زمان.. كان هناك «عبيط القرية» وهو شخص مريض عقلياً بالفعل، وكانت القرية كلها تتعاطف معه لظروفه الخاصة.. حتي مع بعض معاكسات يطلقها الصغار تجاهه.. كان إذن حالة نادرة أو شاذة. منذ سنوات وفي بداية هجمة المحمول كان الشارع يتندر علي مواطن يتحدث دون رفيق.. كان الناس يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.. الراجل بيكلم نفسه، قبل أن يفطن البعض إلي أن للمحمول وصلة تتيح لحامله وضعه في جيبه واستمرار الحديث. زمان كانت الأمور عادية.. سهلة أو مريحة نوعاً.. بسيطة غالباً.. هادئة دائماً.. وكان بالقرية وربما المدينة عبيط واحد.. منذ سنوات تغيرت الأحوال.. وأصبح في كل شارع وربما عمارة مريض عصبي أو نفسياً وتحول الاكتئاب إلي «موضة»، وازدحم الطريق بمن يكلم بل ويتشاجر مع نفسه بعد الخناق مع الآخرين وعليك بمراقبة سلوك الناس أمام إشارة المرور مثلاً.. سوف تري عجباً.. الضوء أحمر يعني المرور وبسرعة مع شتيمة صاحب الحق دونما احترام لأي مبدأ أو عرف أو قانون أو سلوك سوي. ثم في الطابور الكل يصمم علي سرقة حق الغير.. بالقوة أو الرشوة أو الواسطة في صورة فساد مكشوف. الكثيرون يتكلمون مع ذواتهم.. مرة بسبب الزحام . وأخري بفعل الأسعار وثالثة بتأثير الثانوية العامة ورابعة بسيطرة المسلسلات أو مباريات الكرة، وأحياناً بسبب انقطاع التيار الكهربي أو التواصل الأسري أو الهم العام. ولم نعد نشير لأحدهم قائلين: لا حول ولا قوة إلا بالله.. حيث بتنا جميعاً نكلم أنفسنا.. وراقب حالك!!! الكثيرون يتحدثون مع أنفسهم طويلاً.. مع أنهم يصمتون تماماً بمجرد دخول المسكن أو مشاهدة الطلعة البهية الخاصة بأم العيال.. وكأنهم دلفوا إلي بيت الرعب، في حضرة الأخت ريا شقيقة سكينة وبطريقة تذكرك بالراحل عبد الحليم حافظ: الرفاق حائرون، يتساءلون.. من تكون.. حبيبتي من تكون؟! الكثيرون يكلمون أنفسهم.. ربما للأسباب سابقة الذكر.. لكن الجميع يكلم نفسه لسبب آخر مستحدث.. الفاتورة.. المصري الآن يسير في الطريق مردداً: الفاتورة نار.. نار الفاتورة.. ميه نور.. غاز صرف غير صحي.. أحمدك يارب، ويتساءل بصوت مسموع في المترو والترام والقطار، في الشارع والملعب والمصنع: ليه.. هو احنا بنشرب ميه ولا مياه غازية؟ ثم ايه مفردات الفاتورة دمغة، وضريبة مبيعات، وإيجار عداد، ومتابعة، وخلافه (أهم حاجة خلافه دي)، ليه كل ده؟ والرفاق سائرون.. ويتحول الشارع المصري إلي مجانين القرية.. أو مخابيل المدينة.. أو «معاتيه» البلد ( جمع مجنون ومخبول ومعتوه.. أعزكم الله يا شهداء الفاتورة) ، ويا ضحايا المحصل، وجاء ذلك مصداقاً لمقولة الأخ عماد فيومي: لقد دهستنا الفواتير (الأخ خبير هريسة اسكندراني!!). زمان قبل النت والموبايل كان البطل في الفيلم العربي يمسك بوردة ينزع أوراقها مرددًا: «بتحبني.. لأ ما بتحبنيش».. الآن يدق الباب.. فيردد المواطن المطحون وبيده المرتب: ميه.. لأ كهرباء» «قرايه.. لأ.. تحصيل» وهكذا حتي آخر جنيه في جيبه المثقوب، باعتبار أن أسوأ «رنة» جرس باب شقة.. مقدمة لأسوأ زائر غير مرغوب فيه: محصل الشركة.. هذا وقد أضيف للقائمة زائر مستحدث: محصل الحي أو البلدية.. أو العوايد.. (كلها أسماء محببة شاعرية ولطيفة علي أي حال) صحيح يا سادة.. المواطن تحول إلي فريسة تتقاسمها الفواتير الحكومية.. وكأن ما يعانيه من جهات أخري لا يكفي: كأن الدروس والأمراض والبطالة والعنوسة والعشوائيات والتلوث وغيرها.. لا تكفي ومن ثم وجب التكرم بتسلية ذلك المطحون بزوار كلهم كرم وعطف وحنان يقولون لك بكل حب: «احنا عبدالمأمور.. لا مانع من البقشيش يا مواطن» وكلها ملاليم يا أسطي (لأ... هم يقولون بالنص: يا باشا.. هنا فقط المواطن تحول إلي باشا). وتزدحم الشوارع بالمحادثات.. كل واحد بيكلم نفسه، ياخد ويدّي.. قصدي يدّي ويدّي مع نفسه حيث إنه يأخذ فقط إيصال الدفع.. الفاتورة.. ليس إلا. مرة أخري استأذنكم كي افتح الباب لمحصل الكهربا، بعدها أتصل بالأخ الدكتور أحمد عكاشة.