشكل ظاهرة إلا أن الفيلم يتعرض لها بوصفه نغمة سائدة علي المستوي العالمي. أعتقد أن هناك قضايا مصيرية تغفلها التجارب السينمائية لصالح الإثارة والفرقعة الإعلامية، فبعد أن هجرت السينما استلهام الأدب الروائي المصري أصبحت تقع في فخ الأفكار السطحية، دون الوصول بموضوعاتها إلي سقف الفن ووضوحه علي المستوي العالمي، فأبناء الجاليات المصرية في الخليج الذين شاهدوا الفيلم، كان لهم رد فعل سيئ جدًا، مؤكدين أن هناك فجوة بين صناع الفيلم وانتمائهم لمصر كوطن، لأن السينما هي المعادل الموضوعي للواقع وانتشال فكرة أو طبقة أو فئة وتعميمها علي مجتمع بأسره لا يتضمن نوايا طيبة، بل عمل الهدف منه تجاري في المقام الأول، وأكدوا لي أن أحداث الفيلم جعلت «رقاب المصريين في الخليج مثل السمسمة»، ولا يتقبل أحد أن يتم ذلك بهدف الفن، لأن «تايتانك» حصل علي جائزة الأوسكار دون أن يسدد الطعنات لمجتمعه، فمن الواضح أن هناك عدم التزام بالمسئولية من قبل الفنان تجاه قضاياه الوطنية والقومية، لأن القفز فوقها قد أصبح دليلاً علي تصدر المصالح الخاصة وتعاظمها. وإذا كانت بشري تري أن الشارع المصري قد زادت فيه جرائم التحرش فلتخبرنا بحالات الضبط والاعتداء التي تتعرض لها الفتيات إذا ما كانت تنجح في تسجيل هذه الوقائع التي لا ترصدها الدوائر الرسمية.